Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 65, Ayat: 1-1)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } . قال ابن الخطيب : وجه تعلق هذه السورة بآخر ما قبلها ، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } [ التغابن : 18 ] ، وفي أول هذه السورة أشار إلى كمال علمه بمصالح النِّساء ، والأحكام المخصوصة بطلاقهن ، فكأنه بيّن ذلك الكلي بهذه الجزئيات . فصل في هذا الخطاب . وهذا الخطاب فيه أوجه : أحدهما : أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 4780 - فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِوَاكُمُ وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نُقَاخاً ولا بَرْداً @@ الثاني : أنه خطاب له ولأمته ، والتقدير : يا أيها النبي وأمته إذا طلقتم فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه ، كقوله : [ الطويل ] @ 4781 - … إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا … @@ أي : ويدها . كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] ، أي : والبرد . الثالث : أنه خطاب لأمته فقط بعد ندائه - عليه الصَّلاة والسلام - وهو من تلوين الخطاب ، خاطب أمته بعد أن خاطبه . الرابع : أنه على إضمار قول ، أي : يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء . قال القرطبي : قيل : إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب ، وذلك لغة فصيحة ، كقوله : { إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ، والتقدير : يا أيها النبي قل لهم : إذا طلقتم النساء ، فطلقوهن لعدتهن ، وهذا هو قولهم : إن الخطاب له وحده ، والمعنى له وللمؤمنين ، وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله : { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال : { يا أيها الرسول } . قال القرطبي : ويدلّ على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية . روى أبو داود : أنها طُلِّقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلَّقة عدّة ، فأنزل الله - تعالى - العِدّة للطلاق حين طُلقت أسماء ، فكانت أولَّ من أُنزل فيها العدة للطلاق . الخامس : قال الزمخشري : " خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعمّ بالخطاب ؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتباراً لتقدمه وإظهاراً لترؤسه " في كلامٍ حسنٍ . وهذا هو معنى القول الثالث المتقدم . قال القرطبي : وقيل : المراد به نداء النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً له ، ثم ابتدأ : { إذا طلّقتم النساء } ، كقوله تعالى : { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ } [ المائدة : 90 ] الآية فذكر المؤمنين تكريماً لهم ، ثم افتتح فقال : { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ } [ المائدة : 90 ] الآية . وقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ } أي : إذا أردتم ، كقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [ المائدة : 6 ] { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } [ النحل : 98 ] . وتقدم تحقيقه . فصل في طلاق النبي صلى الله عليه وسلم روى ابن ماجة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة ثم راجعها . وعن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة - رضي الله عنها - فأتَتْ أهلها ، فأنزل الله تعالى عليه : { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } ، وقيل له : راجعها فإنها صوَّامة قوَّامة ، وهي من أزواجك في الجنة . ذكره القشيري والماوردي والثعلبي . زاد القُشيريّ : ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } . وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة ، فطلقها تطليقة ، فنزلت الآية . وقال السُّديُّ : نزلت في عبد الله بن عمر ، طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، فإن أراد أن يطلقها فليطلِّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدَّة التي أمر اللَّه أن تطلق لها النساء . وقد قيل : إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعمرو بن سعيد بن العاص ، وعتبة بن غزوان ، فنزلت الآية فيهم . قال ابن العربي : وهذا كله وإن لم يكن صحيحاً فالقول الأول أمثل وأصح ، والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ . فصل في الطلاق روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ مِنْ أبْغَضِ الحَلالِ إلى اللَّهِ الطَّلاقُ " . وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تَزَوَّجُوا ولا تُطَلِّقُوا ، فإنَّ الطَّلاقَ يَهْتَزُّ مِنْه العَرْشُ " . وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُطلِّقُوا النِّساءَ إلاَّ من ريبَةٍ فإنَّ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ ولا الذواقات " . وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا حَلَفَ بالطَّلاقِ ولا اسْتَحْلَفَ بِهِ إلاَّ مُنَافِقٌ " أسنده الثعلبي . وروى الدارقطني عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَا مُعَاذُ مَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعالَى شَيْئاً عَلَى وَجْهِ الأرْضِ أحَبُّ إليْهِ مِنَ العِتَاقِ ، ولا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئاً أبْغَضَ إِليْهِ من الطَّلاقِ ، فإذَا قَالَ الرَّجُلُ لمَمْلُوكَهِ : أنتَ حُرٌّ - إن شَاءَ اللَّهُ - فَهُو حُرٌّ ولا اسْتِثْنَاءَ لَهُ ، وإذَا قَالَ الرَّجلُ لامْرأتِهِ : أنت طَالِقٌ إن شَاءَ الله فَلهُ اسْتِثْنَاؤهُ ، ولا طَلاقَ عَلَيْهِ " . وعن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا أحَلَّ اللَّهُ شَيْئاً أبْغَضَ إلَيْهِ مِنَ الطَّلاقِ ، فَمَن طلَّقَ واسْتَثْنَى فَله ثنياه " . قال ابن المنذر : واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق : فقالت طائفة بجوازه ، وهو مروي عن طاووس . قال حماد الكوفي : والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي . وقال مالك والأوزاعي : لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول . فصل في وجوه الطلاق روى الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : الطلاق على أربعة وجوه وجهان حلالان ، ووجهان حرامان . فأما الحلال ، فأن يطلقها [ طاهراً ] من غير جماع ، وأن يطلّقها حاملاً متبيناً حملها ، وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً ، وأن يطلقها حين يجامعها لا يدري أشْتَمَلَ الرَّحمُ على ولدٍ أمْ لاَ . واعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة ، وكذلك في الطُّهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " وإن شَاءَ طلَّق قَبْلَ أن يمضي " . وطلاق السُّنة : أن يُطلِّقها في طُهْرٍ لم يجامعها فيه ، وهذا في حقِّ المرأة يلزمها العدة بالأقراء . وأما طلاق غير المدخول بها في حيضها ، أو الصغيرة التي لم تحض ، والآيسة بعدما جامعها ، أو طلق الحامل بعد ما جامعها ، أو في حال رؤية الدم لا يكون بدعيًّا ولا سنيًّا لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ثُمَّ ليُطلِّقْهَا طَاهِراً أو حَاملاً " . والخُلْع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه فلا يكون بدعياً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها ، ولولا جوازه في جميع الأحوال لاستفسره . قوله : { لِعِدَّتِهِنَّ } . قال الزمخشري : " مستقبلات لعدتهن " ، كقولك : أتيته لليلة بقيت من المحرم أي : مستقبلاً لها ، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من قبل عدتهن } انتهى . وناقشه أبو حيان في تقدير الحال التي تعلق بها الجار كوناً خاصًّا . وقال : " الجار إذا وقع حالاً إنما يتعلق بكون مطلق " . وفي مناقشته نظر ، لأن الزمخشري لم يجعل الجار حالاً ، بل جعله متعلقاً بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام . وقال أبو البقاء : " لعدَّتهنَّ " أي : عندما يعتد لهن به ، وهن في قبل الطهر . وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب . وقال أبو حيان : " هو على حذف مضاف ، أي : لاستقبال عدتهن ، واللام للتوقيت ، نحو : لقيته لليلة بقيت من شهر كذا " انتهى . فعلى هذا تتعلق اللام بـ " طلقوهن " . وقال الجرجاني : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } صفة للطَّلاق . كيف يكون ، وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة ؟ للإضافة ، وهي أصلها ، أو لبيان السبب والعلة ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ } [ الإنسان : 9 ] . أو بمعنى " عند " كقوله تعالى : { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] أي : عنده . وبمنزلة " في " كقوله تعالى : { أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } [ الحشر : 2 ] ، أي : في أول الحشر . وهي في هذه الآية بهذا المعنى ، لأن المعنى : فطلقوهن في عدتهن ، أي : في الزمان الذي يصلح لعدتهن . فصل في قوله : لعدتهن قال القرطبي : قوله : " لعدَّتِهِنَّ " يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن الأزواج ، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع منه ، وفي الطهر مأذون فيه ، وهذا يدل على أن القرء هو الطهر . فإن قيل : معنى قوله : " فطَلِّقُوهُنَّ لعِدَّتِهِنَّ " أي : في قُبُل عدتهن ، أو لقبل عدتهن وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عمر ، فقبول العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحَيْض ؟ . قيل : هذا هو الدليل الواضح لمن قال : بأن الأقْراءَ هي الأطْهَار ، ولو كان كما قال الحنفي ، ومن تابعه لوجب أن يقال : إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقاً لقبل الحيض لأن الحيض لم يُقْبِل بعد ، وأيضاً إقبال الحيض يكون بدخول الحيض ، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض ، ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطراً قبل انقضاء النهار ثُمَّ إذا طلق في آخر الطهر فبقيّة الطهر قرء ، ولأن بعض القرء يسمى قرءاً ، كقوله تعالى : { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [ البقرة : 197 ] ، يعني شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وكقوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } [ البقرة : 203 ] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني . وقال البغوي : معنى قوله " لِعدَّتهِنَّ " أي : لطهرهن الذي يحضنه من عدتهن ، وكان ابن