Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 89-90)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } أي : الكتب المُنَزَّلة عليهم ، و " الحكم " يعني العلم والفِقْهَ ، و " النبوة " . والإشارة بـ " أولئك " إلى الأنبياء الثمانية عشر المذكورين ، ويحتمل أن يكون المراد بـ " آتيناهم الكتاب " أي : الفَهْمَ التَّامَّ لما في الكتاب ، والإحاطة بحقائقه ، وهذا هو الأولى ؛ لأن الثمانية عشر لم ينزل على كل واحد منهم كتاباً إلهياً على التعيين . قوله { فإنْ يَكْفُرْ بِهَا } هذه " الهاء " تعود على الثلاثة الأشياء ، وهي : الكتاب والحكم والنبوة ، وهو قول الزمخشري . وقيل : يعود على " النبوة " فقط ، لأنها أقرب مذكور ، والباء في قوله : " لَيْسُوا بِهَا " مُتعَلِّقَةٌ بخبر " ليس " ، وقدم على عاملها ، والباء في " بكافرين " زائدة توكيداً . فصل في معنى الآية معنى قوله : " يَكْفُرْ بِهَا هَؤلاءِ " يعني أهل " مَكة " { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِين } ؛ قال ابن عباس : المراد بالقَوْمِ الأنْصَارُ ، وأهل " المدينة " ، وهو قول مجاهد . وقال قَتَادَةُ والحسن : يعني الأنبياء الثمانية عشر . قال الزجاج : ويدلُّ عليه قوله بعد هذه الآية : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } . وقال أبو رَجَاءٍ العطاردي فإن يكفر بها أهل الأرض ، فقد وكلَّنا بها أهل السماء ، يعني الملائكة ، وهو بعيد ؛ لأن اسم القوم كُلُّ ما يقع على غير بني آدم . وقال مجاهد : هم الفرس . وقال ابن زيد : كل من لم يكفر ، فهو منهم ، سَوَاءً كان ملكاً ، أو نبيًّا ، أو من الصحابة ، أو من التابعين . قوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } " أولئك " مفعول مُقدَّمٌ لـ " هدى الله " ويَضْعُفُ جعله مبتدأ على حذف العائد ، أي : هداهم الله كقوله : { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] برفع " حُكْمُ " [ والإشارة بـ " أولئك " إلى الأنبياء المتقدم ذكرهم ] . قوله : { فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } قرأ الأخوان بحذف الهاء في الوَصْلِ والباقون أثبتوها وَصْلاً وَوَقْفاً ، إلا أن ابن عامر بكسرها ، ونقل ابن ذكوان عنه وجهين : أحدهما : الكَسْر من غير وَصْلٍ بمدة ، والباقون بسكونها . أما في الوقف فإن القراء اتَّفَقُوا على إثباتها سَاكِنةً واختلفوا في " مَالِيَه " و " سُلْطَانِيَه " في " الحاقَّة " وفي " مَاهِيَهْ " في " القارعة " بالنسبة إلى الحذف والإثبات ، واتفقوا على إثباتها في " كِتَابِيَهْ " و " حِسَابِيِهْ " فأما قراءة الأخوين ، فالهاء عندهما للسَّكْتِ ، فلذلك حَذَفَاهَا وصْلاً ؛ إذ محلها الوَقْفُ ، وأثبتاها وقفاً إتْبَاعاً لِرَسْمِ المصحف , وأما من أثبتها ساكنة ، فيحتمل عنده وجهين : أحدهما : هي هاء سَكْتٍ ، ولكنها ثبتت وَصْلاً إجْرَاءً للوصْلِ مجرى الوَقْفِ ، كقوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ } [ البقرة : 259 ] في أحد الأقوال كما تقدم . والثاني : أنها ضمير المصدر سُكِّنَتْ وَصْلاً إجْرَاءً للوَصْلِ مجرى الوَقْفِ ، نحو : { نُؤْتِهِ } [ آل عمران : 145 ] { فَأَلْقِهْ } [ النمل : 28 ] و { أَرْجِهْ } [ الأعراف : 111 ] و { نُوَلِّهِ } [ النساء : 115 ] { وَنُصْلِهِ } [ النساء : 115 ] . واختلف في المصدر الذي تعُودُ عليه هذه " الهاء " ، فقيل : الهدى ، أي اقتدى الهدى ، والمعنى اقْتد اقْتداء الهدى ، ويجوز أن يكون الهدى مفعولاً لأجله ؛ أي : فبهداهم اقتد لأجل الهدى . وقيل : الاقتداء ؛ أي : اقتد الاقتداء ، ومن إضمار المصدر قول الشاعر : [ البسيط ] @ 2230 - هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرآنِ يَدْرُسُهُ والمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إنْ يَلْقَها ذِيبُ @@ أي : يَدْرُسُ الدَّرْسَ ، ولا يجوز أن يتكون " الهاء " ضمير القرآن ؛ لأن الفعل قد تعدَّى له ، وإنما زيدت " اللام " تَقْوِيَةً له ، حيث تقدَّم معموله ، وكذلك جعل النُّحَاةُ نَصْب " زيداً " من " زيداً ضَرَبْتُهُ " بفعل مُقدَّرٍ ، خلافاً للفراء . قال ابن الأنْبَارِيّ : " إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل ، وإن الأصل : اقتد اقتد ، ثم جعل المَصْدَرُ بَدَلاً من الفعل الثاني ، ثم أضْمِرَ فاتَّصَلَ بالأول " . وأما قراءة ابن عامر فالظَّاهِرُ فيها أنها ضمير ، وحُرِّكَتْ بالكَسْرِ من غير وَصْلٍ وهو الذي يسميه القُرَّاء الاخْتِلاَس تَارَةً ، وبالصلة وهو المُسَمَّى إشْبَاعاً أخرى كما قرئ : { أَرْجِهْ } [ الأعراف : 111 ] ونحوه . وإذا تقرَّرَ هذا فقول ابن مُجَاهِدٍ عن ابن عامر " يُشِمُّ الهاء من غير بُلُوغِ ياء " وهذا غلط ؛ لأن هذه " الهاء " هاء وَقْفٍ لا تعرب في حالٍ من الأحوال ، أي : لا تحرك وإنما تدخل ليتبيَّنَ بها حركةُ ما قبلها ليس بِجَيِّدٍ لما تقرر من أنها ضَمِيرُ المَصْدَرِ ، وقد رَدَّ الفَارِسيُّ قول ابن مجاهد بما تقدم . والوجه الثاني : أنها هاء سَكْتٍ أجْرِيَتْ مُجْرَى الضمير ، كما أجريت هاء الضمير مُجْرَاهَا في السكُونِ ، وهذا ليس بِجَيِّدٍ ، ويروى قول المتنبي : [ البسيط ] @ 2231 - واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ … @@ بضم " الهاء " وكسرها على أنها " هاء " السَّكْتِ ، شُبِّهَتْ بهاء الضمير فحركت ، والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير ؛ لأن " هاء " الضمير لا تكسر بعد الألف ، فكيف بما يشبهها ؟ والاقتداءُ في الأصْلِ طَلَبُ المُوافَقَةِ قاله اللَّيْث . ويقال : قدوة وقدو وأصله من القدو وهو أصل البِنَاءِ الذي يتشعب منه تصريف الاقتِدَاءُ . قال الواحِدِيُّ : الاقتِدَاءُ في اللغة : الإتيان بِمِثْلِ فِعْل الأول لأجل أنه فعله و " بِهُداهِمِ " متعلق بـ " اقْتَدِهْ " . وجعل الزمخشري تقديمه مُفيداً للاختصاص على قاعدته . فصل فيما يقتدى بهم فيه هذا خِطَابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا في الشيء الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم فيه . فقيل : المُرَادُ أن يَقْتَدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه ، وهو التوحيد والتَّنْزِيه عن كُلِّ ما لا يَلِيقُ بالباري سبحانه وتعالى في الذَّاتِ والصِّفاتِ والأفْعَالِ . وقيل : المراد الاقْتِدَاءُ بهم في شَرَائِعِهمْ إلا ما خَصَّهُ الدليل على هذا ، فالآية دَلِيلٌ على أن شَرْعَ من قبلنا يلزمنا وقيل : المراد به إقَامَةُ الدلالة على إبْطَالِ الشِّرْكِ ، وإقامة التوحيد ؛ لأنه ختم الآية بقوله : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] ثم أكد إصْرَارَهُمْ على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } ثم قال : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } أي : اقْتَدِ بهم في نَفْيِ الشرك ، وإثبات التوحيد ، وتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الجُهَّال . وقال آخرون : اللفظ مُطْلَقٌ فيحمل على الكل إلاَّ ما خَصَّهُ الدَّليل المُنْفَصِلُ . قال القاضي يبعد حَمْلُ هذه الآية على أمْرٍ الرَّسُولِ بِمُتَابَعَةِ الأنبياء المُتقدِّمين في شَرَائِعِهمْ لوجوه : أحدها : أن شرائعهم مختلفة مُتناقِضَةٌ فلا يَصِحُّ مع تَنَاقُضِهَا أن يكون مأموراً بالاقْتِدَاءِ بهم في تلك الأحْكَامِ المُتناقِضَةِ . وثانيها : أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العملِ ، وإذا ثبت هذا ، فنقولُ : دليل ثباتِ شَرْعِهِمْ كان مخصوصاً بتلك الأوْقَاتِ فقط ، فكيف يُسْتَدَلُّ بذلك على اتِّبَاعِهِمْ في شرائعهم في كل الأوقات . وثالثها : أن