Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 93-93)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بيَّن كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله ، وبيَّن شَرَفَهُ ورِفْعَتَهُ ذكر بعده ما يَدُلُّ على وعيد من ادَّعَى النبوة والرسالة كذباً وافتراءً . قال قتادةُ : نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذَّاب الحَنَفِيّ صاحب " اليمامة " وفي الأسْودِ العنسي صاحب " صنعاء " كانا يدَّعيانِ الرِّسالة والنبوة من عند الله كذباً وافتراء ، وكان مسيلمة يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم : محمد رسول قريش ، وأنا رسول بني حنيفة . وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بَيْنَمَا أنَّا نَائِمٌ إذْ أوتيتُ خَزَائِنَ الأرْضِ ، فَوُضِعَ في يَدَيَّ سِوارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فكبرا عليَّ وأهمَّانِي ، فأوحى اللَّهُ إليَّ أنْ أنفخهما فَذَهَبَا فأوَّلتهما الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنَا بَيْنَهمَا صاحبَ صَنْعاءَ وصاحِبَ يَمامَة " . قال القاضي : الذي يَفْتَري على الله الكذبَ يدخل فيه من يدَّعي الرسالة كَذِباً ولكن لا يقتصر عليه ؛ لأن العِبْرَةَ بعموم اللفظ ، لا بخصوص السَّبب . قال القرطبي : ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول : وقع في خاطري كذا ، أو أخبرني قلبي بكذا ، فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطِرِهمْ ، ويزعمون أن ذلك لِصَفَائِهَا من الأكْدَارِ ، وخلوها من الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الرَّبَّانِيَّة ، فيقفون على أسرار الكليات ، ويعلمون أحكام الجزئيات فَيْسْتَغُنُونَ بها عن أحكام الشَّرائع ، ويقولون : هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء العامة ، وأما الأولياء ، وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النُّصوص . وقوله تعالى : " ومن أظلم " مبتدأ وخبر ، وقوله : " كذباً " فيه أربعة أوجه : أحدها : أنه مفعول " افترى " أي : اختلق كذباً وافتعله . الثاني : أنه مَصْدرٌ له على المعنى ، أي : [ افترى ] افتراءً ، وفي هذا نظر ؛ لأن المعهود في مثل ذلك إنما هو فيما كان المَصْدرُ فيه نَوعاً من الفعل ، نحو : قعد القُرْفُصَاءَ أو مُرَادفاً له كـ " قعدت جلوساً " أما ما كان المصدر فيه أعم من فعله نحو : افترى كذباً ، وتقرفصَ قعوداً ، فهذا غير معهود ، إذ لا فائدة فيه والكذب أعمُّ من الافتراء ، وقد تقدَّم تحقيقه . الثالث : أنه مفعول من أجلِهِ ، أي : افترى لأجل الكذبِ . الرابع : أنه مصدر واقع موقع الحال ، أي : افترى حال كونه كاذباً ، وهي حال مؤكدة . وقوله : " أو قال " عطف على " افترى " و " إلى " في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل ، وجوز أبو البقاء أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير المصدر ، قال : تقديره : " أوحى إليَّ الوحي " ، أو الإيحاء . والأوّل أولى ؛ لأن فيه فائدةً جديدةً ، بخلاف الثاني فإن معنى المصدر مفهوم من الفعل قَبْلَهُ . قوله : " وَلَمْ يُوحَ إلَيْه " جملة حاليةٌ ، وحذف الفاعل هنا تعظيماً له ؛ لأن المُوحِي هو الله تعالى . قوله : " ومَنْ قَالَ " مجرور المَحَلّ ؛ لأنه نَسَقٌ على " مَنْ " المجرور بـ " من " أي : وممن قال ، وقد تقدم نظير هذا الاستفهام في " البقرة " : وهناك سؤال وجوابه . قوله { سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ } وقرا أبو حيوة : " سأنزّل " مضعفاً وقوله : " مثل " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنه مَنْصُوبٌ على المفعول به ، أي سأنزل قرآناً مِثْلَ ما أنزل الله ، و " ما " على هذا مَوصُولةٌ اسمية ، أن نكرة موصوفة ، أي : مثل الذي أنزله ، أو مثل شيء أنزله . والثاني : أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، تقديره : سأنزل إنزالاً مثل ما أنزل الله ، و " ما " على هذا مصدرية ، أي : مثل إنزال الله . فصل في نزول الآية قيل : " نزلت هذه الآيةُ الكريمة في عبد الله بن أبي سَرْحِ كان قد أسلم ، وكان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه " سميعاً بصيراً " كتب عليماً حكيماً ، وإذا أملى عليه " عليماً حكيماً " كتب " غفوراً رحيماً " فلما نزل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] أمْلاَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خَلْقِ الإنسان ، فلما انتهى إلى قوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } فقال : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِين } [ المؤمنون : 14 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتُبْهَا فَهَكَذَا نَزَلَتْ " فَشَكَّ عبد الله . فقال : لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي كما أوحي إليه فارتدَّ عن الإسلام ، ولحق بالمشركين ، ثم رجع عبد الله إلى الإسْلام قبل فتح " مكّة " المشرفة ، إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم " . وقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : يريد النَّضْرَ بن الحارثِ ، والمستهزئين ، وهو جواب لقولهم : { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا } [ الأنفال : 31 ] وقوله في القرآن : { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ الأنفال : 31 ] فكل أحد يمكنه الإتيان [ بمثله ] . " وَلَوْ تَرَى " يا محمد " إذ الظالمون " و " إذ " منصوب بـ " ترى " ، ومَفْعُول الرؤية محذوف ، أي : ولو ترى الكُفَّار الكذبةَ ، ويجوز ألا يقدّر لها مفعول ، أي : ولو كنت من أهل الرُّؤيةِ في هذا الوقتِ ، وجواب " لو " محذوف ، أي : لَرَأيْتَ أمراً عظيماً . و " الظالمون " يجوز أن تكون فيه " أل " للجنس ، وأن تكون للعهد ، والمراد بهم من تقدَّم ذكره من المشركين واليهود والكذبةِ المفترين و { في غَمَراتِ المَوْتِ } خبر المبتدأ ، والجملة في مَحَلِّ خفض بالظَّرْفِ . و " الغَمَراتُ " جمع " غَمْرة " وهي الشدة المفظعة وأصلها مِنْ غَمَرَهُ الماءُ إذا سَتَرَهُ ، وغَمْرَةُ كلِّ شيء كثرته ومعظمه ، ومنه غمرة الموت وغمرة الحرب . ويقال : غمرت الشيء إذا علاه وغطَّاه . قال الزَّجَّاج : يقال لكل من كان في شيء كثير : قد غَمَرَهُ ذلك وغمره الدَّيْنُ إذا كثر عليه ، ثم يقال للمَكَارِهِ والشدائد : غمرات ، كأنها تَسْتُرُ بغمرها وتنزل به قال في ذلك : [ الوافر ] @ 2234 - وَلاَ يُنْجِي مِنَ الْغَمَراتِ إلاَّ بَرَاكَاءُ القِتَالِ أو الفِرارُ @@ ويجمع على " غُمَرَ " كـ " عُمْرة " و " عُمَر " كقوله : [ الوافر ] @ 2235 - … وَحَانَ لِتَالِكَ الغُمَرِ انْقِشَاعُ @@ ويروى " انحسار " . وقال الرَّاغِبُ : أصل الغَمْرِ إزالةُ أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله : غمر وغامر ، وأنشد غير الراغب على غامر : [ الكامل ] @ 2236 - نَصَفَ النَّهَارُ المَاءُ غَامِرُهُ وَرَفِيقُهُ بالغَيْبِ لا يَدْرِي @@ ثم قال : " والغمرة مُعْظَمُ الماء لِسَتْرِهَا مَقَرَّهَا ، وجعلت مثلاً للجَهَالَةِ التي تغمر صاحبها " . والغَمْرُ : الذي لم يُجَرِّب الأمور ، وجمعه أغْمَار ، والغِمْرُ : - بالكسر - الحِقْدُ ، والغَمْرُ بالفتح : الماء الكثير ، والغَمَرُ بفتح الغين والميم : ما يغمر من رائحة الدَّسَم سائر الروائح ، ومنه الحديث " مَنْ بَاتَ وفِي يَدَيْهِ غَمَرٌ " . وغمر يده ، وغمر عرضه دنس ، ودخلوا في غُمَارِ الناس وخمارهم ، والغمرة ما يطلى به من الزَّعْفران ، ومنه قيل للقدح الذي يتناول به الماء : غمر ، وفلان مُغَامِرِ إذا رمى بنفسه في الحَرْبِ ، إما لِتَوغُّلِهِ وخوضه فيه ، وإما لِتَصَوُّر الغمارة منه . قوله : { وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ } [ جملة في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير ] المستكن في قوله : " في غمرات " ، و " أيديهم " خفض لفظاً ، وموضعه نصب أي : باسطو أيديهم بالعذابِ يضربون وجُوهَهُمْ وأدبارهم وقوله " أخرجوا " منصوب المحل بقول مضمر ، والقول يُضْمر كثيراً ، تقديره : يقولون : أخرجوا ، كقوله : { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] أي : يقولون : سلام عليكم ، وذلك القول المضمر في مَحَلِّ نصب على الحال من الضمير في " باسطو " . فإن قيل : إنه لا قُدْرَةَ لهم على إخْرَاجِ أرواحهم من أجسادهم ، فما الفائدة في هذا الكلام ؟ فالجواب : أن في تفسير هذه الكلمة وجوه : أحدها : ولو ترى الظَّالمين إذ صاروا إلى غمراتِ الموْتِ في الآخرة ، فأدخلوا جهنم ، وغمراتُ الموت عِبَارةٌ عما يصيبهم هناك من أنواع الشَّدائِدِ والعذاب ، والملائكة باسطو أيديهم [ عليهم بالعذابِ ] يُبَكِّتُونَهُمْ بقولهم : أخرجوا أنفسكم من هذا العذابِ الشديد إن قدرتم . وثانيها : أن المعنى { وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ } عند نزول الموت في الدنيا ، والملائكة باسطو أيديهم لِقَبْضِ أرواحهم يقولون لهم : أخرجوا أنفسكم من هذه الشَّدائدِ ، وخَلِّصُوهَا من هذه الآلام . وثالثها : " أخرجوا أنفسكم " [ أي : أخرجوها إلينا ] من أجسادكم ، وهذه عبارة عن العُنْفِ والتشديد في إزْهَاقِ الروح من غير تنْفِيسٍ وإمهال كما يفعل الغريمُ الملازم المُلحُّ ، ويقول : أخرج مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعة ، ولا أبرح من مكاني حتى أنْزعَهُ من أحْدَاقِكَ . ورابعها : أن هذه اللَّفظة كناية عن شِدَّةِ حالهم ، وأنهم بلغوا في البلاء الشديد إلى حيث يتولَّى بنفسه إزْهَاقَ روحه . خامسها : أنه ليس بأمر ، بل هو وعيدٌ [ وتقريع ] كقول القائل : امضِ الآن لترى ما يحلُّ بك . قوله : { ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ } في هذا الظرف وجهان : أظهرهما : انه مَنْصُوبٌ بـ " أخرجوا " بمعنى : أخرجوها من أبدانكم ، فهذا القول في الدنيا ، ويجوز أن يكون في يوم القيامةِ ، والمعنى خَلَّصُوا أنفسكم من العذابِ ، كما تقدَّم ، فالوقف على قوله : " اليوم " ، والابتداء بقوله : { تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } . والثاني : أنه منصوب بـ " تجزون " والوقف حينئذ على " أنفسكم " ، والابتداء بقوله : " اليوم " والمراد بـ " اليوم " يحتمل أن يكون وقتَ الاحتضار ، وأن يكون يوم القيامة ، و " عذاب " معفول ثانٍ ، والأول قام مقام الفاعل . والهُون : الهَوَان ؛ قال تعالى : { أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ } [ النحل : 59 ] . وقال ذو الأصبع : [ البسيط ] @ 2237 - إذْهَبْ إلَيْكَ فَمَا أمِّي بِرَاعِيَةٍ تَرْعَى المخَاضَ ولا أغْضِي على الهُونِ @@ وقالت : الخَنْسَاءُ : [ المتقارب ] @ 2238 - يُهِينُ النُّفُوسَ وهُونُ النُّفُو سِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ أبْقَى لَهَا @@ وأضاف العذابَ إلى الهُونِ إيذاناً بأنه متمكِّنٌ فيه ، وذلك إنه ليس كل عذاب يكون فيه هُونٌ ؛ لأنه قد لا يكون فيه هُونٌ ، لأنه قد يكون على سبيل الزَّجْرِ والتأديب ويجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته ، وذلك أن الأصْلَ العذاب الهُون وصف به مُبَالغَة ، ثم أضافه إليه على حَدِّ إضافته في قولهم : بَقْلَةُ الحمقاَءِ ونحوه ، ويدل عليه أن الهُونَ بمعنى قراءة عبد الله وعكرمة كذلك . و " الهَوْن " بفتح الهاء : الرِّفْقُ والدَّعة ؛ قال تبارك وتعالى : { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] . واعلم أنه - تبارك وتعالى - جمع هناك بين الإيلامِ والإهانَةِ ، فكما أن الثواب شَرْطُهُ أن يكون منْفَعَةً معروفة بالتعظيم ، فكذا العقاب شرطه أن يكون مَضَرَّةً مقرونة بالإهانِةِ . قوله : " بِمَا كُنْتُمْ " " ما " مصدرية ، أي : بكونكم قائلين غير الحقِّ ، وكونكم مستكبرين و " الباء " متعلقة بـ " تجزون " أي : بسببه ، و " غير الحق " نصبه من وجهين : أحدهما : أنه مفعول به ، أي تذكرون غير الحق . والثاني : أنه نَعْتُ مَصْدَرٍ محذوف ، أي : تقولون القول غير الحق . وقوله : " وكنتم " يجوز فيه وجهان : أظهرهما : أنه عطف على " كنتم " الأولى ، فتكون صَلَةً كما تقدم . والثاني : أنها جملة مُسْتَأنَفَة سيقت للإخبار بذلك و " عن آياته " متعلّق بخبر " كان " ، وقدم لأجل الفواصل ، والمراد بقوله : { وكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } أي : تَتَعَظَّمُونَ عن الإيمان بالقرآن لا تُصَدِّقُونَهُ . وذكر الواحدي أي : لا تُصَلُّونَ له ، قال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ سَجَدَ [ لِلَّهِ سَجْدَةً ] بنِيَّةٍ صَادِقَةٍ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الكِبْرِ " .