Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 66, Ayat: 3-5)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَإِذَ أَسَرَّ } . العامل فيه " اذكر " فهو مفعول به لا ظرف . والمعنى : اذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه ، يعني حفصة " حَدِيثاً " يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك . وقال الكلبيُّ : أسرَّ إليها أن أباك عائشة يكونان [ خليفتين ] من بعدي على أمَّتي . وقال ابن عباس : أسرّ أمر الخلافة بعده إلى حفصة ، فذكرته حفصة . روى الدارقطني في سننه عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } ، قال : " اطلعت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم ، فقال : " لا تُخبري عائِشَة " ، قال : فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره اللَّهُ عليه ، " فَعرَّف بعضهُ ، وأعْرَضَ عن بَعْضٍ " ، قال : أعرض عن قولها : " إن أباك وأباها يكُونانِ خَليفَتيْنِ مِنْ بَعْدِي " " كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك بين الناس . { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أخبرت عائشة لمصافاة كانت بينهما ، وكانتا متظاهرتين على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم { وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } أي : أطلعه الله على أنها قد نبأت به . قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } . أصل " نَبَّأ وأنْبَأ ، وأخبر وخبّر ، وحدّث " أن يتعدى لاثنين [ إلى ] الأول بنفسها ، وإلى الثاني بحرف الجر ، وقد يحذف الجار تخفيفاً ، وقد يحذف الأول للدلالة عليه ، وقد جاءت الاستعمالات الثلاثة في هذه الآية فقوله : { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } تعدى لاثنين ، حذف أولهما ، والثاني مجرور بالباء ، أي : " نَبَّأتْ بِهِ غيْرهَا " ، وقوله : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } ذكرهما ، وقوله : { مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا } ذكرهما ، وحذف الجار . وقرأ طلحة بن مصرف : " فلمَّا أنْبَأت " ، وهما لغتان " نَبَّأ وأنْبَأ " . قوله : { عَرَّفَ بَعْضَهُ } . قرأ الكسائي : بتخفيف الراء . قال القرطبي : " وبها قرأ علي ، وطلحة بن مصرف ، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة والكلبي والأعمش عن أبي بكر " . قال عطاء : كان أبو عبد الرحم السلمي إذا قرأ عليه الرجل " عَرَّفَ " مشددة حصبه بالحجارة . وقرأ الباقون : بتشديد الراء . فالتثقيل يكون المفعول الأول معه محذوفاً ، أي " عرَّفَهَا بَعْضَه " ، أي : وقفها عليه على سبيل العَتْب . { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } ، تكرماً منه وحلماً ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم يدل عليه قوله تعالى : { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } ، أي : لم يعرفها إياه ، ولو كانت مخففة لقال في ضده : وأنكر بعضاً . وأما التخفيف : فمعناه جازى على بعضه ، وأعرض عن بعض . قال الفرَّاءُ : وتأويل قوله - عز وجل - : " عَرَفَ " بالتخفيف ، أي : غضب فيه ، وجازى عليه ، كقولك لمن أساء إليك : " لأعرِفنَّ لك ما فعلت " أي : لأجَازِينَّك عليه . فصل في نزول الآية قال المفسرون : إنه أسرَّ إلى حفصة شيئاً فحدثت به غيرها ، فطلقها مجازاة على بعضه ، ولم يؤاخذها بالباقي ، وهو من قبيل قوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 197 ] أي : يجازيكم عليه ، وقوله : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } [ النساء : 63 ] ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل ؛ لأن الله - تعالى - أطلعه على جميع ما أنبأت به غيرها ؛ لقوله تعالى : { وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } . وقرأ عكرمة : " عَرَّافَ " بألف بعد الراء . وخرجت على الإشباع ، كقوله : [ الرجز ] @ 4785 - أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ @@ وقيل : هي لغة يمانية ، يقولون : " عراف زيد عمراً " . وإذا ضمنت هذه الأفعال الخمسة معنى " أعلم " تعدت لثلاثة . وقال الفارسي : " تعدَّت بالهمزة أو التضعيف " . وهو غلط ، إذا يقتضي ذلك أنها قبل التضعيف ، والهمزة كانت متعدية لاثنين ، فاكتسبت