Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 73-73)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لمَّا بيَّن في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبادة الأصنام ذكر هاهنا ما يدل على أنْ لا معبود إلاَّ الله ، وذكرها هاهنا أنواعاً من الدلائل : أحدها : قوله : { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } تقدم أول السورة . وقوله : " بالحق " قيل : الباء بمعنى اللام ، أي إظهار للحق ؛ لأنه جعل صُنْعَهُ دليلاً على وحدانيته ، فهو نظير قوله : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } [ آل عمران : 191 ] ، وقوله : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] . وثانيها : قوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ } في " يوم " ثمانية أوجه : أحدهما : - وهو قول الزَّجَّاج - أنه مفعول به لا ظرْفٌ ، وهو معطوف على الهاء في " اتقوه " أي : واتقوا يوماً أي : عقاب يوم يقول ، أو هوله أو فزعه ، فهو كقوله تعالى في موضع آخر : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [ البقرة : 48 ] على المشهور في إعرابه . والثاني : أنه مفعول به أيضاً ، ولكنه نَسَقٌ على السموات والأرض ، أي : وهو الذي خَلَقَ يوم يقول . الثالث : أنه مفعول لـ " اذكر " مقدراً . الرابع : أنه منصوب بعامل مقدر ، وذلك العامل المُقّدَّرُ مفعول فعل مقدر أيضاً ، والتقدير : واذكروا الإعادة يوم يقول : كن ، أي يوم يقول الله للأجساد : كوني مُعَادَةً . الخامس : أنه عَطْفٌ على موضع قوله : " بالحق " فإن موضعه نَصْبٌ ، ويكون " يقول " بمعنى قال ماضياً , كأنه قيل : وهو اذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها : كن . السادس : أن يكون " يوم يقول : كن فيكون ، وإليه نحا الزمخشري ، فإنه قال : " قوله الحق " مبتدأ ، و " يوم يقول " خبره مقدماً عليه ، وانْتِصَابُهُ بمعنى الاستقرار ، كقولك : " يوم الجمعة القتال " واليوم بمعنى الحينِ ، والمعنى : أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحكم ، وحين يقول لشيء من الأشياء : كن فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة . فإن قيل : قول الله حَقّ في كل وقت ، فما الفائدةُ في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين ؟ فالجواب : لأن هذا اليوم لا يَظْهَرُ فيه من أحَدٍ نَفْعٌ ولا ضر ، كما قال تعالى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] فلهذا السبب حَسُنَ هذا التخصيص . السابع : أنه مَنْصُوبٌ على الظرف ، والناصب له معنى الجملة التي هي " قوله الحق " أي : حق قوله في يوم يقول : كن . الثامن : أنه مَنْصُوبٌ بمحذوف دلَّ عليه بالحق . قال الزمخشري : وانْتِصَابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله : " بالحق " ، كأنه قيل : " وحين يكون ويقدر يقوم بالحق " قال أبو حيان : " وهذا إعراب مُتَكَلَّفٌ " . قوله : " فيكون " هي هنا تامَّةٌ ، وكذلك قوله : " كُنْ " فتكتفي هنا بمرفوع ، ولا تحتاج إلى منصوب ، وفي فاعلها أربعة أوجه : أحدها : أنه ضمير جميع ما يخلقه الله - تعالى - يوم القيامة ، كذا قَيَّدَهُ أبو البقاء بيوم القيامة . وقال مكي : " وقيل : تقدير المضمر في " فيكون " جميع ما أراد " ، فأطلق ولم يُقَيِّدْهُ وهذا أوْلَى وكأن أبا البقاء أخذ ذلك من قرينة الحال . الثاني : أنه ضمير الصُّور المنفوخ فيها ، ودَلَّ عليه قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ } [ طه : 102 ] . الثالث : هو ضمير اليوم ؛ أي : فيكون ذلك اليوم العظيم . الرابع : أن الفاعل هو " قوله " و " الحق " صفته ؛ أي : فيوجد قوله الحق ، ويكون الكلام على هذا تامَّا على " الحق " . قوله " قولهُ الحَقُّ " فيه أربعة أوجه : أحدها : أنه مبتدأ ، و " الحق " نعته ، وخبره قوله : " يوم يقول " . والثاني : أنه فاعلٌ لقوله : " فيكون " و " الحق " نعته أيضاً ، وقد تقدَّم هذان الوجهان . الثالث : أن " قوله " مبتدأ ، و " الحق " خبره أخبر عن قوله بأنه لا يكون إلاَّ حقَّا . والرابع : أنه مبتدأ أيضاً ، و " الحق " نعته ، و " يوم يُنفَخُ " خبره وعلى هذا ففي قوله : " وله الملك " ثلاثة