Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 67, Ayat: 1-4)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } . " تبارك " تفاعل من البركة وقد تقدم . وقال الحسنُ : تقدّس . وقيل : دام ، فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ، ولا آخر لدوامه { ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } أي : ملكُ السموات والأرض في الدنيا والآخرة . وقال ابن عبَّاس : { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } : يعزّ من يشاء ، ويذل من يشاء ، ويُحيي ويميت ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع . قال ابن الخطيب : هذه اللفظة تستعمل لتأكيد كونه - تعالى - ملكاً ومالكاً كما يقال : بيد فلان الأمر ، والنهي ، والحل والعقد ، ولا مدخل للجارحة . قال الزمخشريُّ : { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } كل موجود ، وهو على كل ما لم يوجد قدير : قوله : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . يدل على أن المعدوم شيء ؛ لأن قدرة الله لا تتعلق بالموجود ؛ لأن القدرة مؤثرة ، والعدم نفي محض ، فلا يكون أثراً لها ، فوجب أن يكون المعدوم شيئاً . فصل في أنه لا مؤثر إلا قدرة الله احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا مؤثر إلا قدرة الله ، وأبطلوا القول بالطَّبائع كقول الفلاسفة ، وأبطلوا القول بالمتولدات كقول المعتزلة ، وأبطلوا القول بكون العبد موجوداً لأفعالٍ نفسيةٍ ، لقوله : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . فصل في وحدانية الله دلّت هذه الآية على الوحدانية ؛ لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً ، فإما أن يقدر على إيجاد الشيء أولاً ، فإن لم يقدر على إيجاد شيء لم يكن إلهاً ، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً ، فيلزم كون ذلك للإله الأول لقوله { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيلزم وقوع مخلوق من خالقين ، وهو محال ؛ لأنه إذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد ، ويلزم أن يستغنى بكلّ واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال . فصل في الرد على جهم احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء ، فقال : لوكان شيئاً لكان قادراً على نفسه لقوله تعالى : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لكن كونه قادراً على نفسه محال ، فيمتنع كونه شيئاً . والجواب : لما دلّ قوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهُ } [ الأنعام : 109 ] على أنه - تعالى - شيء وجب تخصيص هذا العموم ، فإذن دلّت هذه الآيةُ على أنَّ العامَّ المخصوص واردٌ في كتاب الله تعالى ، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز ، بل واقع . قوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } . قيل : خَلَق الموت في الدنيا ، والحياة في الآخرة ، وقدم الموت على الحياة ، لأن الموت إلى القهر أقرب ، كما قدم البنات على البنين فقال : { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً } [ الشورى : 49 ] . وقيل : قدمه ؛ لأنه أقدم ، لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنُّطف والتراب ونحوه . وقال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ اللَّه تعالى أذلَّ بَنِي آدَمَ بالموتِ ، وجَعلَ الدُّنْيَا دَار حياةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ ، وجَعَل الآخِرةَ دَارَ جزاءٍ ، ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ " . وعن أبي الدَّرداء أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَوْلاَ ثلاثٌ ما طَأطَأ ابنُ آدَمَ رَأسهُ : الفَقْرُ ، والمَرَضُ والمَوتُ " . وقيل : إنما قدم الموت على الحياة ؛ لأن من نصب الموت بين عينيه ، كان أقوى الدواعي له إلى العمل الصالح . قال ابن الخطيب : قالوا : الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، واختلفوا في الموت . فقيل : إنه عبارة عن عدم هذه الصفة ، وقال أصحابنا : إنه صفة وجودية مضادة للحياة ، واحتجوا بقوله تعالى : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ } والعدم لا يكون مخلوقاً ، وهذا هو التحقيق . وروى الكلبي عن ابن عبَّاسٍ : أن الله - تعالى - خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ، ولا يجد رائحته شيء إلاَّ مات ، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البَغْل لا تمر بشيء ، ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي على ما سيأتي . قال ابن الخطيب : وهذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل ، والتصوير ، وإلا فالتحقيق ما ذكرنا . فصل في الموت والحياة حكى ابنُ عباس ، والكلبي ومقاتلٌ : أن الموت والحياة يجسمان ، فالموت في هيئة كبْش لا يمر بشيء ، ولا يجد ريحه إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاءَ وهي التي كان جبريل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يركبونها ، خطوتُها أمدُ البصر فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء يجد ريحاً إلا يحيى ، ولا تطأ على شيء إلا حيي ، وهي التي أخذ السَّامري من أثرها ، فألقاها على العِجْل فحيي . حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس ، والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي . وعن مقاتل : " خَلَقَ المَوْتَ " يعني : النُّطفة والعلقة والمُضغة ، وخلق الحياة ، يعني خلق إنساناً ، ونفخ فيه الروح ، فصار إنساناً . قال القرطبيُّ : وهذا حسن ، يدل عليه قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } . قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ } . متعلق بـ " خلق " . وقوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } تقدم مثله في أول " هود " [ الآية 7 ] . وقال الزمخشريُّ هنا : " فإن قلت : من أين تعلق قوله { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ، بفعل البلوى ؟ قلت : من حيث إنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملاً ، وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملاً أم هو ؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثَّاني من مفعوليه كما تقول : علمته هو أحسن عملاً ، فإن قلت : أتسمي هذا تعليقاً ؟ . قلت : لا ، إنما التعليق أن يقع بعده ما يسد مسدَّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق ، ألا ترى أنه لا فرق بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الاستفهام وغير مصدر به ، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك : عَلِمْتُ أزيدٌ منطلق ، وعلمت زيداً منطلقاً " . قال شهاب الدين : " وهذا الذي منع تسميته تعليقاً سماه به غيره ويجعلون تلك الجملة في محل ذلك الاسم الذي يتعدى إليه ذلك الفعل ، فيقولون في : " عَرفتُ أيُّهُمْ منطلقٌ " : إن الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافضِ ؛ لأن " نظر " يتعدى به " . فصل في اللام في قوله : ليبلوكم قال الزَّجَّاجُ : اللام في " لِيَبْلوَكُمْ " تتعلق بخلقِ الحياة ، لا بخلق الموت . وقال الفراء والزجاج أيضاً : لم تقع البلوى على " أي " لأن فيما بين البلوى و " أي " إضمار فعل كما تقول : " بَلوْتُكمْ لأنْظُر أيكم أطوع " ، ومثله قوله تعالى : { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } [ القلم : 40 ] ، أي : سلهم ، ثم انظر أيهم فأيهم ، رفع بالابتداء ، والمعنى : ليبلوكم ليعلم ، أو فينظر أيكم أحسن عملاً . قال ابن الخطيب : " أيُّكُمْ " مبتدأ ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . فصل في الابتلاء الابتلاءُ : هو التجربة ، والامتحان ، حتى يعلم أنه هل يطيع ، أو يعصي ، وذلك في حق العالم بجميع المعلومات مُحَال ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في قوله تعالى : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [ البقرة : 124 ] . والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر . فصل في تفسير الآية قال السديُّ في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي : أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً . وقال ابن عمر : " تلا النبي صلى الله عليه وسلم : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } حتَّى بلغ { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فقال : " أورعُ عن محَارمِ اللَّهِ ، وأسرعُ في طاعةِ اللَّهِ " " . وقيل : يعاملكم معاملة المختبر ، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره ، وبالحياة ليبين شكره . وقيل : خلق الله الموت للبعث ، والجزاء ، وخلق الحياة للابتلاء " وهُوَ العَزِيزُ " في انتقامهِ ممن عصاه " الغَفُورُ " لمن تاب . فصل فيمن قالوا : إن فعل الله يكون لغرض احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله : " ليَبْلُوكُمْ " قالوا : وهذه اللام للغرض كقوله تعالى { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، والجواب : أن الفعل في نفسه ليس بالابتلاء ، إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي به مجازاً ، فكذلك هاهنا ، إنه يشبه الغرض ، وإن لم يكن في نفسه غرضاً فقدم حرف الغرضِ . قوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } . يجوز أن يكون الموصول تابعاً للعزيز الغفُورِ ، نعتاً ، أو بياناً أو بدلاً . وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ ، أو مفعول فعل مقدر . وقوله : " طِباقَاً " صفة لـ " سَبْعَ " ، وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه جمع طبق ، نحو : جبل وجبال . والثاني : أنه جمع طبقة ، نحو : رحبة ورحاب . والثالث : أنه مصدر طابق ، يقال : طَابَقَ مُطابَقَةَ وطِبَاقاً . ثم إما أن تجعل نفس المصدر مبالغة ، وإما على حذف مضاف ، أي : ذات طباق ، وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر ، أي : طوبقت طباقاً . من قولهم : طابق الفعل ، أي : جعله طبقةً فوق أخرى . روي عن ابن عباس : " طِبَاقاً " ، أي : بعضها فوق بعض ، والملتصق منها أطرافها . قال القرطبيُّ : وقيل : مصدر بمعنى المطابقة ، أي : خلق سبع سمواتٍ ، ويطبقها تطبيقاً أو مطابقة على طوبقت طباقاً ؛ لأنه مفعول ثان ، فيكون " خَلَقَ " بمعنى جعل وصيّر . وقال أبان بن تغلب : سمعت بعض الأعراب يذم رجلاً ، فقال : شره طباق ، وخيره غير باق . ويجوز في غير القرآن " سَبْعَ سماواتٍ طباقٍ " بالخفض على النَّعت لـ " سماواتٍ " نظيره : { وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ } [ يوسف : 42 ] . فصل في الدلالة على القدرة قال ابن الخطيب : دلّت هذه الآية على القدرة من وجوه . أحدها : من حيث بقاؤها في جو الهواء متعلقة بلا عماد ولا سلسلة . وثانيها : من حيث إن كل واحد منها اختصّ بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص . وثالثها : أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة ، والبطء إلى جهة معينة . ورابعها : كونها في ذواتها محدثة ، وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة . قوله { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } . " تَفاوتٍ " هو مفعول " ترى " و " مِنْ " مزيدة فيه . وقرأ الأخوان : " تَفَوُّت " بتشديد الواو دون ألف . قال القرطبيُّ : " وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه " . والباقون : بتخفيفها بعد ألف ، وهما لغتان بمعنى واحد ، كالتعهُّد والتَّعاهد والتَّظاهر والتَّظهُّر والتَّصغُّر والتَّصاغُر والتَّحمُّل والتَّحامُل والتَّضاعف والتضعف والتَّباعد والتبعُّد ، قاله الفرَّاء . وقال الأخفش : " تَفَاوُتٍ " أجود ؛ لأنهم يقولون : تفاوت الأمر ، ولا يكادون يقولون : " تفوت " . واختيار أبي عبيد : " تفوت " ، يقال : تفاوت الشيء إذا فات . واحتج بما روي في الحديث : أنَّ رجُلاً تفوَّت على أبيهِ في مالهِ . وقال عبد الرحمن بن أبي بكر : " أمثلي يتفوت عليه في ماله " . قال النحاس : وهذا مردود على أبي عبيد ، لأن " يتفوت " أي : يضاف في الحديث ، " تفاوُتٍ " في الآية أشبه ، كما يقال : تباين ، تفاوت الأمر إذا تباين ، أو تباعد ، أي : فات بعضها بعضاً نقله القرطبي . وحكى أبو زيد : تفاوت الشَّيء تفاوُتاً بضم الواو وفتحها وكسرها . [ والقياس ] : الضَّمُّ كالتقابل ، والفتح والكسر شاذان . والتفاوت : عدم التناسب ؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر ، وهذ الجملة المنفية صفة لقوله : " طِبَاقاً " وأصلها : ما ترى فيهن ، فوضع مكان الضمير . قوله : { ما ترى في خلقِ الرَّحمنِ } تعظيماً لخلقهن ، وتنبيهاً على سببب سلامتهن ، وهو أنه خلق الرحمن ، قاله الزمخشري . وظاهر هذا أنها صفة لـ " طِبَاقاً " ، وقام الظاهر فيها مقام المضمر ، وهذا إنما يعرف في خبر المبتدأ ، وفي الصلة على خلاف فيهما وتفصيل . وقال أبو حيَّان : الظَّاهر أنه مستأنفٌ ، وليس بظاهر لانفلات الكلام بعضه من بعض ، و " خَلق " مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف ، أي : في خلق الرحمن السماواتِ ، أو كل مخلوق ، وهو أولى ليعم ، وإن كان السياق مرشداً للأول . فصل في معنى الآية والمعنى ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ، ولا تناقض ، ولا تباين ، بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها ، وإن اختلفت صوره وقيل : المراد بذلك السماوات خاصة ، أي : ما ترى في خلق السماوات من عيب ، وأصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئاً ، فيقع الخَلَل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس : من تفرق . وقال السديُّ : " مِنْ تفَاوُتٍ " أي : من اختلاف ، وعيب بقول الناظر : لو كان كذا كان أحسن . وقيل : " التفاوت " الفطور ، لقوله بعد ذلك : { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ ق : 65 ] . قال القفَّالُ - رحمه الله - : ويحتمل أن يكون المعنى : { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } في الدلالة على حكم الصانع ، وأنه لم يخلقها عبثاً . فصل في الخطاب في الآية لمن ؟ الخطاب في قوله تعالى : { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } إما للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب ، وكذا القول في قوله { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ } ، { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } . فصل فيما تدل عليه الآية دلت هذه الآية على كمال علم اللَّه ، وذلك أن الحسّ دل على أن هذه السماوت السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان ، وكل فاعلٍ كان فعله محكماً متقناً ، فلا بد وأن يكون عالماً ، فدلت الآيةُ على كونه - تعالى - عالماً بالمعلومات بقوله : { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } إشارة إلى كونها محكمة متقنة . فصل فيمن اعتبر المعاصي ليست من خلق الله احتج الكعبيُّ بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله ، قال : - لأنه تعالى - نفى التَّفاوت عن خلقهِ ، وليس المرادُ نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص ، والعيب ، فوجب حمله على نفي التفاوت بين خلقه من حيث الحكمة ، فدل من هذا الوجه على أنَّ أفعال العبادِ ليست من خلقه لما فيها من التَّفاوت الذي بعضه جهل ، وبعضه سفه . والجواب : أنا نحمله على أن لا تفاوت فيها بالنسبة إليه من حيث إنَّ الكُلَّ يصح عنه بحسب القدرة والإرادة والداعية ، وأنه لا يقبح منه شيء أصلاً . فصل في السموات السَّبع روى البغويُّ عن كعب - رضي الله عنه - أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية : مرمرة بيضاء ، والثالثة : حديد ، والرابعة ، صُفْرٌ ، وقال : نحاس ، والخامسة : فضّة ، والسادسة : ذهب ، والسَّابعة : ياقوتة حمراء ، وبين السماء السَّابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور . قوله { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ } . مسبب عن قوله { مَّا تَرَىٰ } . و " كرتَيْنِ " نصب على المصدر كمرتين ، وهو مثنّى لا يراد به حقيقته ، بل التكثير بدليل قوله : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : مزدجراً وهو كليل ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ، ولا ثلاث ، وإنما المعنى كرات ، وهذا كقولهم : " لَبَّيْك وسعْديْكَ وحنَانيْكَ ، ودَوالَيْك ، وهَذَاذَيْكَ " لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد ، إنما يريدون التكثير أي : إجابة لك بعد أخرى . وإلا تناقض الغرض ، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة ؛ كقوله : [ البسيط ] @ 4791 - لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وقَبْرٌ كانَ أكْرمَهُمْ … @@ أي : قبور كثيرة ليتم المدح . وقال ابن عطية : " كَرَّتَيْنِ " معناه : مرتين ، ونصبها على المصدر . وقيل : الأولى ليرى حسنها ، واستواءها ، والثانية لينظر كواكبها في سيرها ، وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط . قوله : { هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } . هذه الجملة يجوز أن تكون متعلقة لفعل محذوف يدلّ عليه " فارْجعِ البصَرَ " مضمناً معنى " انظُر " ؛ لأنه بمعناه ، فيكون هو المعلق . وأدغم أبو عمرو : لام " هَلْ " في التاء هنا وفي " الحَاقَّة " ، وأظهرهما الباقون ، وهو المشهور في اللغة . والفطور : جمع فطرٍ ، وهو الشَّقُّ ، يقال : فطره فانفطر ، ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شقّ ، ومعناه : شق اللحم وطلع . قال المفسرون : " الفُطُور " الصُّدوع والشُّقوق ؛ قال الشاعر : [ الوافر ] @ 4792 - شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ هَواكِ فَلِيطَ فالتأمَ الفُطُورُ @@ قوله : " ينقلبْ " . العامة : على جزمه على جواب الأمرِ . والكسائي في رواية برفعه . وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون حالاً مقدرة . والثاني : أنه على حذف الفاءِ ، أي : فينقلب . و " خَاسِئاً " حال وقوله : " وهُو حَسِيرٌ " حال ، إما من صاحب الأولى ، وإما من الضمير المستتر في الحال قبلها ، فتكون متداخلة . وقد تقدّمتا " خاسئاً " و " حسير " في " المؤمنين " و " الأنبياء " . فصل في تفسير الآية لما قال : { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } كأنه قال بعده : ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك البصر الواحد ، ولا يعتمد عليه لاحتمال وقوع الغلطِ في النظرة الواحدة ، ولكن ارجع البصر ، واردد النظر مرة أخرى ، حتى يتيقّن لك أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتَّة . قال القرطبي : أمر أن ينظر في خلقه ليعتبروا به ، ويتفكَّروا في قدرته ، فقال : { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } أي : اردُدْ طرفك إلى السماء ، ويقال : قلَّب بصره في السماء ، ويقال : اجتهد بالنَّظر إلى السَّماء ، والمعنى متقارب ، وإنما قال : " فارْجع " - بالفاء - وليس قبله فعل مذكُور ؛ لأنه قال : " مَا تَرَى " والمعنى : انظر ، ثم ارجع البصر هل ترى من فُطورٍ ، قاله قتادة . قال مجاهد والضحاك : و " الفطور " الشقوق . وقال قتادة : من خلل . وقال السديُّ : من خروق . وقال ابن عبَّاس : مِنْ وهَنٍ . وقوله : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } في موضع المصدر ؛ لأن معناه : رجعتين . لأن الإنسان إذا نظر في الشَّيء مرتين ترى عينه ما لم تنظره مرة أخرى ، فأخبر تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرَّتين لا يرى فيها عيباً ، بل يتحيّر بالنظر إليها . وقال ابن الخطيب : " معناه أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل ، والعيب ، بل يرجع إليك " خَاسِئاً " أي : مبعداً صاغراً عن أن يرى شيئاً من ذلك من قولك : خسأت الكلب إذا باعدته ، وطردته " . وخسأ الكلب بنفسه ، يتعدى ولا يتعدَّى ، وانخسأ الكلب أيضاً ، وخسأ بصره أيضاً خَسْأً وخسوءاً ، أي : ستر . قال ابن عبَّاسٍ : الخاسىء الذي لم يرَ ما يهوى . وقال المبردُ هاهنا : الخاسىء المبعد المصغر . وقوله : " وهُو حَسِيرٌ " أي : قد بلغ الغاية في الإعياء ، فهو بمعنى " فاعل " من الحسور الذي هو الإعياء ، ويجوز أن يكون مفعولاً من حسرهُ بعدُ الشيء وهو معنى قول ابن عبَّاسٍ ؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ] @ 4793 - مَنْ مَدَّ طَرْفاً إلى ما فَوْقَ غَايَتِهِ إرتدَّ خَسْآنَ مِنهُ الطَّرْفُ قَدْ حُسِرَا @@ يقال : حسر بصره يحسر حسوراً ، أي : كلَّ وانقطع نظره من طول مدى ، وما أشبه ذلك ، فهو حسير ومحسور أيضاً . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 4794 - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى فعَادَ إليَّ الطَّرْفُ وهوَ حَسِيرُ @@ وقيل هو النادم ؛ قال : [ الرمل ]