بالهمزة ، أو التضعيف ثالثاً ، والأمر ليس كذلك اتفاقاً . فصل في تفسير الآية قال السديُّ : عرف بعضه ، وأعرض عن بعض تكرماً . وقال الحسنُ : ما استقصى كريم قط ، قال الله تعالى : { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } . وقال مقاتل : يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة ، وهو قول حفصة لعائشة : إن أبا بكرٍ وعمر سيملكان بعده . قال المفسرون : إن النبي صلى الله عليه وسلم جازى حفصة ، بأن طلقها طلقة واحدة ، فلما بلغ ذلك عمر ، فقال عمر : لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك ، فأمره جبريل بمراجعتها ، وشفع فيها ، واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً ، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم ، حتى نزلت آية التخيير كما تقدم . وقيل : هم بطلاقها ، حتَّى قال له جبريل : لا تطلقها ، فإنها صوَّامة قوَّامة ، وإنها من نسائك في الجنة ، فلم يطلقها . قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } ، أي : أخبر حفصة بما أظهره الله عليه ، قالت : { مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا } يا رسول الله عني ، فظنت أن عائشة أخبرته ، فقال - عليه السلام - : { نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } الذي لا يخفى عليه شيء . وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الكراهية في وجه حفصة حين رأته مع مارية أراد أن يتراضاها فأسرَّ إليها شيئين : تحريم الأمة على نفسه ، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر ، فأخبرت حفصة بذلك عائشة ، وأطلع اللَّهُ نبيه عليه فعرف حفصة ، وأخبرها بما أخبرت به عائشة ، وهو تحريم الأمة { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } يعني عن ذكر الخلافة ، كره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك بين الناس ، { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } أي : أخبر حفصة بما أظهره اللَّهُ عليه ، قالت حفصة : { مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا } أي : من أخبرك بأني أفشيت السِّرَّ ؟ " قال : { نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } " . قال ابن الخطيب : وصفه بكونه خبيراً بعدما وصفه بكونه عليماً لما أنّ في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم . قوله : { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ } . شرط في جوابه وجهان : أحدهما : هو قوله : { فَقَدْ صَغَتْ } . والمعنى : إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التَّوبة ، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حب ما يحبه ، وكراهة ما يكرهه . و " صَغَتْ " مالت وزاغت عن الحق . ويدل له قراءة ابن مسعود : " فقد زاغت " . قال القرطبيُّ : " وليس قوله { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } جزاء للشرط ؛ لأن هذا الصغو كان سابقاً ، فجواب الشرط محذوف للعلم به ، أي : إن تتوبا كان خيراً لكما ؛ إذ قد صغت قلوبكما " . والثاني : أن الجواب محذوف ، وتقديره : فذلك واجب عليكما ، أو فتاب الله عليكما قاله أبو البقاء ، ودلّ على المحذوف { فَقَدْ صَغَتْ } ؛ لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب . قال شهاب الدين : " وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب ، وكيف يحسن أن يكون جواباً وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جواباً " . وقوله : { قُلُوبُكُمَا } من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيء تثنيتين لو قيل : " قَلبَاكُمَا " ، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما ؛ لأنه لا يشكل . وقد تقدم هذا في آية السرقة في المائدة . ومن مجيء التثنية قوله : [ الكامل ] @ 4786 - فَتَخَالسَا نَفْسَيْهِمَا بنَوافِذٍ كنَوافِذِ العُبُطِ الَّتِي لا تُرْقَع @@ والأحسن في هذا الباب الجمع ، ثم الإفراد ، ثم التثنية . وقال ابن عصفور ، لا يجوز الإفراد إلاَّ في ضرورة ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 4787 - حَمَامَةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمِي سَقاكِ من الغُرِّ الغَوادِي مَطيرهَا @@ وتبعه أبو حيان ، وغلط ابن مالك في كونه جعلهُ أحسن من التثنية . وليس بغلط لكراهةِ توالي تثنيتين مع أمن اللبس . وقوله : " إنْ تَتُوبَا " فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب . فصل في المراد بهذا الخطاب . المراد بهذا الخطاب أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخين الكريمين : عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - حثّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما } أي : زاغت ومالت عن الحق ، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسلِ ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب العسل والنِّساء . قال ابن زيد رضي الله عنه مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده ، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : فقد مالتْ قُلوبكُمَا إلى التوبة . قوله : { وَإِن تَظَاهَرَا } . أصله : " تَتَظاهَرَا " فأدغم ، وهذه قراءة العامة . وقرأ عكرمة : " تَتَظَاهَرَا " على الأصل . والحسن وأبو رجاء ، ونافع ، وعاصم في رواية عنهما : بتشديد الظَّاء والهاء دون ألف ، وكلها بمعنى المعاونةِ من الظهر ؛ لأنه أقوى الأعضاء وأجلها . فصل في معنى تتظاهرا معنى تتظاهرا ، أي : تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء . روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مكثت سنةً ، وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية ، فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه ، فلما رجع وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له ، فوقفت ، حتى فرغ ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضَّأ ، فلما رجع قلت : يا أمير المؤمنين ، من اللَّتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ . فقال : تلك حفصة وعائشة ، قال : فقلت له : والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة ، فما أستطيع هيبةً لك ، قال : فلا تفعل ، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك . وذكر الحديث . قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ } . يجوز أن يكون " هو " فصلاً ، و " مَولاهُ " خبره والمبتدأ جملة " إنَّ " . والمعنى : الله وليُّه وناصره ، فلا يضره ذلك التَّظاهر منهما . قوله : { وَجِبْرِيلُ } . يجوز أن يكون عطفاً على اسم الله تعالى . والمعنى : الله وليه ، وجبريل وليه ، فلا يوقف على " مَولاهُ " ويوقف على جبريل . ويكون { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } مبتدأ ، " والملائكة " معطوفاً عليه ، والخبر " ظَهِيرٌ " ورفع " جبريل " نظراً إلى محل اسم " إن " وذلك بعد استكمال خبرها وقد تقدم مذاهب الناس في ذلك . ويكون " جِبْريلٌ " وما بعده داخلين في الولاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون " جبريل " ظهيراً له بدخوله في عموم الملائكة . ويكون " الملائكةُ " مبتدأ ، و " ظهيرٌ " خبره ، وأفرد لأنه بزنة " فَعِيل " . قال القرطبيُّ : " هو بمعنى الجمع " . قال أبو علي : قد جاء " فعيل " للكثرة ، قال تعالى : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 11 ] . ومعنى : " ظهيرٌ " أي : أعوان ، وهو في معنى ظهراء كقوله تعالى : { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] . ويجوز أن يكون الكلام تم عند قوله " مَولاهُ " ، ويكون " جبريلُ " مبتدأ ، وما بعده عطف عليه ، و " ظهيرٌ " خبر الجميع ، فتختص الولاية بالله ، ويكون جبريل قد ذكر في المعاونة مرتين ، مرة بالتنصيصِ عليه ، ومرة بدخوله في عموم الملائكةِ . وهذا عكس ما في " البقرة " في قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] ، فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له ، وهناك ذكر العام بعد الخاص ، ولم يذكر الناس إلا القسم الأول . وفي " جِبْريل " لغات تقدم ذكرها في " البقرة " . قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } . قال المسيِّبُ ابن شريكٍ : { وَصاَلِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر . وقال سعيد بن جبيرٍ : هو عمر . وقال عكرمة : أبو بكر وعمر . وروى شقيق عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } : أبو بكر وعمر " . وعن أسماء بنت عميسٍ قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنينَ } : علي بن أبي طالب " . وقيل : خيار المؤمنين ، و " صالح " : اسم جنس ، كقوله تعالى : { وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 1 ، 2 ] . قاله الطبريُّ . وقال العلاءُ بنُ زياد ، وقتادة ، وسفيان : هم الأنبياء . وقال ابن زيد : هم الملائكة . وقال السديُّ : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } ليس لفظ الواحدِ ، وإنما هم " صَالِحُو المُؤمِنينَ " فأضاف الصالحين إلى المؤمنين ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى . فصل في هذا التظاهر قيل : كان التَّظاهر منهما في التحكيم على النبي صلى الله عليه وسلم في النفقة ، ولهذا آلى منهن شهراً واعتزلهن . وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال : " دخل أبو بكرٍ يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد النَّاس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحدٍ منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثُمَّ أقبل عمرُ ، فاستأذن ، فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه ، واجماً ساكتاً ، قال : فلأقولن شيئاً أضحكُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت بنت خارجة تسألني النفقة ، فقمت إليها ، فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " هَنُّ حَولِي كما تَرَى يَسْألنَنِي النَّفقَة " فقام أبو بكر إلى عائشة رضي الله عنها يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ، فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده ، ثم اعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً ، أو تسعاً وعشرين ، ثم نزلت عليه : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ } [ الأحزاب : 28 ] حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } [ الأحزاب : 29 ] " الحديث . قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } . الظَّاهر أنه مفرد ، ولذلك كتب بالحاء دون واو الجمع . وجوزوا أن يكون جمعاً - بالواو والنون - حذفت النون للإضافة ، وكتب دون واو اعتباراً بلفظه ، لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين ، نحو : { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ } [ الشورى : 24 ] . و { يَدْعُ ٱلدَّاعِ } [ القمر : 6 ] ، و { سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } [ العلق : 18 ] ، إلى غير ذلك . ومثل هذا ما جاء في الحديث : " أهْلُ القُرآنِ أهْلُ اللَّه وخاصَّتهُ " . قالوا : يجوز أن يكون مفرداً ، وأن يكون جمعاً ، كقوله : { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [ الفتح : 11 ] وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لفظاً . فإذا كتب هذا ، فالأحسن أن يكتب بالواو لهذا الغرض ، وليس ثمَّ ضرورة لحذفها كما في مرسوم الخطِ . وجوز أبو البقاء في " جبريل " أن يكون معطوفاً على الضمير في " مولاهُ " ، يعني المستتر ، وحينئذٍ يكون الفصل بالضمير المجرور كافياً في تجويز العطف عليه . وجوز أيضاً : أن يكون " جبريل " مبتدأ ، و " صالحُ " عطف عليه ، فالخبرُ محذوفٌ ، أي : مواليه . فصل في المراد بصالح المؤمنين قال ابن عباس رضي الله عنهما : أراد بقوله " وصَالحُ المؤمنين " يعني أبا بكر وعمر مواليين للنبي صلى الله عليه وسلم على من عاداه ، وناصرين له : وهو قول المقاتلين . وقال الضحاكُ : خيار المؤمنين . وقيل : كل من آمن وعمل صالحاً . وقيل : كل من برىء من النفاقِ . وقيل : الأنبياء . وقيل : الخلفاء . وقيل : الصحابة . قوله : { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } . قيل : كل " عَسَى " في القرآن واجب إلا هذا . وقيل : واجب ، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - علقه بشرط ، وهو التطليق ولم يطلقهن . قال النحويون : " إنْ طلَّقكُنَّ " شرط معترض بين اسم " عَسَى " وخبرها ، وجوابه محذوفٌ ، أو متقدم ، أي " إنْ طلقَكُنَّ فَعَسى " . وأدغم أبو عمرو القاف في الكاف على رأي بعضهم . قال : وهو أولى من { يَرْزُقُكمْ } [ يونس : 31 ] ، ونحوه لثقل التأنيثِ . قوله : { أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً } . قرىء : مخففاً ومشدداً ، كما تقدم في " الكهف " . والتبديل والإبدال بمعنى كالتنزيل والإنزال . وقوله : { أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } . لأنكن لو كنتن خيراً منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السديُّ . وقيل : هذا وعد من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الآخرة نساء خيراً منهن ، وكان الله عالماً بأنه لا يطلقهن ، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن طلقهن أبدله خيراً منهن تخويفاً لهن ، كقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم ، لا أن في الوجودِ من هو خير من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فصل في الكلام على لفظ مسلمات قوله : { مُسْلِمَاتٍ } إلى آخره . إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص . قال سعيد بن جبير : يعني مخلصاتٍ . وقيل : مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله خاضعات لله بالطاعة { مُّؤْمِنَاتٍ } أي : مصدقات بتوحيد الله . وقيل : مصدقات بما أمرنَ به : ونهين عنه { قَانِتَاتٍ } مطيعات ، والقنوت : الطاعة . وقيل : داعياتٍ بتوحيد الله . وقيل : مصليات " تائبات " أي : من ذنوبهن ، قاله السديُّ . وقيل : راجعاتٍ إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركاتٍ لمحاب أنفسهن ، { عَابِدَاتٍ } أي : كثيرات العبادةِ لله تعالى . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كل عبادة في القرآن فهو التوحيد { سَائِحَاتٍ } أي : صائمات ، قاله ابن عبَّاس والحسن وابن جبير . وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان : مهاجرات . قال زيد : وليس في أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة . والسياحة الجولان في الأرض . وقال الفرَّاء والقتبي وغيرهما : سمي الصائمُ سائحاً ؛ لأن السائحَ لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث وجد الطعام . وقيل : يسحن معه حيثما ساح . وقيل : ذاهبات في طاعة الله تعالى ، من ساح الماءُ إذا ذهب . وقد مضى في سورة براءة . وقرأ عمرو بن فائد : " سَيِّحاتٍ " . فصل في الكلام على الآية . قال ابن الخطيب : فإن قيل : كيف تكون المبدلات خيراً منهن ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين ؟ . فالجواب : إذا طلقهن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لعصيانهن له ، وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بهذه الصفات مع الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم خيراً منهن . فإن قيل : قوله : { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } يوهم التَّكرارَ ؛ لأن المسلمات والمؤمنات سواء ؟ فالجواب : الإسلام هو التصديق باللسان ، والإيمان التصديق بالقلب ، وقد لا يجتمعان فقوله { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } تحقيقاً لاجتماعهما . قوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } . إنما توسطت الواو بين ثيبات وأبكاراً لتنافي الوصف دون سائر الصفات . و " ثَيِّباتٍ " ونحوه لا ينقاس ؛ لأنه اسم جنس مؤنث ، فلا يقال : نساء حورات ، ولا رأيت عينات . و " الثَّيِّبُ " وزنها " فَيعِل " من " ثاب يثوب " أي : رجع ، كأنها ثابت بعد زوال عذرتها . وأصله : " ثَيْوب " كـ " سيِّد وميِّت " أصلهما : " سَيْود ومَيْوت " على الإعلال المشهور . والمعنى : منهن ثيّب ، ومنهن بِكْر . قيل : إنما سميت ثيِّباً ؛ لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها ، وإلى غيره إن فارقها . وقيل : لأنها ثابت إلى بيت أبويها . قال القرطبي : " والأول أصح ؛ لأن ليس كل ثيبت تعود إلى زوج ، وأما البكر : فهي العذراء ، سميت بكراً ؛ لأنها على أول حالتها التي خلقت بها " . قال ابن الخطيب : فإن قيل : ذكر الثيبات في مقام المدحِ ، وهي من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن ؟ . فالجوابُ : يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول - عليه الصلاة والسلام - لاختصاصهن بالمال ، والجمال ، أو النسب ، أو المجموع ، وإذا كان كذلك ، فلا يقدح ذكر الثَّيِّب في المدح ، لجواز ذلك . وقال الكلبيُّ : أراد بالثيِّب مثل : آسية امرأة فرعون ، وبالبكر مثل : مريم ابنة عمران . قال القرطبيُّ : " وهذا إنما يمشي على قول من قال : إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيراً منهن ، والله أعلم " .