عبَّاس وابن عمر يقرآن : ( فطلقوهن في قبل عدتهن ) ، والآية نزلت في عبد الله بن عمر . فصل في الطلاق في الحيض من طلق في طهر جامع فيه أو حائضاً نفذ طلاقه ، وأخطأ السُّنة . وقال سعيد بن المسيب في آخرين : لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة ، وإليه ذهبت الشيعة . فصل في طلاق السنة قال عبد الله بن مسعود : طلاق السنة أن يطلقها في كل طُهْر تطليقة ، فإذا كان آخر ذلك ، فتلك العدّة التي أمر الله بها . قال القرطبي : قال علماؤنا : طلاق السُّنة ما جمع شروطاً سبعة : وهو أن يطلقها واحدة ، وهي ممن تحيض طاهراً ، لم يمسّها في ذلك الطُّهر ، ولا تقدمه طلاق في حيض ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه ، وخلا عن العوض ، وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمرو . وقال الشافعي : طلاق السُّنة : أن يطلقها في كل طُهْرٍ خاصة ، ولو طلقها ثلاثاً في طُهْر لم يكن بدعة . قال ابن العربي : " وهذه غفلة عن الحديث الصحيح ، فإنه قال فيه : " مُرةُ فَليُرَاجِعْهَا " وهذا يدفع الثلاث " . وفي الحديث أنه قال : " " أرَأيْتَ لَوْ طَلقَّهَا ثلاثاً " ؟ قَال : " حَرُمَتْ عليْكَ ، وكَانَتْ مِنكَ بِمَعْصيَةٍ " " . وقال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحد سواء . وهو مذهب الشافعي . لولا قوله بعد ذلك : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } [ الطلاق : 1 ] ، وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية ، وبذلك قال أكثر العلماء . قال القرطبي : وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية ، ولكن الحديث فسرها ، وأما قول الشعبي فمردود بحديث ابن عمر . واحتج الشافعي بأن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ، ولم يبلغنا أن أحداً من الصحابة عاب ذلك عليه . وأن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ، فأبانها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب ذلك عليه . وبحديث عويمر العجلاني ، لما لاعن ، قال : يا رسول الله ، هي طالق ثلاثة ، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم . فصل في نزول العدة للطلاق روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية ، أنها طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكُن للمطلقة عدة فأنزل الله - تعالى - حين طلقت أسماء العدّة للطلاق ، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق . قوله : { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } . يعني في المدخول بها ، أي : احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق . قيل : أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، وقيل : للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعة أمر النفقة والسكن . وفي المخاطب الإحصاء أقوال . أحدها : أنهم الأزواج . والثاني : هم الزوجات . والثالث : هم المسلمون . قال ابن العربي : والصحيح أنهم الأزواج ؛ لأن الضمائر كلها من " طَلَّقتُمْ " ، و " أحْصُوا العِدَّة " و " لا تُخْرجُوهُنَّ " على نظام واحد ، فرجع إلى الأزواج ، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق ، لأن الزوج يُحْصِي ليراجع ، وينفق أو يقطع ، وليسكن أو يخرج ، وليلحق نسبه أو يقطع ، وهذه أمور كلها مشتركة بينه وبين المرأة ، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك وكذلك الحاكم يفتقر إلى إحصاء العدة للفَتْوَى عليها ، وفصل الخصومة عند المنازعة ، وهذه فوائد الأمر بإحصاء العدّة . قوله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ } . أي : لا تعصوه . { لا تخرجوهنَّ من بيوتهنَّ } . أي : ليس للزَّوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدّة ، ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت أثِمَتْ ، ولا تنقطع العدّة . فإن قيل : ما الحِكمةُ في قوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ } ولم يقتصر على قوله { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } ؟ . فالجواب : إن في هذا من المبالغة ما ليس في ذاك ، فإن لفظ الرَّبِّ يفهم منه التربية ، وينبه على كثرة الإنعام بوجوه كثيرة ، فيبالغون في التَّقوى حينئذ خوفاً من فوت تلك التربية . فصل في الرجعية والمبتوتة . والرجعية والمبتوتة في هذا سواء ، وذلك لصيانة ماء الرجل ، وهذا معنى إضافة البيوت إليهن ، كقوله تعالى : { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ } [ الأحزاب : 24 ] ، وقوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] فهو إضافة إسكان لا إضافة تمليك ، وقوله { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } يقتضي أن يكون حقًّا على الأزواج ، وقوله : { ولا يخرجن } يقتضي أنه حق على الزوجات ، فلا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض عدتها ، فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت ، فإن وقعت ضرورة أو خافت هدماً أو غرقاً ، فلها أن تخرج إلى منزل آخر ، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غَزْل أو شراء قطن ، فيجوز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً ؛ فإن رجالاً استشهدوا بـ " أحد " ، فقالت نساؤهم : نستوحش في بيوتنا