Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 61, Ayat: 2-3)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } . روى الدَّارميُّ في مسنده قال : أنْبَأنَا مُحمَّدُ بنُ كثيرٍ عَنِ الأوزاعيِّ عنْ يَحْيى بْنِ أبِي كثيرٍ عن أبِي سلمةَ عن عبْدِ اللَّهِ بن سلام ، قال : قَعَدنَا مع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا ؟ فأنزل الله - تعالى - : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } حتى ختمها ، قال عبد الله : قرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها ، قال أبو سلمة : فقرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها ، قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة ، فقرأها علينا يحيى ، فقرأها علينا الأوزاعي ، فقرأها علينا محمد ، فقرأها علينا الدارمي . وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : قال عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، [ فلما نزل الجهاد كرهوه ] . [ وقال الكلبي : قال المؤمنون : يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها ] ، فنزلت : { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] ، فمكثوا زماناً يقولون : لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ؟ فدلَّهم الله عليها بقوله : { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] الآية ، فابتلوا يوم أحد ، ففروا ، فنزلت هذه الآية تعبيراً لهم بترك الوفاء . وقال محمَّدُ بنُ كعبٍ : لما أخبر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء " بدر " ، قالت الصحابة رضي الله عنهم اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغنّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد ، فعيرهم الله بذلك . وقال قتادة والضحاك : نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وابتلينا ، ولم يفعلوا . وقال صهيب : كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ، وأنكاهم ، فقتله ، فقال رجل : يا نبي الله ، إني قتلت فلاناً ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف : يا صُهيبُ ، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلاناً ، فإن فلاناً انتحل قتله ، فأخبره ، فقال : أكذلك يا أبا يحيى ؟ قال : نعم ، والله يا رسول الله ، فنزلت الآية في المنتحل . وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ، كانوا يقولون " للنبي " صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم ، وقاتلنا ، فلما خرجوا نكثوا عنهم وتخلفوا . فصل قال القرطبي : " هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي بها " . وفي صحيح مسلم عن أبي موسى : أنه بعث قراء إلى أهل " البصرة " ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل ، قد قرأوا القرآن ، فقال أنتم خيار أهل " البصرة " وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمدُ ، فتقسوا قلوبكم ، كما قست قلوب من قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة تشبهها في الطول والشدة بـ " براءة " ، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها " لَوْ كَان لابْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِنْ مالٍ لابْتَغَى وَادِياً ثَالثاً ، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابنِ آدمَ إلاَّ التُّرابُ " ، وكُنَّا نقرأُ سُورة تُشبههَا بإحْدَى المُسَبِّحاتِ ، فأنْسيتُهَا غير أنِّي قد حفظت منها : " يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقُولُون ما لا تفعَلُونَ ، فتُكْتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة " . قال ابن العربي : وهذا كله ثابت في الدين ، أما قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } فثابتٌ في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة ، وأما قوله : شهادة في أعناقكم عنها يوم القيامة ، فمعنى ثابت في الدين ، فإن من التزم شيئاً لزمه شرعاً ، والملتزم على قسمين : [ أحدهما : النذر ، وهو ] على قسمين : نذر تقرب مبتدأ ، كقوله : لله عليّ صلاة أو صوم أو صدقة ، ونحوه من القرب ، فهذا يلزم الوفاء به إجماعاً . ونذر مباح ، وهو ما علق به شرط رغبة ، كقوله : إن قدم غائبي فعلي صدقة ، أو علق بشرط رهبة ، كقوله : إن كفاني الله شر كذا فعليَّ صدقة ، ففيه خلاف : فقال مالك وأبو حنيفة : يلزم الوفاء به . وقال الشافعي في قول : لا يلزم الوفاء به . وعموم الآية حجة لنا ؛ لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق ، أو مقيد بشرط . وقد قال أصحابه : إن النذر إنَّما يكون بما يقصد منه القربة مما هو من جنس القربة ، وهذا وإن كان من جنس القربة ، لكنه لم يقصد منه القربة ، وإنما قصد منه منع نفسه عن فعل ، أو من الإقدام على فعل . قلنا : القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات ، وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة كجلب نفع أو دفع ضرر ، فلم يخرج عن سنن التكليف ، ولا زال عن قصد التقرب . قال ابن العربي : " فإن كان المقول منه وعداً فلا يخلو أن يكون منوطاً بسبب كقوله : إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت جارية كذا أعطيتك ، فهذا لازم إجماعاً من الفقهاء ، وإن كان وعداً مجرداً . فقيل : يلزم بتعلقه ، واستدلوا بسبب الآية ، فإن روي أنهم كانوا يقولون : لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله هذه الآية ، وهو حديث لا بأس به . وروي عن مجاهد أن عبد الله [ بن رواحة ] لما سمعها قال : " لا أزال حبيساً في الله حتى أقتل " . والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال " . قال القرطبي : " قال مالك : فأما العدد مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له هبة ، فيقول : نعم ، ثم يبدو له ألاَّ يفعل ، فلا أرى ذلك يلزمه " . فصل قال القرطبي : ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس : { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [ هود : 88 ] ، { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] . وخرج أبو نعيمٍ الحافظ من حديث مالكِ بنِ دينارٍ عَنْ ثُمامةَ عن أنس بْنِ مالكٍ ، قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتَيْتُ لَيْلةَ أسْري بِي عَلَى قوْمٍ تُقْرَضُ شِفاهُهُمْ بِمقاريضَ مِنْ نارٍ ، كُلَّما قُرِضتْ عادتْ ، قُلْتُ : مَنْ هؤلاء يَا جِبْريْلُ ؟ . قال : هَؤلاءِ خُطَبَاءُ أمَّتِكَ الذينَ يقُولُونَ ولا يَفْعَلُون ويقرءُونَ كِتَابَ اللَّهِ ولا يعملُون بِهِ " فصل قوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } . استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله ، أما في الماضي ، فيكون كذباً ، وفي المستقبل ، يكون خلفاً ، وكلاهما مفهوم . قال الزمخشري : هي لام الإضافة ، دخلت على " ما " الاستفهامية ، كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : " بم ، وفيم ، وعمَّ " ، وإنما حذفت الألف ؛ لأن " ما " والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالها في كلام المستفهم " ، ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعاً في قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ } ، والاستفهام من الله تعالى مُحَال ؛ لأنه عالم بجميع الأشياء ، والجواب هذا إذا كان المراد حقيقة الاستفهام ، وأما إذا كان أراد إلزام من أعرض عن الوفاء مما وعد أو أنكر الحق وأصرَّ على الباطل فلا . وتأول سفيانُ بنُ عيينة قوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي : لم تقولون [ ما ليس الأمر فيه ] إليكم ، فلا تدرون هل تفعلون ، أو لا تفعلون ، فعلى هذا يكون الكلام محمولاً على ظاهره في إنكار القول . قوله : { كَبُرَ مَقْتَاً } . فيه أوجه : أحدها : أن يكون من باب : " نعم وبئس " ، فيكون في " كَبُر " ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده ، و " أن تقُولُوا " هو المخصوص بالذم ، فيجيء فيه الخلاف المشهور : هل رفعه بالابتداء وخبره الجملة مقدمه عليه ؟ أو خبره محذوف ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، كما تقدم تحريره ؟ . وهذه قاعدة مطردة : كل فعل يجوز التعجّب منه ، يجوز أن يبنى على " فَعُل " - بضم العين - ويجري مجرى " نعم وبئس " في جميع الأحكام . والثاني : أنه من أمثلة التعجّب . وقد عده ابن عصفور في " التعجب " المبوَّب له في النحو ، فقال : " صيغة : ما أفْعَلَهُ ، وأفْعِلْ به ، ولَفَعُل ، نحو : لرمُو الرجل " . وإليه نحا الزمخشري فقال : هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه ، قصد في " كَبُر " : التعجب من غير لفظه ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 4762 - … غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَواؤهَا @@ ثم قال : وأسند إلى : " أن تقولوا " ، ونصب : " مقتاً " ، على تفسيره ، دلالة على أن قوله : { مَا لاَ تَفْعَلُون } : مقت خالص لا شوب فيه . الثالث : أنَّ " كَبُرَ " ليس للتعجب ولا للذم ، بل هو مسند إلى " أن تقولوا " و " مقتاً " : تمييز محول من الفاعلية والأصل : كبر مقتاً أن تقولوا أي : مقت قولكم . ويجوز أن يكون الفاعل مضمراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله : " لِمَ تَقُولُونَ " أي : " كبر أي القول مقتاً " ، و " أن تقولوا " على هذا إما بدل من ذلك الضمير ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أن تقولوا . قال القرطبي : و " مقتاً " نصب بالتمييز ، المعنى : كبر قولهم ما لا تفعلون مقتاً . وقيل : هو حال ، والمقت والمقاتة : مصدران ، يقال : رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبّه الناس . فصل قال القرطبيُّ : قد يحتجّ بهذه الآية في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي .