Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 63, Ayat: 9-11)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } . حذَّر المُؤمنين أخلاق المنافقين ، أي : لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المُنافقُون إذ قالُوا - لأجْلِ الشُّحِّ بأموالهم - : { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } . وقوله : { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } . أي : عن الحجِّ والزكاة . وقيل : عن قراءة القرآن . وقيل : عن إدامة الذكر . وقال الضحاك : عن الصلواتِ الخمس . وقال الحسنُ : عن جميعِ الفرائضِ ، كأنه قال : عن طاعة الله . وقيل : هذا خطاب للمنافقين ، أي : آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب ، { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } يشتغل بالمالِ والولدِ عن طاعةِ ربهِ { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } . قوله : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } . قال ابن عباس : يُريدُ زكاة الأمْوالِ . { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } . قال القرطبي : " هذا يدل على وجوب تعجيل إخراج الزَّكاةِ ولا يجوزُ تأخيرها أصلاً وكذلك سائر العبادات إذا دخل وقتها " . قال ابن الخطيب : وبالجملة فقوله : { لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } تنبيه على المحافظة على الذِّكرِ قبل المَوْتِ . وقوله : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } : تنبيه على الشكر كذلك . قوله : { فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ } . أي : هلاَّ أخَّرتَنِي . وقيل : " لا " صلة ، فيكونُ الكلامُ بمعنى التَّمنِّي . أي لو أخرتني إلى أجل قريب فنسأل الرجعة إلى الدنيا لنعمل صالحاً . روى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : " مَنْ كَانَ لَهُ مالٌ يُبلِّغهُ حَجَّ بَيْتِ ربِّهِ أو يَجبُ عليهِ فِيهِ زكاةٌ فَلمْ يَفْعَلْ ، سَألَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الموْتِ ، فقال رجُلٌ : يا ابْنَ عبَّاسٍ ، اتَّق اللَّهِ ، إنَّما سأل الرَّجعة الكُفَّارُ ، فقال : سأتلُو عليْكَ بذلك قرآناً { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } إلى قوله { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال : فما يوجبُ الزَّكاة ؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعداً ، قال : فما يوجبُ الحجَّ ؟ قال : الزادُ والراحلةُ " . قال القرطبيُّ : ذكره الحليمي في كتاب " منهاج الدين " مرفوعاً ، فقال : وقال ابن عبَّاس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَانَ عِنْدهُ مالٌ يُبلِّغهُ الحَجَّ " الحديث . قال ابنُ العربيِّ : " أخذ ابنُ عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفلِ ، فأما تفسيره بالزَّكاةِ فصحيح كلُّه عموماً وتقديراً بالمائتين . وأما القولُ بالحج ففيه إشكالٌ ؛ لأننا إن قلنا : الحج على التراخي ففي المعصية بالموتِ قبل الحج خلافٌ بين العلماءِ ، فلا تخرج الآية عليه . وإن قلنا : الحج على الفور فالعمومُ في الآية صحيحٌ لأنَّ من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يودُّ لو أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات . وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء ، وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل ، لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها ، وإنما تدخلُ في المتفقِ عليه . والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق بالإجماع أو بنصّ القرآن ؛ لأن ما عدا ذلك لا يتحقق فيه الوعيدُ " . قوله : { فَأَصَّدَّقَ } . نصب على جواب [ التمني ] في قوله : { لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ } . وقرأ أبي وعبد الله وابن جبير : " فأتَصَدَّقَ " ، وهي أصل