Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 53-53)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" الكاف " في مَحَلِّ نَصبٍ على أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف ، والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون المتقدم الذي فُهِمَ من سياقِ أخبار الأمم الماضية فتنَّا بعضَ هذه الأمَّةِ بِبَعْضٍ ، فالإشَارَةُ بذلك إلى الفُتُونِ المَدْلُولِ عليه بقوله : " فَتَنَّا " ، ولذلك قال الزمخشري : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناسِ ببعضٍ فجعل الإشارة لِمصدَرِ فَتَنَّا . وانظر كيف لم يَتَلَّفَظْ هو بإسناد الفِتْنَةِ إلى اللَّهِ - تعالى - في كلامِهِ ، وإن كان البارئ - تعالى - قد أسْنَدَها ، بل قال : فتن بعض الناس فَبَناهُ للمفعُول على قَاعِدةِ المعتزلة . وجعل ابن عطية الإشارة إلى طلب الطَّرْدِ ، فإنه قال بعد كلام يتعلٌّق بالتفسير : " والإشارة بذلك إلى ما ذُكِرَ من طلبهِمْ أن يطرد الضَّعفَةَ " . قال أبُو حيَّان : ولا ينتظم هذا التَّشْبيه ؛ إذ يصير التقدير : مثل طلب الطرد فَتَنَّا بعضهم ببعض والمَتَبَادَرُ إلى الذِّهْنِ من قولك : " ضربتُ مثل ذلك " المُمَاثَلَةُ في الضرب ، أي : مثل ذلك الضرب لا أن تَقَعَ المُمَاثَلَةُ في غير الضَّرْبِ ، وقد تقدَّم مِرَاراً أن سيبويه يجعل مثل ذلك حالاً من ضمير المَصْدَرِ المقدر . قوله : " لِيَقُولُوا " في هذه " اللام " وجهان : أظهرهما : - وعليه أكثر المعربين والمُفسِّرين - أنها لام " كي " ، والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابْتِلاءً مَنَّا وامْتِحَاناً . والثاني : أنها " لام " الصَّيْرُورَةِ أي : العاقبة كقوله : [ الوافر ] @ 2181 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ … @@ { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } [ القصص : 8 ] ، ويكون قولهم " أهُؤلاء " إلى آخره صادراً على سبيل الاسْتِخْفَافِ . قوله : " أهَؤلاءِ " يجوز فيه وجهان : أظهرهما : أنه منصوب المَحَلِّ على الاشْتِغَالِ بفعلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الفعل الظاهر ، العاملُ في ضميره بِوَساطَةِ " على " ، ويكون المفسِّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، والتقدير : أفَضَّلَ الله هؤلاء مَنَّ عليهم ، أو اختار هؤلاء مَنَّ عليهم ، ولا مَحَلَّ لقوله : " مَنَّ اللَّهُ عليهم " لكونها مُفَسّرة ، وإنِّما رجَّحَ هنا إضمار الفعل ؛ لأنه وقع بعد أداةٍ يغلبُ إيلاءُ الفعلِ لها . والثاني : أنه مرفوع المَحَلّ على أنه مبتدأ ، والخبر : مَنَّ اللَّهُ عليهم ، وهذا وإن كان سَالِماً من الإضْمَارِ الموجود في الوجه الذي قبله ، إلاَّ أنه مَرْجوحٌ لما تقدَّم ، و " عليهم " مُتعلِّقٌ بـ " مَنَّ " . و " من بَيْنِنَا " يجوز أن يتعلَّق به أيضاً . قال أبو البقاء : " أي مَيَّزَهُمْ عَلَيْنَا ، ويجوز أن يكون حالاً " . قال أبو البقاء أيضاً : أي : مَنَّ عليهم منفردين ، وهذان التفسيران تفسيرا مَعْنَى لا تفسيرا إعراب ، إلاَّ أنه لم يَسُقْهُمَا إلاَّ تَفْسِيرَيْ إعراب . والجملة من قوله : " أهؤلاءِ مَنَّ اللِّهُ " في محلِّ نصبٍ بالقولِ . وقوله : " بأعْلَمَ بالشَّاكرين " الفرقُ بين الباءين أن الأولى لا تعلُّق لها لكونها زَائِدة في خبر " ليس " ، والثانية متعلّقة بـ " أعلم " وتعدِّي العلم بها لِمَا ضُمِّن من معنى الإحاطَةِ ، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارةِ العلماء ، فيقولون : علم بكذا والعلم بكذا لما تقدَّم . فصل في تحرير معنى الفتنة في الآية معنى هذه الفِتْنَةِ أن كُلَّ واحد من الفريقين مُبْتَلًى بصاحبه ، فرُؤسَاءُ الكُفَّارِ الأغنياء كانوا يَحْسُدُونَ فُقْرَاءَ الصحابة على كونهم سابقين للإسلام مُسَارعينَ إلى قَبُولِهِ ، فقالوا : ولو دخلنا في الإسلام لوجب عَلَيْنَا أن نَتْقَادَ لهؤلاء الفقراء المساكين ، وأن نعترف لهم بالتَّبَعِيَّةِ ، فكأن ذلك يَشُقُّ عليهم ، ونظيره : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . وأمَّا فُقراءُ الصحابة فكانوا يَرَوْنَ أولئك الكُفَّارَ في الرَّاحَاتِ والمَسَّراتِ والطَّيبات والخصب والسَّعَةِ ، فكانوا يقولون : كيف حَصَلَتْ هذه الأحوال لهؤلاء الكُفَّار مع أنَّا بَقِينَا في [ هذه ] الشدّة والضِّيقِ ، فقال تعالى : { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم } فأحد الفريقين يرى الآخر مقدماً [ عليه ] في المناصبِ الدينية ، ويقولون : أهذا الذي فَضَّلَهُ الله علينا ؟ وأمَّا المحققون فهم الذين يَعْلَمُونَ أن كُلَّ ما فعله اللَّهُ - تعالى - فهو حَقٌ وحكمةٌ وصوابٌ ولا اعتراض عليه ، إمَّا بحكم الملكية كما هو قول أهل السُّنَّةِ , وإمَّا بحسبِ المصلحة كما هو قول المعتزلة فكانوا صَابِرينَ في وقت البلاءِ ، شاكرين في وقت الآلاءِ والنَّعْماءِ وهم الذين قال الله في حقِّهم : { ألَيْسَ اللَهُ بأعْلَمَ بالشَّاكرينَ } . فصل " روى أبُو سعيدٍ الخُدرِيُّ قال : جَلَسْتُ في نَفَرٍ من ضُعَفَاءِ المهاجرين ، وإن بعضهم لَيَسْتَتِرُ من بعضٍ من العُرْي ، وقَارِئ يقرأُ عَلَيْنَا ، إذ جاء رسوله الله صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عَلَيْنا فلما قامَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم سكت القَارِئُ ، فَسَلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما كُنتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قلنا : يا رسول الله : كان قارئ يقرأ وكُنَّا نَسْتَمِعُ إلى كتاب الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل مِنْ أمَّتِي مَنْ أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ " ، قال : ثُمَّ جلس وَسَطَنَا ليعدل بنفسه فينا ، ثم قال بيده هكذا فَتَحلَّقُوا ، وبرزت وُجُوهُهُمْ لهُ قال : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرفَ منهم أحداً غيري . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبْشِرُوا يا مَعْشَرَ صَعَالِيك المُهاجِرينَ بالنُّور التَّام يَوْمَ القِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الجنَّةَ قَبْلَ الأغْنِيَاء بنِصْفِ يَوْمٍ ، وذلِكَ مِقْدارُ خِمْسِمائَةِ سَنَةٍ " " . فصل في بيان الدلالة من الآية احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على مَسْألةٍ خَلْقِ الأفعال من وجهين : الأول : أن قوله : { فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْض } تصريح بأنَّ إلقاء تلك الفِتْنَةِ من اللَّهِ تعالى ، والمُرَادُ من تلك الفِتْنَةِ ليس إلاَّ اعْتِرَاضُهُمْ على الله في أنْ جعل أولئك الفقراء رُؤسَاء في الدِّين ، والاعْتِراضُ على الله كُفْرٌ ، وذلك يَدُلُّ على أنَّه - تعالى - هو الخالقُ للكُفْرِ . والثاني : أنه - تعالى - حكى عنهم أنهم قالوا : " أهؤلاء منَّ اللَّهُ عليهم من بَيْنِنَا " أي : منَّ عليهم بالإيمان باللَّهِ ، ومتابعة الرسول ، وذلك يدُلُّ على أن هذا المَعْنَى إنما حَصَلَ من الله تعالى ؛ لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد فالله ما مَنَّ عليه بهذا الإيمانِ ، بل العَبْدُ هو الذي منَّ على نَفْسِهِ بهذا الإيمان . أجاب الجبائي عنه بأن الفِتْنَةَ في التَّكْلِيفِ ما توجب التَّشديدَ وإنما فعلنا ذلك ليقولوا : أهؤلاء أي : ليقول بَعْضُهمْ لبَعْضٍ اسْتِفْهَاماً لا إنْكَاراً [ أهؤلاء ] منَّ الله عليهم من بَيْننَا بالإيمان أجاب الكعبي عَنْهُ بأن قال : " وكذلك فَتَنَّا بعضهم ببعض ليصبروا أو ليشكروا ، فكان عَاقِبَةُ أمرهم أن قالوا : أهؤلاء مَنَّ اللَّهُ عليهم من بَيْنِنَا " على مثاله قوله تعالى : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . والجواب عن الوجهين أنه عُدُولٌ عن الظاهر من غير دليل ، والدليل العَقْلِيُّ قائم على صِحَّةِ هذا الظاهر ؛ لأنه لمَّا كانت مُشاهَدَةُ هذه الأحْوالِ تُوجِبُ الأنَفَةَ ، والأنَفَةُ توجبُ العصيان والإصْرارَ على الكُفْرِ ، وموجبُ الموجب مُوجبٌ ، فكان الإلزامُ وَارِداً ، واللَّهُ أعلم .