Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 8-9)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذه شبهةٌ ثالثةٌ من شُبَهِ مُنْكِري النُّبوة ، فإنهم يقولون : لو بَعَثَ اللَّهُ إلى الخَلْق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرَّسُولُ من الملائكة ؛ لأن الملك أكثرُ عِلْماً وأشدُّ قُدْرَةً ومَهَابَةً ، والشَّكُّ في رسالته قَلِيلٌ ، والحكيم إذا أراد تحصيل مُهِمٍّ ، فإنما يَسْتَعِينُ في تحصيله بمَنْ هو أقْدَرُ على تحصيله ، وإذا كان وقوع الشُّبُهَاتِ في نُبُوَّةِ الملائكة أقَلَّ وَجَبَ إن بعث اللهُ رسولاً إلى الخلق أنْ يكون ذلك الرَّسُولُ من الملائكة . قوله : " وقالوا : لولا " الظَّاهِرُ أنَّ هذه الجملة مُسْتَأنَفَةٌ سيقَتْ للإخبار عنهم لفَرْطِ تعنُّتِهم وتَصَلُّبِهِم في كُفْرهم . قيل : ويجوز أن تكون مَعْطُوفة على جواب " لو " ، أي : لو نزَّلْنَا عليك كتاباً لَقَالُوا كذا وكذا ، ولقالوا : لو أُنزِل عليه مَلَكٌ . وجيء بالجواب على أحد الجائزين ، أعني حذف " اللام " من المثبت ، وفيه بُعْد ؛ لأن قولهم " لولا نُزِّلَ " ليس مُتَرَتِّباً على قوله : " لولا نَزَّلْنَا " و " لولا " هنا تحضيضِيَّةٌ ، والضميرُ في " عَلَيْه " الظَّاهرُ عَوْدُهُ على النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : يجوز أن يَعُودَ على الكتاب أو القِرْطَاسِ . والمعنى : لولا أنْزِلَ مع الكتاب مَلَكٌ يشهدُ بِصحَّتِهِ ، كما يُرْوَى في القِصَّةِ أنه قيل له : لن نؤمن لك حتى تَعْرُج فتأتي بكتاب ، ومعه أربعة ملائكة يشهدون ، فهذا يَظْهَرُ على رأي من يقول : إنَّ الجملة من قوله : " وقالوا : لولا أنْزِلَ " معطوفةٌ على جواب " لوا " ، فإنَّهُ يتعلّق به من حيث المعنى حينئذٍ . فصل في دحض شبهة منكري النبوة واعلم أنَّ الله - تبارك وتعالى - أجاب عن هذه الشُّبْهَةِ بوجهين : أحدهما : قوله : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ } ومعنى القضاء : الإتمام والإلزام ، والمعنى : ولو أنزلنا ملكاً لم يؤمنوا ، وإذا لم يؤمنوا اسْتُؤصِلُوا بالعذاب ، وهذه سُنَّةُ اللَّهِ تعالى في الكُفَّار . والوجه الثاني : أنَّهم إذا شاهدوا الملك زَهَقَتْ أرْوَاحُهُمْ من هَوْل ما يشاهدون ؛ لأنَّ الآدمي إذا رأى الملك ، فإمَّا أنْ يراه على صورتِهِ الأصْلِيَّةِ ، أو على صورة البَشَرِ ، فإن رآه على صورته الأصليَّةِ غُشِيَ عليه ، وإنْ رآه على صورة البَشَرِ ، فحينئذ يكونُ المَرْئيُّ شخصاً على صورة البشر وذلك لا يتفاوت الحال فيه ، سواء كان هو ملكاً أو بشراً ، ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط ، وخصَّهم دَاوُد وجبريل حيثُ تَخَيَّل لمريم بَشَراً سَوِياً . واعلم أنَّ عدم إرسال الملك فيه مصالح : أحدها : إن رؤية إنزال الملكِ على البشرِ آية قاهرةٌ فبتقدير نزوله على الكُفَّارِ ، فرُبَّما لم يؤمنوا ، كما قال الله تبارك وتعالى { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَة } [ الأنعام : 111 ] إلى قوله : { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الأنعام : 111 ] ، وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهُمْ بعذاب الاسْتِئصَالِ . وثانيها : ما ذكرنا من عَدَمِ قُدْرِتِهِمْ على رؤية الملائكة . وثالثها : إنَّ إنزال الملك معجزةٌ قاهِرةٌ جاريةٌ مجرى الإلْجْاءِ ، وإزالة الاختيار ، وذلك يخلُّ بمصلحة التكليف . ورابعها : أنَّ إنزال الملَكِ وإن كان يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ من الوجوه المذكورة ، لكنَّهُ يُقوِّي الشُّبْهَةَ من هذه الوجوه . والمراد من قوله تعالى : { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } فالفائدة في " ثم " التنبيه على أنَّ عَدَمَ الإنظار أشدُّ من مُضِيَّ الأمر ؛ لأن المُفَاجَئَةَ أشَدُّ من نفس الشدة . قال قتادة : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً } ثمَّ لم يؤمنوا لعُجِّلَ لهم العذاب ولم يُؤخَّرْ طَرْفَةَ عَيْنٍ . وقال مجاهد : " لقضي الأمر " ، أي : لقامت القيامة . وقال الضحَّاك : لو أتاهم ملكٌ في صورته لماتوا . قوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً } يعني : لو أرسلناه إليهم مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً يعني في صورة رجلٍ آدمي ؛ لأنهم لا يستطيعون النَّظَرَ إلى الملائكةِ ، كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْية الكلبي وجاء الملكان إلى دَاوُد عليه السلام في صورةِ رَجُلَيْنِ ، ولأن الجنس إلى الجنس أميلُ وأيضاً فإنَّ طَاعَة الملائكة قَوِيَّةٌ ، فَيَسْتحْقِرُونَ طَاعَاتِ البَشَرِ ، ورُبَّما لا يعذرونهم بالإقدام على المعاصي . قوله تعالى : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون } في " ما " قولان : أحدهما : أنها مَوْصولةٌ بمعنى " الذي " ، أي : ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم ، أو على غيرهم ، قاله أبو البقاء - رحمه الله تعالى - وتكون " ما " حينئذٍ مفعولاً بها . الثاني : أنَّها مَصْدَريَّةٌ ، أي : ولَلَبْسنا عليهم مَثْلَ ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم ، والمعنى شَبَّهوا على ضعفائهم فشُبِّهَ عليهم . قال ابن عباس : هُمْ أهْلُ الكتاب ، فَرَّقُوا دينهم وحَرَّفُوا الكَلِمَ عن مَوَاضِعِه ، فَلَبَسَ اللَّهُ عليهم ما يلبسون . وقرأ ابن مُحَيْصِن : " وَلَبَسْنا " بلام واحدة هي فاء الفِعْلِ ، ولم يأت بلامٍ في الجواب اكْتِفَاءً بها في المَعْطُوف عليه . وقرأ الزهري : " ولَلَبَّسْنا " بلامين وتشديد الفعل على التَّكْثيرِ . قال الواحدي : يقال لَبَّسْتُ الأمْرَ على القَوْمِ ألبِّسُهُ إذا شَبَّهْته عليهم ، وجعلته مُشْكلاً ، وأصله من التَّستُّرِ بالثوب ، ومنه لُبْسُ الثوبِ ، لأنه يُفيد سَتْرَ النفسِ ، والمعنى : إذا جَعَلْنَا الملكَ في صورة البَشَرِ ، فهم يظنون أن ذلك المَلَكَ بَشَراً ، فيعود سؤالهم أنَّا لا نرضى برسالة هذا الشَّخْصِ ، واللَّهُ أعلم .