Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 60, Ayat: 10-11)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } الآية لما أمر المسلمين بترك موالاة [ المشركين ] اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين أحكام مهاجرة النساء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : جرى الصُّلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل " مكة " رده إليهم ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها - وكان كافراً - وهو صيفي بن راهب . وقيل : مسافر المخزومي ، فقال : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية . وقيل : " جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها . وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ، ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله إخوتها ، وحبسها فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ردها علينا للشرط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كان الشَّرط في الرجال لا في النساء " ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية . وعن عروة قال : كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية ألاَّ يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه فكرهَ المؤمنون ذلك ، وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلماً ، حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل ، يومىء إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك . وقيل : إن التي جاءت أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ ، ففرت منه ، وهو يومئذ كافرٌ ، فتزوَّجها سهيل بن حنيف ، فولدت له عبد الله . قاله زيد بن حبيب ، نقله الماورديّ . وأكثر أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة . قوله : { ٱلْمُؤْمِنَاتُ } . تسمية للشيء بما يدلي إليه ويقاربه ويشارفه ؛ أو في الظاهر . وقرىء " مُهَاجِرَاتٌ " - بالرفع - وخرجت على البدل . فصل في دخول النساء عقد المهادنة لفظاً أو عموماً اختلفوا هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً أو عموماً ؟ فقالت طائفة : كان شرط ردهن في عقد الهُدنة صريحاً ، فنسخ الله ردّهن من العقد ومنع منه ، وبقاه في الرجال على ما كان ، وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام ، ولكن لا يقرّه الله على خطأ . وقالت طائفة : لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً ، وإنما أطلق العقد في ردِّهن أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال ، فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه ، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين : أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم . الثاني : أنهن أرقّ قلوباً ، وأسرع تقلباً منهم ، فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم . ومن أسلمت فلا تردوها . قوله : { فَٱمْتَحِنُوهُنَّ } . قيل : إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها ، قالت : سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بامتحانهن ، واختلفوا فيما كان يمتحنهن به . فقال ابن عباس : كان يمتحنهن بأن يُسْتَخْلَفْنَ بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقاً لرجل من المسلمين ، ولا لحدث أحدثته ، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام ، وحب الله ورسوله ، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردها ، فذلك قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } . وروي عن ابن عباس أيضاً : أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله . وروى معمر عن الزهري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن إلا بالآية التي قال الله تعالى : { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً } . خرجه الترمذي . وقال حديث حسن صحيح . فصل قال أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشاً من أنه يرد عليهم من جاءه منهم مسلماً ، فنسخ من ذلك النساء . وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن . فصل قال القرطبي : ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد عليهم من جاءه مسلماً ؛ لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز ، وهذا مذهب الكوفيين ، وأجاز مالك عقد الصلح على ذلك . واحتج الكوفيون " بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى قوم خثعم ، فاعتصموا بالسجود فقتلهم ، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بنصف الدية ] وقال : " أنَا بَريءٌ مِن كُلِّ مسلمٍ أقَامَ مع مُشركٍ بدارِ الحَرْبِ لا تَراءَى نَاراهُما " قالوا : فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برىء ممن أقام معهم في دار الحرب . ومذهب مالك والشافعيِّ أن هذا الحكم غير منسوخ . قال الشافعي : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو [ رجل ] يأمره ، فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود . قوله : { ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } . هذه الجملة فائدتها بيان أنه لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، فإن ذلك مما استأثر الله به . قاله الزمخشري . أي : هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، لأنه متولي السرائر ، وسمَّى الظن الغالب في قوله : { عَلِمْتُمُوهُنَّ } علماً لما بينهما من القرب كما يقع الظَّن موقعه ، وتقدم ذلك في البقرة . قوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } . أي : بما يظهرن من الإيمان . وقيل : أي : علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } وقوله : { وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } تأكيد للأول لتلازمهما . وقيل : أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين وهن مؤمنات . فصل في معنى الآية معنى الآية : لم يحل الله مؤمنة لكافر ، وهذا أول دليل على أنَّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها . وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدَّارين . والصحيح الأول ؛ لأن الله - تعالى - بين العلّة ، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار . قوله : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } . أمر الله - تعالى - إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يردّ على زوجها ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهدِ ؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر برد المال حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال . فصل في استحقاق الغرم بالمنع ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر ، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا ، فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع ، وإن كان المسمى خمراً وخنزيراً لم نغرم شيئاً ؛ لانه لا قيمة له . وللشافعي في هذه الآية قولان : أحدهما : أن هذا منسوخ . قال الشافعي : وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهُدْنة مسلمة مهاجرة من الحرب إلى الإمام في دار الإسلام أو دار الحرب ، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض ، وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالة ، ففيه [ قولان ] : أحدهما : أن يعطى [ زوجها ] العوض لهذه الآية . والثاني : لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت امرأته مسلمة العوضَ ، فإن شرط الإمام ردّ النساء كان الشرط باطلاً منسوخاً ، وليس عليه عوض ، لأنه لا عوض للباطل . فصل أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج ، وأن المخاطب بهذا الإمام ، ينفذ من بيت المالِ الذي لا يتعين له مصرف . وقال مقاتل : يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين ، وليس لزوجها الكافر شيء . وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد فأما [ من ] لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يُرَدُّ عليهم الصداق . قال القرطبي : " والأمر كما قال " . قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } . أي : في أن تنكحوهن . وقوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } . يدوز أن يكون ظرفاً محضاً ، وأن يكون شرطاً ، جوابه مقدَّر ، أي : فلا جناح عليكم . فصل ومعنى الآية : ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن أي : مهورهن ، فأباح الله نكاحهن للمسلمين ؛ وإن كان لهن أزواج في دار الكفر ؛ لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكُفَّار . قال القرطبي : أباح نكاحهنَّ إذا أسلمن ، وانقضت عدتهن لما ثبت في تحريم نكاح المشركة المعتدة ، فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال . قوله : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } . قرأ أبو عمرو في آخرين بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين ، وباقي السبعة - بتخفيفها - من " مسَك ، وأمسك " بمعنى واحد . يقال : أمسكت الحبل إمساكاً ، ومسَّكته تمسيكاً ، وفي التشديد مبالغة ، والمخفف صالح لها أيضاً . وقرأ الحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو عمرو ، وابن عامر في رواية عنهما : " تَمَسَّكُوا " - بالفتح في الجميع وتشديد السين - والأصل : " تَتمسَّكُوا " - بتاءين - فحذفت إحداهما . وعن الحسن أيضاً : " تَمْسِكُوا " مضارع " مَسَك " ثلاثياً . والعِصَم : جمع عِصْمَة ، والعِصْمَة هاهنا : النِّكاح ، يقول : من كانت له كافرة بمكة فلا يعقد بها فقد انقطعت عصمتها . و " الكوافر " جمع " كافرة " ، كـ " ضوارب " في " ضاربة " و " صواحب " . ويحكى عن الكرخي الفقيه المعتزلي أنه قال : " الكوافر " يشمل الرجال والنساء . قال الفارسي : فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلاَّ في النساء جمع كافرة . فقال أبو علي : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة ؟ . قال أبو عليٍّ : فبهت ، وقلت : هذا تأييد إلهي . قال شهاب الدين : وإنما أعجب بقوله لكونه معتزلياً ، والحق أنه لا يجوز كافرة وصفاً للرجال إلا أن يكون الموصوف مذكوراً ، نحو : هذه طائفة كافرة ، أو في قوّة المذكور ، أما أن يقال : طائفة باعتبار الطائفة غير المذكورة ، ولا في قوة المذكورة بل لمجرد الاحتمال ، ويجتمع جمع " فَاعِلَة " فهذا لا يجوز ، وقول الفارسي : " لا يَرَونَ هذا إلا في النِّساءِ " فهذ يصح ولكنه الغالب ، وقد يجمع " فاعل " وصف المذكر العاقل على " فواعل " وهو محفوظ نحو : " فوارس ونواكس " . فصل في المراد بالآية قال النخعي : المراد بالآية : المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب ، فتكفر ، وكان الكفار يتزوجون المسلمات ، والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين بـ " مكة " مشركتين : قريبة بنت أبي أمية ، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بـ " مكة " ، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة ، وهما على شركهما ، فلما ولي عمر ، قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قريبة ، لئلا يرى عمر صلبه في بيتك ، فأبى معاوية ، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوَّجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسها ، وتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية . وقال الشعبيُّ : كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، امرأة أبي العاص بن الربيع ، أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأقام أبو العاصِ بـ " مكة " مشركاً ، ثم أتى " المدينة " ، فأسلم ، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى أبو داود عن عكرمة عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما : رد رسول الله ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول ، لم يحدث شيئاً . قال محمد بن عمر في حديثه : بعد ست سنين . وقال الحسنُ بن عليٍّ : بعد سنتين . قال أبو عمر : فإن صح هذا ، فلا يخلو من وجهين : إما أنها لم تحضر حتى أسلم زوجها ، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [ البقرة : 228 ] ، يعني عدتهن ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إن عنى به العدة . قال الزهريُّ في قصة زينب هذه : كانت قبل أن تنزل الفرائض . وقال قتادةُ : كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة ، بقطع العهود بينهم وبين المشركين . فصل في المراد بالكوافر المراد بالكوافر هنا : عبدة الأوثان ، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها . وقيل : هي عامَّة ، نسخ منها نساء أهل الكتاب ، فعلى الأول إذا أسلم وثَنِيّ ، أو مجُوسِيّ ولم تسلم امرأته فرق بينهما ، وهو قول بعض أهل العلم ، منهم مالك والحسن وطاووس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم ، لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } . وقال بعضهم : ينتظر بها تمام العدة ، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد ، واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب ، أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه بـ " مر الظهران " ، ثم رجع إلى " مكة " وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته ، وقالت : [ اقتلوا ] الشيخ الضَّال ، ثم أسلمت بعده بأيام ، فاستقر على نكاحها ، لأن عدتها لم تكن انقضت . قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده ، فكانا على نكاحها . قال الشافعي رحمه الله : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } ؛ لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار ، كما أن المسلمين ، لا تحل لهم الكوافر والوثنيات والمجوسيات لقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ، ثم بينت السُّنَّة أن مراد الله من قوله هذا : أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الثاني منهما في العدة . وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافر من الذميين : إذا أسلمت المرأة ، عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرق بينهما . قالوا : ولو كانا حربيين ، فهي امرأته ، حتى تحيض ثلاث حيض ، إذا كانا جميعاً في دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، وإن كان أحدهما في دار الحرب ، والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما . وقد تقدم أن اعتبار الدار ليس بشيء ، وهذ الخلاف إنما هو في المدخول بها . وأما غير المدخول بها ، فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما ، ولا عدة عليها ، هكذا يقول مالك رحمه الله في المرأة ترتد وزوجها مسلم : تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } ، وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح . وقال الشافعي وأحمد : [ ينظر إلى تمام ] العدة . [ فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ، فمذهب مالك والشافعي ، وأحمد توقف إلى تمام العدة ، وهو قول مجاهد ] . وكذلك الوثني تسلم زوجته ، إن أسلم في عدَّتها ، فهو أحق بها ، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما ، لما ذكر مالك في " الموطأ " . [ قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو شهر ] . قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب ، إلاَّ فرقت هِجْرتُهَا بينها وبين زوجها إلى أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها ، وقال بعضهم : ينفسخ النكاح بينهما ، لما روى يزيد بن علقمة قال : أسلم جدي ، ولم تسلم جدتي ، ففرق بينهما عمر - رضي الله عنه - وهو قول طاوس والحسن وعطاء وعكرمة ، قالوا : لا سبيل له عليها إلا بخطبة . قوله : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } . قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين ، إذا جاء أحد من الكافرات معلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها ، وكان ذلك إنصافاً وعدلاً بين الحالتين . قال ابن العربي رحمه الله : كان هذا حكم الله ، مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة . قال الزهريُّ : ولولا هذه الهدنة ، والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية ، لأمسك النساء ، ولم يرد الصَّداق ، وكذلك يفعل بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ، فلما نزلت هذه الآية أُخطر المؤمنون بحكم الله عزَّ وجلَّ وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله ، فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين ، فأنزل الله - عز وجل - { وإن فاتكم شيء } أيها المؤمنون . قوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي بما ذكر في هذه الآية ، { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . قوله : { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } . فيه وجهان : أحدهما : أنه مستأنف لا محلَّ له من الإعراب . والثاني : أنه حال من : " حكم الله " ، والراجع إما مستتر أي : يحكم هو ، أي : الحكم على المبالغة ، وإما محذوف ، أي : يحكمه ، وهو الظاهر . قوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } . يجوز أن يتعلق بـ " فاتكم " أي : من جهة أزواجكم ، يراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج ، كما تقدم . ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة لـ " شيء " . ثم يجوز في " شيء " ، أن يراد به : المهر ، ولكن على هذا ، فلا بد من حذف مضاف ، أي : من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته . ويجوز أن يراد بـ " شيء " [ النساء ، أي : بشيء من النساء ، أي : نوع وصف منهن ، وهو ظاهر وصفه بقوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } . وقد صرَّح الزمخشري بذلك ، فإنَّه قال : وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أحد منهن إلى الكُفَّار ، وفي قراء أبي مسعود : " أحد " . فهذا تصريح بأن المراد بـ " شيء " : النساء الفارات ] ، ثم قال : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضع فائدة ؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه ألا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قلَّ وحقر غير معوض عنه ، تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه ، ولولا نصّه على أنَّ المراد بـ " شيء " : أحد ، كما تقدم ، لكان قوله : " إلا أن يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر " ، ظاهراً في أن المراد بـ " شيء " : المهر ؛ لأنه يوصف بالقلة والحقارة وصفاً سائغاً وقوله : " تغليظاً " فيه نظر ؛ لأن المسلمين ليس لهم تسبب في فرار النساء إلى الكفار ، حتى يغلظ عليهم الحكم بذلك . وعدي : " فات " بـ " إلى " ؛ لأنه ضمن معنى الفرار والذهاب والسبق ونحو ذلك . قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } ، عطف على " فاتكم " . وقرأ العامة : " عاقبتم " . وفيه وجهان : أحدهما : أنه من العقوبة ، قال الزجاج : " فعَاقَبْتُم " فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم . والثاني : أنَّه من العُقْبة ، وهي التوبة ، شبه ما حكم به على المسلمين ، والكافرين من أداء هؤلاء مهور النساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر . انتهى . وقرأ مجاهد والأعرج والزهري وأبو حيوة وعكرمة وحميد : بتشديد القاف دون ألف . ففسرها الزمخشري على أصله يعقبه : إذا قفاه ؛ لأن كل واحد من المتعاقبين ، يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم - بالتخفيف - يقال : عقبه يعقبه انتهى . والذي قرأه بالتخفيف وفتح القاف : النخعي ، وابن وثاب ، والزهري ، والأعرج أيضاً . وبالتخفيف ، وكسر القاف : مسروق ، والزهري ، والنخعي أيضاً . وعن مجاهد : أعقبتم . قال الزمخشري : معناه : دخلتم في العقبة . قال البغوي : " معناه : أي : صنعتم بهم ، كما