كونه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُتَّبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون مَنْصِبُهُ أقَلَّ من مَنْصِبِهِمْ ، وذلك بَاطِلٌ بالإجماع ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حَمْلُ الآية على وُجُوبِ الاقْتِداءِ بهم في شَرَائِعِهمْ . والجواب عن الأول ، أن قوله : " فَبُهَداهمُ اقْتَدِه " يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض تلك الأحْكَامِ مُتَنَاقِضَةً بحسب شرائعهم ، فنقول : العام يجب تخصيصه في هذه الصُّورة ، ويبقى فيما عداها حُجَّة . وعن الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - لو كان مأموراً بأن يَسْتَدِلَّ بالدليل الذي اسْتَدَلَّ به الأنبياءُ المتقدِّمُون لم يكن ذلك مُتَابَعَةً ؛ لأن المسلمين لما اسْتَدَلُّوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال : إنهم مُتَّبِعُونَ لليهود والنَّصارى في هذا الباب ؛ لأن المستدلَّ بالدليل يكون أصلاً في ذلك الحكم ، ولا تعلُّق له بمن قبله ألْبَتَّةَ ، والاقتداء والاتِّبَاعُ لا يحصل إلا إذا كان فعل الأوَّل سَبَباً لوجوب الفِعْلِ عن الثاني . وعن الثالث : أنه أمر الرَّسُولَ بالاقْتِدَاءِ بجميعهم في جميع الصِّفَاتِ الحميدة ، والأخلاق الشريفة ، وذلك لا يوجب كونه أقَلَّ مرتبة من الكُلِّ على ما يأتي في الفَصْلِ الذي بعده . فصل في أفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم احْتَجَّ العملاء بهذه الآية على أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلام ؛ لأن خِصَالَ الكمالِ وصفاتِ الشَّرفِ كانت مفرّقة فيهم فـ " داود " و " سليمان " كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، و " أيُّوب " كان من أصحاب الصَّبْرِ على البلاءِ ، و " يوسف " كان جَامِعاً لِهَاتيْنِ الحالتين ، و " موسى " عليه الصلاة والسلام كان صاحب الشريعةِ القويَّةِ القاهرة ، والمعجزات الظاهرة و " زكريا " و " يحيى " و " عيسى " و " إلياس " كانوا أصحاب الزُّهْدِ ، و " إسماعيل " كان صاحب الصِّدْق و " يونس " كان صاحب التَّضَرُّعِ . وثبت أنه - تعالى - إنما ذكر كُلُّ واحد من هؤلاء الأنبياء ؛ لأن الغالب عليه خَصْلةٌ مُعيَّنةٌ من خِصال المَدْح والشرف ، ثم إنه تعالى لما ذكر الكلّ أمر محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن يقتدي بهم بأسْرِهمْ ، فكان التقدير كأنه - تعالى - أمر محمداً أن يجمع من خِصالِ العُبُوديَّة والطاعة كُل الصفات التي كانت مُتفرِّقَةً فيهم بأجمعهم ، ولما أمره الله - تبارك وتعالى - بذلك امْتَنَعَ أن يقال : إنه قَصَّر في تحصيلها ، فثبت أنه حَصَّلَهَا ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال : إنه أفْضَلُهُمْ بكليتهم . قوله : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء المتقدمين ، وكان من جُمْلَةِ هدايتِهِمْ تَرْكُ طلب الأجْرِ في إيصال الدينِ ، وإبلاغ الشريعة لا جَرَم اقتدى بهم في ذلك فقال : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } [ و " الهاء " في " عليه " ] تعود على القرآن والتبليغ أضمرا وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة السِّياق عليهما ، و " أن " نافية ولا عمل لها على المَشْهُور ، ولو كانت عَامِلةً لبطل عملها بـ " إلاَّ " في قوله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ } أن يذكره ويعظه . " وللعالمين " متعلق بـ " ذكرى " و " اللام " معدية أي : إن القرآن العظيم إلاَّ تذكير للعالمين ، ويجوز أن تكون متعلِّقَةً بمحذوف على أنها صِفَةٌ للذِّكْرَى ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنه صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثٌ إلى كل أهْلِ الدنيا لا إلى قَوْمِ دون قَوْمٍ .