أوجه : أحدها : تكون جُمْلَةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره ، فلا محل لها حينئذ من الإعراب . والثاني : أن يكون " الملك " عطفاً على " قوله " و " أل " فيه عوض عن الضمير ، و " له " في محلِّ نصب على الحال من " الملك " العامل فيه الاسْتِقْرَارُ ، والتقدير : قوله الحق ، وملكه كائناً له يوم ينفخ ، فأخبر عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنانِ في يوم ينفخ في الصُّورِ . الثالث : أن الجملة من " وله الملك " في محل نصبٍ على الحال ، وهذا الوجه ضعيف لشيئين : أحدهما : أنها تكون حالاً مؤكّدة ، والأصل أن تكون مؤسّسة . الثاني : أن العامل فيها معنوي ؛ لأنه الاستقرار المُقَدَّرُ في الظرف الواقع خبراً ، ولا يجيزه إلا الأخفش ، ومن تابعه ، وقد تقدَّم تقرير مذهبه . قوله : " يَوْمَ يُنْفَخُ " فيه ثمانية أوجه : أحدها : أنها خبر لقوله تعالى : " قوله الحق " ، وقد تقدم تحقيقه . الثاني : أنه بَدَلٌ من " يوم يقول " فيكون حُكْمُهُ ذاك . الثالث : أنه ظرف لـ " تحشرون " أي : وهو الذي إليه تحشرون في يوم يُنْفَخُ في الصور . الرابع : أنه منصوب بنفس المُلْك ، أي : وله المُلْكُ في ذلك اليوم . فإن قيل : يلزم من ذلك تقييد الملك بـ " يوم النَّفْخ " ، والملك له كل وقت . فالجواب : ما تقدم في قوله " الحق " ، وقوله : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] وقوله : { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] وهو أن فائدة الإخبار بذلك أنه أثبت المُلْكَ والأمْرَ في يوم لا يمكن لأحد أن يدعي فيها شيئاً من ذلك . الخامس : أنه حالٌ من المُلْكِ ، والعامل فيه " له " لما تضمنه من معنى الفعل . السادس : أنه منصوب بقوله : " يقول " . السابع : أنه مَنْصُوبٌ بعالم الغيب بعده . الثامن : أنه منصوبٌ بقوله تعالى : " قوله الحق " فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانية أوجه . والجمهور على " يُنْفَخُ " مبنياً للمفعول بياء الغيبة ، والقائم مقام الفاعل الجار بعده . وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث : " نَنْفُخُ " بنون العظمة مبنياً للفاعل . والصُّورُ : الجمهور على قراءته ساكن العين وقرأه الحسن البصري بفتحها . فأما قراءة الجمهور ، فاختلفوا في معنى " الصُّور " [ فيها ] فقال جماعة الصور : جمع " صُورة " كالصُّوف جمع " صوفة " ، والثوم جمع " ثومة " ، وهذا ليس جمعاً صِنَاعيَّا ، وإنما هو اسم جنس ، إذ يفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث ، وأيَّدُوا هذا القول بقراءة الحسن المتقدمة . وقال جماعة : الصُّور هو القَرْنُ . قال مجاهد كَهَيْئَةِ البُوقِ ، وقيل : هو بلغة أهل اليمن ، وأنشدوا : [ السريع أو الرجز ] @ 2205 - نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الجَمْعَيْن بِالشَّامِخَاتِ فِي غُبَارِ النُّقْعَينْ نَطْحاً شَدِيداً لا كَنَطْحِ الصُّورَينْ @@ وأيَّدُوا ذلك بما ورد في الأحاديث الصحيحة ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما الصُّورُ ؟ قال : " قَرْنٌ يُنْفَخُ فيهِ " وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " كَيْفَ أنْعَمُ وصَحِبُ الصُّورِ قَد التَقَمهُ وأصْغَى سمْعَهُ وَحَنَى جَبْهَتهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤمَرٍُ " . فقالوا : يا رسول الله وما تأمرنا ؟ فقال : " قُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ " " . وقيل في صفته : إنه قَرْنٌ مستطبل فيه أبخاش ، وأن أرواح الناس كلهم فيه ، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجت رُوحُ كُلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش . وأنحى أبو الهيثم على من ادَّعى أن الصور جمع " صُورة " ، فقال : " وقد اعترض قوم فأنكروا أن يكون الصور قَرْنَاً كما أنكروا العَرْشَ والميزان والصراط ، وادَّعُوا أن الصور جمع " صورة " ، كالصوف جمع الصوفة ، ورووا ذلك عن أبي عُبَيْدة ، وهذا خطأ فاحش ، وتحريف لكلام الله - عزَّ وجلَّ - عن مواضعهِ ؛ لأن الله تعالى قال : { وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ } [ غافر : 64 ] و " نفخ في الصور " فمن قرأها : و " نفخ في الصور " أي بالفتح ، وقرأ " فأحْسَنَ صُوْركم " أي بالسكون فقد افترى الكذب على الله - عزَّ وجلَّ - وكان أبو عبيدة صاحب أخبار غريبة ولم يكن له معرفة بالنحو " . قال الأزْهَرِيُّ : قد احتج أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج ، ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه ، وهو قول أهل السنّة والجماعة انتهى . [ قال السمين : ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم ] . قال ابن الخطيب ومما يقوِّي هذا الوجه أنه لو كان المراد نفخ الروح في تلك الصورة لأضاف ذلك إلى نَفْسِه ، لأن نَفْخَ الأرواح في الصور يضيفه الله إلى نفسه ؛ كقوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] وقال : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] وقال { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] ، وأما نفخ الصور بمعنى النَّفخ في القَرْنِ ، فإنه تعالى يضيفه لا إلى نفسه كما قال تعالى : { فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ } [ المدثر : 8 ] وقال : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُون } [ الزمر : 68 ] . وقال الفراء : " يُقَال : نفخ في الصور ، ونفخ الصور " ، وأنشد : [ البسيط ] @ 2206 - لَوْلاَ ابْنُ جَعْدَةَ لَمْ يُفْتَحْ قُهَنْدُزُكُمْ ولا خُرَاسَانُ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّورُ @@ قوله : " عَالِمُ الغيْبِ " في رفعه أربعة أوجه : أحدها : أن يكون صِفةً لـ " الذي " في قوله : " وهو الذي خلق " ، وفيه بُعْدٌ لطُولِ الفَصْلِ بأجنبي . الثاني : أنه خبر مضمر أي : هو عالم . الثالث : أنه فاعل لقوله : " يقول " أي : يوم يقول عالم الغيب . والرابع : أنه فاعل بفعل محذوف يَدُلُّ عليه الفعل المبني للمفعول ؛ لأنه لما قال : " ينفخ في الصور " سأل سَائِلٌ فقال : من الذي يَنْفُخُ فيه ؟ فقيل : " عَالِمُ الغَيْبِ " ، أي : ينفخ فيه عالم الغيب ، أي : يأمر بالنَّفْخِ فيه لقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رِجَالٌ } [ النور : 36 ، 37 ] أي : تُسَبِّحُهُ . ومثله أيضاً قول الآخر : [ الطويل ] @ 2207 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ @@ أي : مَنْ يبكيه ؟ فقيل : ضارع ، أي : يبكيه ضارع لخصومة . ومثله : { وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } [ الأنعام : 137 ] في قراءة من يبني " زُيِّنَ " للمفعول ورفع " قَتْلُ " ، و " شركاؤهم " كأنه قيل : من زَيَّنَهُ لهم ؟ فقيل : زَيَّنَهُ شُركَاؤهُمْ ، والرفع على ما تقدم قراءة الجمهور . وقرأ الحسن البصري والأعمش : " عالم " بالجر وفيها ثلاثة أوجه : أحسنها : أنه بدل من الهاء في " له " . [ الثاني : أنه بدل من " رب العالمين " ، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه ] . الثالث : أنه نعت للهاء في " له " ، وهذا إنما يتمشى على رأي الكسائي حيث يُجِيزُ نعت المضمر بالغائب ، وهو ضعيف عند البصريين والكوفيين غير الكسائي . فصل في بيان المقصود من ذكر أحوال البعث أعلم أنه - تعالى - ما ذكر أحوال البعث في القيامة إى وقرَّر فيه أصلين : أحدهما : كونه قادراً على المُمْكِنَاتِ . والثاني : كونه عالماً بكل المعلومات ؛ لأن بتقدير : ألاَّ يكون قادراً على كل الممكنات لم يَقْدِرْ على البعث والحشر ، وردِّ الأرواح إلى الأجساد ، وبتقدير ألاَّ يكون عالماً بجميع الجزئيات لم يَصِحَّ ذلك فيه ؛ لأنه ربما اشْتَبَهَ المُطِيعُ بالعاصي والمؤمن بالكافر ، فلا يحصل المَقْصُودُ الأصلي من البعث والقيامة ، أما إذا ثبت حصول هذين الصفتين ، كمل الغرض ، فقوله : { وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ } يدل على كمال القُدْرَةِ , وقوله { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } يدلُّ على كمال العلم ، فلزم بمجموعهما أن يكون قوله حقاً وحكمة وصدقاً ، وقضاياه مُبَرَّأةً عن الجَوْرِ والعبثِ ، ثم قال تعالى : { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِير } والحكيم : هو المصيب في أفعاله ، والخبير : هو العالم بحقائقها من غير اشْتِبَاهٍ . والله أعلم .