قراءة العامة ولكن أدغمت الفاء في الصاد . قوله : " وأكُنْ " . قرأ أبو عمرو : " وأكونَ " بنصب الفعل عطفاً على " فأصَّدَّقَ " . والباقون : " وأكُنْ " مجزوماً ، وحذفت الواوُ لالتقاءِ الساكنين . واختلف عباراتُ الناس في ذلك . فقال الزمخشري : " عطفاً على محل " فأصَّدَّقَ " كأنَّه قيل : إنْ أخَّرتني أصَّدقْ وأكُنْ " . وقال ابن عطية : " عطفاً على الموضع : لأنَّ التقدير : إن أخرتني أصَدقْ وأكُنْ ، وهذا مذهب أبي علي الفارسي " . وقال القرطبي : " عطلفٌ على موضع الفاء ، لأن قوله : " فأصدق " لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً ، أي " أصَّدَّقْ " ، ومثله : { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] فيمن جزم . فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غيرُ هذا ، وهو أنه جزمٌ على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني ، ولا موضع له هنا لأنَّ الشرط ليس بظاهر ، وإنما يعطف على الموضع بحيث يظهرُ الشرطُ ، كقوله : { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] فمن جزم عطفه على موضع { فلا هَادِي لَه } ؛ لأنه لو وقع موقعه فعل لانجزم " انتهى . وهذا الذي نقله سيبويه هو المشهور عند النحويين . ونظَّر ذلك سيبويه بقول زهير رحم الله المؤمنين : [ الطويل ] @ 4777 - بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا @@ فخفض " ولا سابقٍ " عطفاً على " مدركٍ " الذي هو خبرُ " ليس " على توهم زيادة الباء فيه قد كثر جرّ خبرها بالباء المزيدةِ ، وهو عكسُ الآية الكريمة ؛ لأنه في الآيةِ جزم على توهُّم سقوطِ الفاءِ ، وهنا خفض على توهُّم وجود الباء ، ولكن الجامع توهم ما يقتضي جواز ذلك . قال شهاب الدين : " ولكني لا أحب هذا اللفظ مستعملاً في القرآن الكريم ، فلا يقال : جزم على التوهم لقبحه لفظاً " . وقال أبو عبيد : رأيت في مصحف عثمان " أكن " بغير واو . وقد فرق أبو حيان بين العطف على الموضع والعطف على التوهم فقال : " الفرقُ بينهما أنَّ العامل في العطف على الموضع موجودٌ ، وأثره مفقودٌ ، والعامل في العطفِ على التوهم مفقود ، وأثره موجود " . انتهى . قال شهاب الدين : " مثال الأول " هذا ضارب زيد وعمراً " فهذا من العطف على الموضع فالعامل وهو " ضارب " موجود ، وأثره وهو النصب مفقود ، ومثال الثاني ما نحن فيه ، فإن العامل للجزم مفقود وأثره موجود ، وأصرحُ منه بيتُ زهيرٍ ، فإن الباء مفقودةٌ وأثرُها موجود ، ولكن أثرها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه ، وكذلك في الآية الكريمة ، ومن ذلك أيضاً بيت امرىء القيس : [ الطويل ] @ 4778 - فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ صَفِيفِ شِواءٍ أو قَدِيدٍ مُعَجَّلِ @@ فإنهم جعلوه من العطف على التوهُّم ، وذلك أنه توهّم أنه أضاف " منضج " إلى " صفيف " وهو لو أضافه إليه فجره فعطف " قديدٍ " على " ضعيفٍ " بالجر توهماً لجرّه بالإضافة " . وقرأ عبيد بن عمير : " وأكُونُ " برفع الفعل على الاستئناف ، أي : " وأنَا أكُونُ " ، وهذا عدةٌ منه بالصلاح . فصل فيما تدل عليه الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الآية تدل على أن القوم لم يكونوا من أهل التوحيد ؛ لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند اللَّه خير في الآخرة . قال القرطبي : " إلا الشَّهيد فإنه يتمنّى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة " . وقال الضحاك : لم ينزل بأحد لم يحج ولم يؤد الزكاة الموت إلا طلب الرجعة وقرأ هذه الآية { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من خير وشرّ . قرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي : بالياء من تحت على الخبر على من مات ، وقال هذه المقالة . والباقون : بالخطاب ، وهما واضحتان . روى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورةَ المُنافقينَ بَرِىءَ مِنَ النِّفَاقِ " والله أعلم .