Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 74-74)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه - تعالى - يَحْتَجُّ كثيراً على مشركي العرب بأحوال إبراهيم - عليه السلام - وذلك لأنه رَجُلٌ يَعْتَرفُ بِفَضْلِهِ جميع الطوائف والملل ، فالمشركون كانوا معترفين بفضله ، مُتَشَرِّفين بأنهم من أولاده ، وسائر الملل تعظمه ، فلهذا السبب ذكر الله حالُه في معرض الاحتجاج ، والسبب في حصول هذه المرتبة العظيمة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنّه سلَّمَ قلبه للعرفان , ولسانهُ للبرهان ، وبَدنَهُ للنيران ، وولدَهُ للقربان ، ومَالهُ للضِّيفانِ . أما تسليم قلبه للعرفان ، فهو قوله : { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ البقرة : 131 ] . وأما تسليم لسانه للبرهان : فَمُنَاظَرتُهُ مع نمرود ، حيث قال : { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ومناظرته مع الكفار بالفعل حين كسَّر أصنامهم ، وجعلها جُذَاذاً ، وقوله بعد ذلك : { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ } [ الأنبياء : 66 ] . وأما تسليم بدنه للنيران : فحين ألْقِيَ فيها . وأما تسليم ولده لِلْقُربانِ : فحين أمر بذبح ولده " فَتَلَّهُ للجَبِينِ " . وأما تسليم ماله للضيفان : فمشهورة . قوله : " وإذ قال " " إذ " منصوب بفعل محذوف ، أي : اذكر ، وهو معطوف على " أقيموا " : قاله أبو البقاء ، وقال : في محل خَفْضٍ بالظرف . قوله : " آزَرَ " الجمهور على " آزرَ " بزنة " آدم " ، مفتوح الزاي والراء ، وإعرابه حينئذ على أوجه : أحدها : أنه بدلٌ من أبيه ، أو عطف بيان له إن كان آزر لَقَباً له ، وإن كان صفة له بمعنى المخطئ [ كما قال الزجاج ] أو المعوج كما قاله الفراء ، وسليمان التيمي ، أو الشيخ الهرم كما قاله الضحاك فيكون نعتاً لـ " أبيه " ، أو حالاً منه بمعنى : وهو في حال اعْوِجَاج أو خطأ ، وينسب للزجاج . وإن قيل : إن " آزر " كان اسم صنم كان أبوه يعبده ، كما قاله سعيد بن المسيب ومجاهد ، فيكون إذ ذاك عطف بيان لـ " أبيه " أو بدلاً منه ، ووجه ذلك أنه لما لازم عبادته نُبِزَ به وصار لقباً له كما قال بعض المحدثين : [ البسيط ] @ 2208 - أدْعَى بِأسْمَاءَ نَبْزاً فِي قَبَائِلِهَا كَأنَّ أسْمَاءَ أضْحتْ بَعْضَ أسمَائِي @@ كذا نَسَبَهُ الزمخشري إلى بعض المحدثين ، ونسبه أبو حيان لبعض النحويين . قال الزمخشري : " كما نبز ابن قيس بـ " الرقيات " [ اللاتي كان يُشبِّبُ بهن فقيل : ابن قيس الرُّقَيَّات " ] أو يكون على حذف مضاف ، أي لـ " أبيه " عابد آزر ، ثم حذف المضاف , وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ ، وعلى هذا فيكون عابد صفة لـ " أبيه " أعْرِبَ هذا بإعرابه ، أو يكون منصوباً على الذَّمِّ . و " آزر " ممنوع من الصرف ، واختلف في عِلِّةِ منعه ، فقال الزمخشري : والأقرب أن يكون وزن " آزر " " فاعل " كـ " عابر " و " شالخ " و " فالغ " فعلى هذا هو ممنوع للعلميّة والعُجْمَةِ . وقال أبو البقاء : ووزنه " أفعل " ولم ينصرف للعُجْمَةِ ، والتعريف على قول من لم يشتقه من الأزر أو الوزر ، ومن اشْتَقَّهُ من واحد منهما قال : هو عربي , ولم يصرفه للتعريف ، ووزن الفعل ، وهذا الخلاف يشبه الخلاف في " آدم " وقد تقدَّم أن اختيار الزمخشري فيه أنه " فاعل " كـ " عابر " ومن جرى على ذلك ، وإذا قلنا بكونه صِفَةً على ما قاله الزَّجَّاجُ بمعنى المخطئ ، أو بمعنى المعوج ، أو بمعنى الهرم ، كما قاله الفراء والضحاك ، فيشكل مَنْعُ صرفه ، وسيشكل أيضاً وقوعه صِفَةً للمعرفة . وقد يُجَابُ عن الأول بأن الإشكال قد يندفع بادِّعاءِ وزنه على " أفعل " ، فيمتنع حينئذ للوزن والصفة كـ " أحمر " وبابه ، وأما على قول الزمخشري فلا يَتَمَشَّى ذلك . وعن الثاني : بأنا لا نُسَلِّمُ أنه نَعْتٌ لأبيه ، حتى يلزم وصف المعارف بالنكرات ، بل هو منصوب على الذَّمِّ ، أو على نِيَّةِ الألف واللام قالهما الزجاج . والثاني ضعيف ؛ لأنه حَذَفَ " أل " وأراد معناها ؛ إما أن يؤثّر منع الصرف كما في " سحر " ليوم بعينه ، ويسمى عدلاً ؛ وإما أن يؤثِّر بناءً ويسمى تَضَمناً كـ " أمس " وفي " سحر " و " أمس " كلام طويل ، ولا يمكن أن يقال : إن " آزر " امتنع من الصرف كما امتنع " سحر " أي للعدل عن " أل " ؛ لأن العدلَ يمنع فيه مع التعريف ، فإنه لوقت بعينه ، بخلاف هذا فإنه وصف كما فرضتم . وقرا أبَيُّ بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، ويعقوب في آخرين بضم الراء على أنه منادى حذف حرف ندائه كقوله تعالى : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } [ يوسف : 29 ] أو كقوله : [ الطويل ] @ 2209 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ … @@ في أحد الوجهين ، أي يا يزيد ، ويُؤيِّدُهُ ما في مصحف أبيّ : " يا آزر " بإثبات حرفه ، وهذا إنما يَتَمَشَّى على دعوى أنه عَلَمٌ ، وإما على دعوى وَصْفِيَّتِهِ فضعيف ؛ لأن حذف حرف النداء يقل فيها كقولهم : [ الخفيف ] @ 2210 - افْتَدِ مَعْتُوقُ وصَاحِ شَمِّرْ … @@ وقرأ ابن عباس في رواية " أأزْراً " بهمزتين مفتوحتين [ وزاي ساكنة ] وراء منونه منصوبة ، و " تتخذ " بدون همزة استفهام ، ولما حكى الزمخشري هذه القراءة لم يسقط همزة الاستفهام من " أتتخذ " فأما على القراءة الأولى ، فقال ابن عطية مُفَسِّراُ لمعناها : " أعَضُداً وقُوَّةً ومُظَاهرةً على الله تتَّخذ " ، وهو من قوله : { ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } [ طه : 31 ] انتهى . وعلى هذا فيحتمل " آزراً " أن ينتصب من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه مَفْعُولٌ من أجله و " أصناماً آلهة " منصوب بـ " تتخذ " على ما سيأتي بيانه ، والمعنى : أتتخذ أصْنَاماً آلهة لأجل القوة والمُظَاهرة . والثاني : أنه ينتصب على الحال ؛ لأنها في الأصْلِ صفة لـ " أصنافاً " فلما قُدِّمَتْ عليها ، وعلى عاملها انتصبت على الحال . والثالث : أن يتصب على أنه مفعول ثانٍ قُدِّم على عامله ، والأصل : أتتخذ أصناماً آلهة آزراً ، أي قوة ومُظَاهرةٍ . وأما القراءة الثَّانية فقال الزمخشري : وهو اسم صَنَمٍ ، ومعناه أتعبد آزراً على الإنكار ، ثم قال : تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً ، وهو داخل في حكم الإنكار ؛ لأنه كالبيانِ له ، فعلى هذا " آزراً " منصوب بفعل محذوف يَدُلُّ عليه المعنى ، ولكن قوله : " وهو داخل في حكم الإنكار " يقوي أنه لم يقرأ " أتتخذ " بهمزة الاستفهام ؛ لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاًّ بالإنكار ، ولم يحتج أن يقول : هو داخل في حكم الإنكار ، لأنه كالبيان له . وقرأ ابن عبَّاسٍ أيضاً وأبو إسماعيل " أإزراً " بهمزة استفهام بعدها همزة مكسورة ، ونصب الراء منونة ، فجعلها ابن عطيَّة بدلاً من واو اشتقاقاً من الوزر كـ " إسادة " و " إشاح " في : " وسادة " و " وشاح " . وقال أبو البقاءِ : وفيه وجهان : أحدهما : أنَّ الهمزة الثانية فاء الكلمة ، وليست بَدَلاً من شيء , ومعناها الثقل وجعله الزمخشري اسم صَنَمٍ ، والكلام فيه كالكلام في " أزراً " المفتوح الهمزة وقد تقدم . وقر الأعمش : " إزْراً تَتَّخِذُ " بدون همزة استفهام ، ولكن بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء منونة ، ونصبه واضح مما تقدَّم ، و " تَتَّخِذُ " يحتمل أن تكون المتعدية لاثنين بمعنى التَّصْييريَّةِ ، وأن تكون المتعدية لواحد ؛ لأنها بمعنى " عمل " ، ويحكى في التفسير أنَّ أباه كان ينحتها ويصنعها ، والجملة الاستفهامية في مَحَلِّ نصب بالقول ، وكذلك قوله : " إنِّي اراك " و " أراك " يحتمل أن تكون العلمية ، وهو الظَّاهر فتتعدى لاثنين ، وأن تكون بَصَريَّة ، وليس بذاك فـ " في ضلال " حالٌ ، وعلى كلا التقديرين يتعلق بمحذوف ، إلاَّ أنه في الأوَّل أحد جزئي الكلام ، وفي الثَّاني فَضْلَةٌ . " مُبِين " اسم فاعل من " أبان " [ لازماً ] بمعنى ظَهَرَ ، ويجوز أن يكون من المُتَعدِّي , والمفعول محذوف ، أي : مبين كفركم بخالقكم ، وعلى هذا فقول ابن عطية ليس بالفعل المُتعدِّي المنقول من بان يبين غير مسلم ، وجعل الضلال ظرفاً محيطاً بهم مبالغة في اتِّصِافِهِمْ به ، فهو أبلغ من قوله : " أرَاكُمْ ضَالِّينَ " . فصل في اختلاف المفسرين حول " آزر " قال محمد بن إسحاق ، والضحاك ، والكلبي : آزر اسم أبي إبراهيم عليه السلام وهو تارح أيضاً مثل إسرائيل ويعقوب ، وكان من " كوثى " قرية من سواد " الكوفة " وقال مقاتل بن حيان وغيره : آزر لقب لأبي إبراهيم واسمه تارح . وقال سليمان التيمي هو سَبُّ وعيب ، ومعناه في كلامهم المعوج . وقيل : معناه الشيخ الهرم بالخوارزمية والفارسية أيضاً وهذان الوجهان مبنيان على من يقول : إن في القرآن ألفاظاً قليلة غير عربية . وقال سعيد بن المسيب ، ومجاهد : آزر صنم ، وإنما سمي والد إبراهيم به لوجهين : أحدهما : أنه جعل نفسه مُختَصاً بعبادته ، ومن بالغ في مَحَبَّةِ أحد ، فقد يُجْعَلُ اسم المحبوب اسماً للمحب ؛ قال تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] . الثاني : أن يكون المراد عابد آزر ، فحذف المضاف ، وأضيف المضاف إليه مُقَامَهُ . وقيل : إن والد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان اسمه تارح ، وكان آزر عمَّا له ، والعم قد يُطْلَقُ عليه لفظ الأب ، كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب : { نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] . ومعلوم أن إسماعيل كان عمَّا ليعقوب ، وقال عليه الصلاة والسلام " رُدُّوا عَلَيَّ أبي العبَّاسَ " فكذا هاهنا . قال ابن الخطيب : وهذه التَّكالِيفُ إنما يجب المَصِيرُ إليها إذا دَلَّ قَاهِرٌ على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر ، وهذا الدليل لم يوجد ألبتة ، فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات ؟ ومما يَدُلُّ على صِحَّةِ ما قلنا أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحِرْصِ على تكذيب الرسول وإظهار النسب . فصل في دحض شبهة للشيعة قالت الشيعة : إن أحَداً من آباء الرسول وأجْدَادِهِ ما كان كافراً ، وأنكروا كون والد إبراهيم كافراً ، وقالوا : إن آزر كان عَمَّ إبراهيم ، واحتجوا بوجوه : الأوَّل : أن آباء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما كانوا كُفَّاراً لوجوه : أحدها : قوله تعالى : { وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِين } [ الشعراء : 219 ] . قيل : معناه أنه كان ينتقل روحه من ساجد إلى ساجد فَدَلَّت الآية على أن آباء محمد - عليه السلام - كانوا مسلمين . وحينئذ يجب القَطْعُ بأن والد إبراهيم كان مسلماً . فإن قيل : قوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِين } [ الشعراء : 219 ] يحتمل وجوهاً : منها : أنه لما نُسِخَ فَرْضُ قيام الليل طَافَ الرسول تلك الليلة على بُيُوتِ أصحابه لينظر ماذا [ يصنعون لشدة ] حرصه على ما يظهر منهم من الطَّاعاتِ ، فوجدها كَبُيُوتِ الزَّنَابير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتَهْليلهم ، فيحتمل أن يكون المراد من تقلبه في الساجدين طَوَافَهُ في تلك الليلة [ على الساجدين ] ويحتمل أن يكون المراد صلاته بالجماعة ، واختلاطه بهم حال الصَّلاةِ . ويحتمل أن يكون المراد تَقَلُّبَ بَصَرِهِ فيمن يُصَلِّي خلفه لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام " أتِمُّوا الرُّكُوعَ والسُّجود فَإنِّي أرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي " . ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يخفى حالك على الله - تعالى - كلما أقمت وتقلبت في الساجدين في الاشتغال بأمور الدين . وإذا احتمل ظَاهِرُ الآية هذه الوجوه سقط ما ذكرتم . فالجواب : لفظ الآية يحتمل الكُلِّ ، ويحصل المقصود حينئذ ، لأن حَمْلَ ظاهر الآية على البَعْضِ ليس بأوْلَى من البَعْضِ ومما يَدُلُّ على أن أحداً من آباء محمد عليه الصلاة والسلام ما كانوا مُشْرِكينَ قوله عليه الصلاة والسلام : " لَمْ أزَل أُنْقَلُ مِنْ أصْلابِ الطَّاهرينَ إلى أرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ " وقال تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] فوجب القول بأن أحداً من أجداده ما كان مشركاً ، فوجب القَطْعُ بأن والد إبراهيم كان إنْساناً آخر غير آزر . الحُجَّةُ الثانية : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام شَافَهَهُ بالغِلْظَةِ والجَفَاءِ ، ومُشَافَهَةُ الأب بذلك لا يجوز ، أما مشافهته بالجَفَاءِ والغِلْظَةِ فمن وجهين : أحدهما : على قراءة الضم يكون محمولاً على النداء , ونداء الأب بالاسم الأصْلِيّ من أعظم أنواع الإيذاء . وثانيهما : إذا قلنا بأنه المعوج أو المخطئ أو اسم الصَّنم . فتسميته له بذلك من أعْظَمِ أنواع الإيذاء له ، وإنما قلنا : إن مشافهة الآباء بالجَفَاءِ والغِلْظَةِ لا تجوز لقوله تعالى : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقال تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [ الإسراء : 23 ] وهذا عام في حَقِّ الأب الكافر والمسلم . وأيضاً فلأمره - تعالى - موسى عليه الصلاة والسلام حين بعثه إلى فرعون [ بالرِّفق مَعَهُ فقال تعالى : ] { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه : 44 ] وذلك لرعاية حَقِّ تَرْبِيَةِ فرعون لموسى فالوالد أوْلَى بالرِّفْقِ . وأيضاً فالدعوة مع الرِّفْقِ أكثر تأثيراً في القَلْبِ ، وأما