صنعوا بكم " . وفسَّر الزجاج القراءات الباقية : فكانت العقبى : أي : كانت الغلبة لكم حتى غنمتم . والظَّاهر أنه كما قال الزمخشريُّ : من المعاقبة بمعنى المناوبة . يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي : جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب - أيضاً . وأنشد بعضهم رحمه الله : [ الطويل ] @ 4761 - وحَارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولَمْ يَكُنْ لِعُقبَةِ قِدْرِ المُستعيرِينَ مُعْقِبُ @@ قال البغوي : " وكلها لغات بمعنى واحد ، يقال : عَاقَبَ وأعقَبَ وتعقَّب وتعَاقَبَ واعتقَبَ ، إذا غنم " . وقيل : التعقيب : غزوة بعد غزوة . فصل روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا ، فنزل قوله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } . روى الزُّهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها وعنهم - قالت : حكم الله عز وجل بينهم ، فقال - جل ثناؤه - : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } ، فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله - عز وجل - بيننا بأنه إذا جاءتكم امرأة منا ، أن توجهوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم ، وجهنا إليكم بصداقها ، فكتبوا إليهم : أما نحن ، فلا نعلم لكم عندنا شيئاً ، فإن كان لنا عندكم شيء ، فوجهوا به ، فأنزل الله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } . الآية . وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة ، يرد بعضهم على بعض . قال الزهريُّ : ولولا العهد ، لأمسك النساء ، ولم يرد إليهم صداقاً . وقال قتادة ومجاهدٌ : إنَّما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وقالا : هي فيما بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد ، وقالا : ومعنى { فَعَاقَبْتُمْ } فاقتصصتم . { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } يعني : الصفات ، فهي عامة في جميع الكفار . وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل . وقال قتادة أيضاً : وإن فاتكم شيء من أزواجكم ، إلى الكفار ، الذين ليس بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، ثم نسخ هذا في سورة براءة . وقال الزهريُّ : انقطع هذا يوم الفتح . وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم . وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضاً . حكاه القشيري . فصل قال القرطبي : الآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم الفهري ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام . وقال البغويُّ : روي عن ابن عبَّاسٍ قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرات ، ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، كانت تحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروعُ بنت عقبة ، وكانت تحت شماس بن عثمان ، وغرة بنت عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأم كلثوم بنت جرول ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما رجعن إلى الإسلام ، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة . فصل في رد مهر من أسلمت اختلفوا في رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن ، هل كان واجباً ، أو مندوباً ؟ وأصله أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء ؟ على قولين : أحدهما : أنه وقع على رد الرجال ، والنساء جميعاً ، لما روي من قولهم : لا يأتيك منا أحد ، إلا رددته ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله : { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ } ، فعلى هذا كان رد المهر واجباً . والثاني : أن الصلح لم يقع على ردّ النساء ؛ لأنه روي أنه لا يأتيك منَّا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته ، وذلك ؛ لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت عليها ؛ لضعف قلبها ، وقلة هدايتها إلى المخرج منه ، بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته ، وهدايته إلى التقية ، فعلى هذا كان رد المهر مندوباً . واختلفوا في أنه يجب به العمل اليوم في رد المال إذا اشترط في معاقدة الكفار فقال عطاء ومجاهد وقتادة : لا يجب ، وزعموا أن الآية منسوخة . وقيل : هي غير منسوخة ، ويرد إليهم ما أنفقوا . فصل في معنى الآية . معنى الآية : إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل " مكة " ، وليس بينكم وبينهم عهد ، ولها زوج مسلم قبلكم ، فغنمتم فأعطوا هذا الزَّوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس ، [ وهو قول ابن عبَّاس رضي الله عنهما ] . وقال الزهري : يعطى من الفيء . وعنه : يعطى من صداق من لحق منا . وقيل : إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم ، فخذوا ذلك منهم { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } ، أي : احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به .