فإذِنَ لهن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن ، فإذا كان وقت الليل تأوي كل امرأة إلى بيتها . وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لخالة جابر لما طلقها زوجها أن تخرج لجداد نخلها . وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد ذاهبة وجائية ، والبدوية تَنْتَوي حيث يَنْتَوي أهلها في العدة ، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم . وقال أبو حنيفة : ذلك في المتوفى عنها زوجها ، وأما المطلقة فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً . وهذا مردود بحديث فاطمة بنت قيس " لما قدمت أرسل زوجها أبو حفص بن عمرو بتطليقة كانت بقيت من طلاقها ، وأرسل إليها وكيله بشير فسخطته ، فقال لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة : والله ما لك من نفقة إلا أن تكوني حاملاً ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما ، فقال : لا نفقة لك " وفي رواية : " ولاَ سَكَنَ " فاستأذنت في الانتقال ، فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ، فلما انقضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ، فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث ، فحدثته ، فقال مروان : لم نسمع بهذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصْمَةِ التي وجدنا النَّاس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : فبيني وبينكم القرآن ، قال الله عز وجل : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } ، قالت : هذا لما كانت له رجعة ، لقوله : { لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً } ، فأي أمر يحدث بعد الثَّلاث ؟ فكيف تقولون : " لا نَفقَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ حامِلاً ، فعلام تَحبسُونهَا " لفظ مسلم . فبين أن الآية في تحريم الإخراج ، والخروج إنما هو في الرجعية . فاستدلّت فاطمة أن الآية إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدتها فكانت تحت تصرف الزوج في كل وقت . وأما البائن فليس له شيء في ذلك ، فيجوز أن تخرج إذا دعتها لذلك حاجة . قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } . قال ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، والشعبي ، ومجاهد : هو الزِّنا ، فتخرج ويقام عليها الحد . وعن ابن عباس أيضاً : أنه البذاء على أحمائها ، فيحل لهم إخراجها . وعن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة : تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها النبي - عليه الصلاة والسلام - أن تنتقل . وفي كتاب أبي داود ، قال سعيد : تلك امرأة فتنت النَّاس ، إنها كانت لسنةً فوضعت على يدي أم مكتوم الأعمى . قال عكرمة : في مصحف أبيٍّ ( إلا أن يفحشن عليْكم ) . ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : اتَّقي الله ، فإنك تعلمين لم أخرجت . وعن ابن عبَّاس أيضاً : أن الفاحشة كل معصية كالزِّنا والسرقة والبذاء على الأهل ، وهو اختيار الطبري . وعن ابن عباس أيضاً والسدي : " الفاحشة خروجها من بيتها في العدة " . وتقدير الآية : إلا أن يأتين بفاحشة لخروجهن من بيوتهن بغير حق ، أي : لو خرجت كانت عاصية . وقال قتادة : " الفاحشة " النشوز ، وذلك أن يطلقها على النُّشوز ، فتتحول عن بيته . وقال ابن العربي : أما من قال : إنه الخروج للزنا ، فلا وجه له ؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القَتْل والإعدام ، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام ، وأما من قال : إنه البذاء ، فهو معتبر في حديث فاطمة بنت قيس ، وأما من قال : إنه كل معصية فوهم ، لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج ، وأما من قال : إنه الخروج بغير حقًّ فهو صحيح ، وتقدير الكلام : لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن شرعاً إلا أن يخرجن تعدِّياً . قوله : { مُّبَيِّنَةٍ } . قرىء : بكسر الياء . ومعناه : أن الفاحشة إذا تفكَّرت فيها تبين أنها فاحشة . وقرىء : بفتح الياء المشددة . والمعنى : أنها مبرهنة بالبراهين ، ومبينة بالحُجَجِ . قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } . أي : هذه الأحكام المبينة أحكام الله على العباد ، وقد منع التجاوز عنها ، فمن تجاوزها فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك . قوله : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } . الأمر الذي يحدث الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليها فيراجعها . وقال جميع المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة ، ومعنى الكلام : التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث ، فإنه إذا طلق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع فلا يجد للرجعة سبيلاً . وقال مقاتل : " بعد ذلك " أي بعد طلقة أو طلقتين " أمراً " أي : المراجعة من غير خلاف . قوله : { لَعَلَّ ٱللَّهَ } . هذه الجملة مستأنفة ، لا تعلُّق لها بما قبلها ، لأن النحاة لم يعدوها في المعلقات . وقد جعلها أبو حيَّان مما ينبغي أن يعد فيهن ، وقرر ذلك في قوله : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } [ الأنبياء : 111 ] . فهناك يطلب تحريره .