التغليظ فإنه يوجب التَّنْفيرَ والبُعْدَ عن القَبُولِ ؛ قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَن } [ النحل : 125 ] فكيف يليق بإبراهيم مثل هذه الخُشُونة مع أبيه . وأيضاً قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } [ هود : 75 ] فكيف يليق بالرَّجُلِ الحليم مثل هذا الجفاءِ مع الأب . الحجة الثالثة : قوله عليه الصلاة والسلام : " رُدُّوا عَلَيَّ أبِي العبَّاسَ " يعني عمه . الحجة الرابعة : يحتمل أن آزر كان والدَ أم إبراهيم وقد يقال له : الأب ؛ قال تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } [ الأنعام : 84 ] إلى قوله : { وَعِيسَى } [ الأنعام : 85 ] فجعل عيسى من ذُرِّيَّةِ إبراهيم ، مع أن إبراهيم كان جَدَّ عيسى من قبل الأم . و " قال عليه الصلاة والسلام في حق الحسن إنَّ ابْنِي هذا " فثبت بهذه الوجوه ان " آزر " ما كان والد إبراهيم . والجواب عن الأوَّل أن نَصَّ الكتاب يَدُلُّ على أن آزر كان كافراً وأنه والد إبراهيم ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] . وأما قوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ } [ الشعراء : 219 ] فقد تقدم أنه يحتمل وجوهاً . وقولهم : " وتُحْمَلُ الآية على الكل " فنقول : هذا مُحَال ؛ لأن حَمْلَ اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز ، وأيضاً حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معاً لا يجوز ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : " لَمْ أزَل أُنْقَل مِنْ أصْلابِ الطَّاهِرِينَ إلى أرحَامِ الطَّاهراتِ " . فذلك مَحْمُولٌ عل أنه [ ما وقع في نَسَبِه ] ما كان سِفَاحاً ، كما وَرَد في حديث آخر " وُلِدْتُ مِنْ نكاحٍ لا مِنْ سفاحٍ " . وأما قوله : التغليظ مع الأب لا يليق بإبراهيم قلت : إنما أغْلَظَ عليه لأجل إصْرَارِهِ على الكُفْرِ ، وإلاَّ فهو أول ما رفق به في المُخاطَبةِ ، كما ذكر في سورة " مَرْيَمَ " { يَٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي } [ الآية : 43 ] { يَٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } [ مريم : 44 ] { يَٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } [ مريم : 45 ] وهذا غاية اللُّطْفِ والرِّفْقِ ، فحين أصرَّ على كُفْرِهِ اسْتَحقَّ التغليظ ، وقال : { يَٰإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } [ مريم : 46 ] . فصل في تحرير معنى " الصنم " والصَّنَمُ لُغَةً : كل جُثَةٍ صُوِّرَتْ من نُحَاسٍ أو فضَّةٍ وعُبِدَتْ مُتقرِّباً بها إلى اللَّهِ وقيل : ما اتُّخِذَ من صُفْرٍ ورِمُث ونحاس وحجر ونحوها فَصَنَمٌ ، وما اتخذ من خَشبٍ فوثَنٌ وقيل بل هما بمعنى واحد . وقيل : الصَّنَمُ معرب من شمن ، والصَّنم أيضاً العَبْدُ القوي ، وهو أيضاً خبيث الرائحة ، ويقال : صنم أي صور ، ويضرب به المَثَلُ في الحُسْنِ وقال : [ السريع ] @ 2211 - مَا دُمْيَةٌ مِنْ مَرْمَرٍ صُوِّرَتْ أوْ ظَبْيةٌ في خَمَرٍ عَاطِفُ أحْسَنَ مِنْهَا يَوْمَ قَالَتْ لَنَا والدَّمْعُ مِنْ مُقْلَتِها وَاكِفُ لأنْتَ أحْلَى مِنْ لَذيذِ الكَرَى ومِنْ أمَانٍ نَالَهُ خَائِفُ @@ وقال ابن الأثير : الصَّنَمُ كُلُّ معبود من دون الله تعالى . وقيل : ما كان له جسم أو صورة فهو صنم ، وما لم يكن له جِسْمٌ أو صورة فهو وَثَنٌ وشمن .