Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 66, Ayat: 1-2)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } ؟ . قال ابن الخطيب : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، وذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء ، واشتراك الخطاب في الطلاق في أول تلك السورة يشترك مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة ؛ لأن الطلاق في أكثر الصور يشتمل على تحريم ما أحل الله . وأما تعلّق أول هذه السورة بآخر السورة فلأن المذكور في آخر تلك السورة يدلّ على عظمة حضرة الله تعالى وعلى كمال قدرته وعلمه ، ولما كان خلق السماوات والأرض ، وما بينهما من العجائب والغرائب مما ينافي القدرة على تحريم ما أحلّ الله ، فلهذا قال : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } . فصل في سبب نزول الآية ثبت في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكثُ عند زينب بنت جحش ، فيشرب عندها عسلاً ، قالت : فتواطأت أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فلتقل : إني أجد ريح مغافير ، فدخل على إحداهما ، فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له ، فنزل : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } إلى قوله : { إِن تَتُوبَآ } لعائشة وحفصة " . وعنها أيضاً قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ، فكان إذا صلَّى العصر دار على نسائه ، فدخل على حفصة ، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدتْ لها امرأة من قومها عكة عسل ، فسقت منه رسول الله صلى الله عليه وسلم شربة ، فقلت : أما - والله - لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسَوْدَة ، وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك ، فقولي له : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول لك : لا ، فقولي له : ما هذه الريحُ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح ؛ فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسلٍ ، فقولي : جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرفُطَ ، وسأقول ذلك له ، وقوليه أنت يا صفيةُ ، فلما دخل على سودة قالت سودة : والذي لا إله إلا هو ، لقد كدت أن أبادئه بالذي قالت لي ، وإنه لعلى الباب ، فرقاً منك ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : لا ، قلت : فما هذه الريح ؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل ، قالت : جَرسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ ، فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك ، ثم دخل على صفيّة ، فقالت مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة ، قالت له : يا رسول الله ، ألا أسقيك منه ؟ قال : لا حاجة لي به ، قالت : تقول سودة : سبحان الله ، لقد حرمناه ، قالت : قلت لها : اسكتي " . ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صلى الله عليه وسلم العسل حفصة ، وفي الأولى زينب . وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس : أنه شربه عند سودة . وقد قيل : إنما هي أمّ سلمة ، رواه أسباط عن السديِّ . وقال عطاء بن أبي مسلم . قال ابن العربي : " وهذا كله جهل ، أو تصور بغير علمٍ " . فقال باقي نساه حسداً وغيرة لمن شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير . والمغافير : بقلة أو صمغة متغيّرة الرائحة ، فيها حلاوة ، واحدها : مغفور . وجَرَسَتْ : أكلت ، والعُرْفُطُ : نبت له ريح كريح الخمرِ . وكان - عليه الصلاة والسلام - يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة ، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك . وقال ابن عبَّاس : أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها ، والمرأة أم شريك ، قاله عكرمة . وقيل : إن التي حرّم مارية القبطية ، وكان قد أهداها له المقوقس ملك " الإسكندرية " . قال ابنُ إسحاق : هي من كورة " أنْصِنا " من بلد يقال له : " حفْن " ، فواقعها في بيت حفصة . روى الدارقطني عن ابن عباسٍ عن عمر رضي الله عنهم قال : " دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده ، مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها ، فقالت له : تدخلها بيتي ؟ ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك ، فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة ، فهي عليّ حرام إن قربتها ، قالت حفصة : فكيف تحرم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها ألا يقربها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تَذْكُرِيهِ لأَحدٍ " ، فذكرته لعائشة ، فآلى لا يدخل على نسائه شهراً ، فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلةً ، فأنزل الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } " الآية . قال القرطبي : أصح هذه الأقوال أولها ، وأضعفها أوسطها . قال ابن العربي : " أما ضعفه في السند ، فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم الموهوبة ليس تحريماً لها ؛ لأن من رد ما وُهِبَ له لم يَحْرُمْ عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل ، وأما ما روي أنه حرم مارية القبطية ، فهو أمثل في السند ، وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدون في الصحيح بل روي مرسلاً ، وإنما الصحيح أنه كان في العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة ، فحلف أن لا يشربه ، وأسر ذلك ، ونزلت الآية في الجميع " . فصل في هل التحريم يمين ؟ قوله تعالى : { لِمَ تُحرِّمُ } إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف ، فليس ذلك بيمين ، ولا يحرم قول الرجل : " هذَا عليَّ حَرامٌ " شيئاً ، حاشا الزوجة . وقال أبو حنيفة : أذا أطلق حمل على المأكول والمشروب ، دون الملبوس ، وكانت يميناً توجب الكفارة . وقال زفر : هو يمين في الكل ، حتى في الحركة والسكون ، واستدل المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم العسل ، فلزمته الكفَّارة ، وقد قال تعالى : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فسماه يميناً . قال القرطبي : ودليلنا قول الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } [ المائدة : 87 ] . وقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] . فذم اللَّهُ المُحَرِّمَ للحلال ، ولم يوجب عليه كفارة . قال الزجاجُ : ليس لأحدٍ أن يحرم ما أحلَّ الله ، ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه . فمن قال لزوجته أو أمته ، أنت عليَّ حرام ، فإن لم يَنْوِ طلاقاً ، ولا ظهاراً فهذا اللفظ يوجب عليه كفارة يمين ، ولو خاطب بهذا اللفظ جمعاً من الزوجات والإماء ، فعليه كفارة واحدة . ولو حرم على نفسه طعاماً ، أو شيئاً آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك ، ويجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة . فصل في اختلافهم هل التحريم طلاق ؟ إذا قال الرَّجُلُ لزوجته : " أنْتِ عليَّ حَرَامٌ " . قال القرطبيُّ : " فيه ثمانية عشر قولاً : أحدها : لا شيء عليه ، وبه قال الشعبي ، ومسروق ، وربيعة ، وأبو سلمة ، وأصبغ ، وهو عندهم كتحريم الماءِ ، والطعام ، قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] . والزوجة من الطَّيِّبات ، ومما أحل الله . وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] . فما لم يحرمه الله ، فليس لأحد أن يحرمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراماً ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله : هو حرام عليَّ ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه ، وهو قوله : " واللَّهِ لا أقربُهَا بَعْدَ اليَوْمِ " . وروى البغويُّ في تفسيره : أن حفصة لما أخبرت عائشة ، غضبت عائشةُ ، ولم تزل بنبي الله حتى حلف ألاَّ يقربها ، فقيل له : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } ؟ أي : لم تمتنع منه بسبب اليمين ، يعني : أقدم عليه ، وكفِّر . وثانيها : أنه يمين يكفرها ، قاله أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي ، وهو مقتضى الآية . قال سعيدُ بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ : إذا حرم الرجل عليه امرأته ، فإنما هي يمينٌ بكفرها . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لَقَدْ كَان لكُمْ في رسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنةٌ . يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته ، فقال تعالى : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } إلى قوله : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفَّر عن يمينه ، وصيَّر الحرام يميناً ، خرجه الدارقطني . وثالثها : أنه يجب فيها كفَّارة ، وليست بيمين ، قاله ابن مسعود ؛ لأن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفَّارة على المعنى ، والآية ترده . ورابعها : هي ظهارٌ ، ففيها كفارة الظهارِ ، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق ، ولأنه إنما حرم وطؤها ، والظهار أقل درجات التحريم . وخامسها : أنه إن نوى الظهار كان ظهاراً ، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريماً مطلقاً وجبت كفارة يمين ، وإن لم يَنْوِ فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعي . وسادسها : أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب ، والزهري ، وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون . وسابعها : أنها طلقة بائنة ، قاله حماد بن أبي سليمان ، وزيد بن ثابت ، ورواه ابن خويزمنداد عن مالك ؛ ولأن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة . وثامنها : أنها ثلاث تطليقات . قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت أيضاً ، وأبو هريرة ؛ لأنه التحريم المتيقن . وتاسعها : هي في المدخول بها ثلاث ، وينوي في المدخول بها . قاله علي ابن زيد والحسن والحكم ، وهو مشهور مذهب مالك ؛ لأن غير المدخول بها تبينها الطلقة ، وتحرمها . وعاشرها : هي ثلاث ، ولا ينوي بحال ، ولا في محل ، وإن لم يدخل بها ، قاله عبد الملك في " المبسوطة " ، وبه قال ابن أبي ليلى ؛ لأنه أخذ بالحُكْمِ الأعظم لهما ؛ لأنه لو صرح بالثلاث لغير المدخول بها لنفذ . وحادي عشرها : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي المدخول بها ثلاث ، قاله أبو مصعب ، ومحمد بن الحكم . وثاني عشرها : أنه إن نوى الطَّلاق ، والظهار كان ما نوى ، وإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً ، فإن نوى اثنتين ألزمناه . وثالث عشرها : أنه لا ينعقد نيّة الظِّهار ، وإنما يكون طلاقاً . قاله ابن القاسم . ورابع عشرها : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقاً ، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها ، حتى يكفر كفارة الظِّهار . وخامس عشرها : إن نوى الطلاق ، فما أراد من أعداده ، وإن نوى واحدة فهي رجعية ، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين . وساس عشرها : إن نوى ثلاثاً ، فثلاثاً ، وإن نوى واحدة ، فواحدة ، وإن نوى يميناً ، فهي يمينٌ ، وإن لم ينو شيئاً ، فلا شيء عليه ، وهو قول سفيان ، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور ، إلا أنهما قالا : لم ينو شيئاً فهي واحدة . وسابع عشرها : له نيتُهُ ولا يكون أقلّ من واحدة ، قاله ابن شهاب ، وإن لم ينو شيئاً لم يَكُنْ شيئاً . قال ابن العربي : " ورأيت لسعيد بن جبير ، وهو : الثامن عشر : أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهاراً ، ولست أعلم لها وجهاً ، ولا يبعد في المقالات عندي " . قال القرطبي : وقد روى الدارقطني عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عليَّ حراماً ، فقال : كذبت ، ليست عليك بحرامٍ ، ثم تلا : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } ؟ عليك أغلظ الكفَّارات عتق رقبة ، وقد قال جماعة من المفسرين : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم قاله زيد بن أسلم وغيره " . هذا كله في الزوجة ، وأما الأمةُ [ فليس ] فيها شيء من ذلك إلاَّ أن ينوي العتق عند مالك ، وذهب عامة العلماء إلى أن عليهن كفَّارة يمين . قال ابن العربي : " والصحيح أنها طلقة واحدة ؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله ، وهو الواحدة إلا أن يعدده ، فكذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر ، مثل أن يقول : أنت عليَّ حرامٌ إلا بعد زوج ، فهذا نصف في المراد " . فصل في هذا الاستفهام قال ابن الخطيب : قال صاحب " النظم " : قوله : " لِمَ تُحَرِّمُ " استفهام بمعنى الإنكار ، وذلك من اللَّه نهيٌ ، وتحريم الحلال مكروه ؛ لأن الحلال لا يحرم إلا بتحريمِ اللَّهِ تعالى . فإن قيل : قوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب ، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم ؟ . فالجوابُ : أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب ، بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي . فإن قيل : تحريم ما أحلَّ اللَّهُ غير ممكن ، فكيف قال : لم تحرم ما أحل الله ؟ فالجواب : أن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج ؛ لاعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى ، فالنبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً ؛ فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله - تعالى - فقد كفر ، فكيف يضاف إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - مثل هذا ؟ . قوله : { تَبْتَغِي } . يجوز أن يكون حالاً من فاعل " تُحَرِّمُ " ، أي : لم تحرم مبتغياً به مرضات أزواجك . ويجوز أن يكون تفسيراً لـ " تُحَرِّمُ " . ويجوز أن يكون مستأنفاً ، فهو جواب للسؤال . و " مَرْضَاتَ " اسم مصدر ، وهو الرضا ، وأصله " مرضوة " . والمصدر هنا مضاف إما للمفعول ، أو للفاعل ، أي : ترضي أنت أزواجك أو أن ترْضَيْنَ . والمعنى : يفعل ذلك طلباً لرضاهن { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } أي : لما أوجب المعاتبة { رَّحِيمٌ } برفع المُؤاخذةِ . قال القرطبيُّ : " وقد قيل : إن ذلك كان ذنباً من الصَّغائر ، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن له صغيرة ، ولا كبيرة " . قوله : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . { فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ } أي : بيَّن لكم ، كقوله تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] وقيل : قد أوجب الله . وقال صاحب " النظم " : إذا وصل " فَرَضَ " بـ " عَلَى " لم تحتمل غير الإيجاب كقوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } [ الأحزاب : 50 ] ، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين . قوله : { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . تحليل اليمين كفَّارتها ، أي : إذا أحللتم استباحة المحلوف عليه ، وهو قوله تعالى في سورة " المائدة " : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [ الآية : 89 ] . قال القرطبيُّ : وتحصل من هذا أن من حرم شيئاً من المأكول ، أو المشروب لم يحرم عليه ؛ لأن الكفارة لليمين لا للتحريم ، وأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيءٍ ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرم ، فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ، وإن نوى الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فطلاق بائنٌ ، وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثاً ، وإن قال : نويتُ الكذب دينَ فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء ، وإن قال : كل حلال عليه حرام ، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، ولا يراه الشافعي يميناً ، ويكون في الكفارة وجهان : قوله : { تَحِلَّةَ } . مصدر " حَلّل " مضعفاً ، نحو " تكرمة " ، وهذان ليسا [ مقيسين ] ، فإن قياس مصدر " فَعَّلَ " " التفعيل " إذا كان صحيحاً غير مهموزٍ . فأما المعتل اللام نحو " زكَّى " ومهموزها نحو : " نبَّأ " فمصدرهما " تَفْعِلَةٌ " نحو : " تَزْكِيَةٌ ، وتَنْبِئَةٌ " . على أنه قد جاء " التفعيل " كاملاً في المعتل ، نحو : [ الرجز ] @ 4784 - بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا @@ وأصلها : " تَحْلِلَة " كـ " تَكْرِمَة " فأدغمت ، وانتصابها على المفعول به . فصل في تكفير النبي عن هذه اليمين قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه . وقال الحسنُ : لم يكفر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر . وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة ، والأول أصح ، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك ، وقد تقدم عن زيد بن أسلم أنه - عليه الصلاة والسلام - كفر بعتق رقبةٍ . وعن مقاتل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبةً في تحريم مارية . والله أعلم . فصل في الاستثناء في المين قبل : قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين ، فبين في قوله تعالى : { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ } [ الأحزاب : 38 ] ، أي : فيما شرعه له في النساء المحللات ، أي : حلل لكم ملك اليمين ، فلم تحرم مارية في نفسك مع تحليل الله إياها لك . وقيل : تحلة اليمين الاستثناء ، أي : فرض اللَّهُ لكم الاستثناء المخرج عن اليمين ، ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء ، وإن تخَلَّلَ مُدَّةٌ . وعند الجمهور لا يجوز إلا متصلاً ، فكأنه قال : " استثن بعد هذا فيما تحلف عليه " وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة . قال القرطبيُّ : " والأصل " تحللة " ، فأدغمت ، و " تَفْعِلَة " من مصادر " فَعَّل " كالتوصية والتسمية ، فالتحلية تحليل اليمين ، فكأن اليمين عقد ، والكفارة حلٌّ وقيل : التحلة الكفارة ، أي : أنها تحلُّ للحالف ما حرَّم على نفسه ، أي إذا كفر صار كمن لم يحلف " . فصل قال ابن الخطيب : وتحلة القسم على وجهين : أحدهما : تحليله بالكفارة كما في هذه الآية . وثانيهما : أن يستعمل بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر ، كما روي من قوله - عليه الصلاة والسلام - : " لَنْ تَلِجَ النَّارَ إلا تحِلَّةَ القسمِ " أي : زماناً يسيراً . وقرىء : " كفَّارة أيمانِكُم " . قوله : { وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ } . أي : وليّكم وناصركم في إزالة الحظر ، فيما تحرمونه على أنفسكم ، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفَّارة ، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } .