Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 67, Ayat: 5-11)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } ، أي : السماء القربى ؛ لأنها أقرب السماوات إلى النَّاس ، والمعنى : السَّماء الدُّنيا من النَّاس أي : الدنيا منكم لأنها " فعلى " تأنيث " أفعل " التفضيل ، " بِمصَابِيحَ " جمع مصباح وهو السِّراجُ ، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وسماها زينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح ، فكأنه قال : ولقد زيَّنَّا سقف الدارِ التي اجتمعتم فيها بمصابيح الأنوار . قوله : { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } . الضمير في " وَجَعَلْنَاهَا " يجوز فيه وجهان : أظهرهما : أنه يعود على " مَصَابِيحَ " . قيل : وكيفية الرَّجْم أن توجد نار من ضوء الكواكب يرمي بها الشيطانُ ، والكوكب في مكانه لا يرجم به . قاله أبو علي جواباً لمن قال : كيف تكون زينةً وهي رجوم لا تبقى ؟ . قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكوكب . والثاني : أن الضمير يعود على السماء ، والمعنى : وجعلنا منها ؛ لأن ذات السماء ليست للرجوم . قاله أبو حيان . وفيه نظر لعدم عود الضمير على السَّماء . قال القرطبي : والمعنى جعلنا شُهُباً ، فحذف المضاف ، بدليل قوله { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] ، قال : وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها . قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق دون موضع الكوكب . وقال القشيريُّ : وأحسن من قول أبي علي أن نقول : هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين . والرجوم : جمع رجمٍ ، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير . ويجوز أن يكون باقياً على مصدريته ، ويقدر مضاف ، أي : ذات رجوم . وجمع المصدر باعتبار أنواعه ، فعلى الأول يتعلق قوله : " للشَّياطينِ " بمحذوف على أنه صفة لـ " رُجُوماً " . وعلى الثاني : لا تعلق له ؛ لأن اللام مزيدة في المفعول به ، وفيه دلالة حينئذ على إعمال المصدر منوناً مجموعاً . ويجوز أن تكون صفة له أيضاً كالأول ، فيتعلق بمحذوف . وقيل : الرجوم هنا الظنون ، والشياطين : شياطين الإنس . كما قال : [ الطويل ] @ 4796 - … ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ @@ فيكون المعنى : جعلناها ظُنُوناً ورجوماً بالغيبِ ، لشياطين الإنس ، وهم الأحكاميون من المنجمين . فصل في خلق النجوم قال قتادةُ : خلق الله النُّجوم لثلاثٍ : زينة السَّماءِ ورجوماً للشياطين ، وعلاماتٍ يهتدى بها في البرِّ والبحرِ والأوقاتِ ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به ، وتعدى ، وظلم . وقال محمد بن كعب : والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم يتَّخذون الكهانة ، ويتَّخذون النُّجوم علةً . فصل قال ابن الخطيب : ظاهر الآيةِ لا يدلّ على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا ؛ لأن السماوات إذا كانت شفافة ، فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا ، أو في سماوات أخرى فوقها ، فهي ولا بُد أن تظهر في السَّماء الدنيا ، ولتلوح منها ، فعلى التقدير تكون السماء الدنيا متزينة ، واعلم أنَّ أصحاب الهيئةِ اتفقوا على أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن الذي فوق كرات السياراتِ ، واحتجوا أن بعض الثوابت في الفلك الثامن ، فيجب أن تكون كلها هناك . وإنما قلنا : إن بعضها في الفلك الثامن ، لأن الكواكب القريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات ، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة وإنما قلنا : إن الثوابت لما كانت في الفلك الثَّامن وجب أن تكون كلها هناك ؛ لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة ، فلا بُدَّ وأن تكون مركوزةً في كرة واحدة . قال ابن الخطيب : وهذه استدلالاتٌ ضعيفة ؛ فإنه لا يلزم من كون بعض الثَّوابت فوق السيارة كون كلها هناك ؛ لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر ، وتكون في النظر مساوية لكرة الثوابت ، وتكون الكواكب المركوزة فيها مقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية ؛ إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة ، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون المصابيح مركوزة في سماء الدنيا ، فثبت بهذا ضعف مذاهب الفلاسفة . فصل في سبب الرجوم قال ابن الخطيب : يروى أن السبب في الرجوم أن الجن كانت تسمع خبر السماء فلما بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورجمت الشياطين ، فمن جاء منهم مسترقاً للسمع رمي بشهاب ، فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض ، فيلقيه إلى النَّاس ، فيختلط على النبي أمره ، ويرتاب النَّاس بخبره . ومن النَّاس من طعن في هذا من وجوه : أحدها : أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة ، قالوا : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس إذا بلغ النَّار التي دون الفلك احترق بها ، فتلك الشعلة هي الشهاب . وثانيها : أن الجن إذا شاهدوا جماعة منهم يسترقون ، فيحرقون إن امتنع أن يعودوا لذلك . وثالثها : أن ثُخْنَ السماء مسيرة خمسمائة سنةٍ ، فالجن لا يقدرون على خرقها ؛ لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور ، وثخنها يمنعهم من السمع لأسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم ، وإذا سمعوه من ذلك البعد ، فهم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض . ورابعها : أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة ، إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ ، أو لأنهم نقلوها من وحي الله إليهم ، وعلى التقديرين ، فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يمكنوا الجن من معرفتها . وخامسها : أن الشياطين مخلوقون من النار ، والنار لا تحرق النار ، بل تقويها . وسادسها : إن كان هذا القذف لأجل النبوة فلم بقي بعدها ؟ . وسابعها : أن هذ الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض ، لأنا نشاهدها بالعين ، ومع البعد لا نشاهدها كما لا نشاهد حركات الكواكب . وثامنها : إن كانت الشياطين ينقلون أخبار الملائكةِ عن المغيبات إلى الكهنة ، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار ، حتى يتوصل الكفار بذلك إلى إلحاق الضرر بالمؤمنين ؟ . وتاسعها : لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء ؟ . والجواب عن الأول : أنا لا ننكر أن هذه الشُّهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم . وعن الثاني : أنه إذا جاء القدر عمي البصر ، فإذا قضى الله على طائفة منها بالحرق لطغيانها قيَّض الله لها من الدواعي ما يقدمها على العملِ المفضي إلى هلاكها . وعن الثالث : أن نمنع كون ثخن الفلك ما ذكروه ، بأن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام . وعن الرابع : ما روى الزهري عن علي ابن الحسين ، عن علي بن أبي طالب قال : " بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في نفرٍ من أصحابه ، إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : مَا كُنْتُمْ تقُولُونَ فِي الجَاهليَّةِ إذَا حدث ؟ قال : كنا نقول : يولد عظيم أو يموت عظيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإنَّها لا تُرْمَى لمَوْتِ أحدٍ ، ولا لِحياتهِ ، ولكِنَّ اللَّه - تعالى - إذا قَضَى الأمْرَ في السَّماءِ سبَّحتْ حملةُ العرشِ ، ثُمَّ يُسبِّحُ أهلُ كُلِّ سماءٍ ، وتسبِّحُ كُل سماءٍ ، حتى ينتهي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ ، ويَسْتخبرُ أهلُ السَّماءِ حملة العَرْشِ ماذا قال ربُّكُمْ ؟ فيُخبرُونهُمْ ، ولا يَزالُ يَنْتَهِي ذلِكَ الخَبَرُ من سماءٍ إلى سماءٍ إلى أن يَنْتَهِي الخبرُ إلى هذه السَّماء فتَخْطَفُهُ الجِنُّ فَيُرمَونَ ، فمَا جَاءُوا به فَهُوَ حَقٌّ ، ولكنَّهم يزيدُون فِيهِ " " . وعن الخامس : أنَّ نار النجومِ قد تكون أقوى من نارِ الجن . وعن السادس : أنه - عليه الصلاة والسلام - أخبر ببطلان الكهانةِ ، فلو لم ينقطعوا لعادت الكهانة ، وذلك يقدح في خبر الرسولِ عليه الصلاة والسلام . وعن السابع : أن البعد غير مانع من السماءِ عندنا . وعن الثامن : لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة ، وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين . وعن التاسع : أن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد . قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } . لما ذكر منافع الكواكب ، وذكر من جملة تلك المنافع أنها رجوم للشياطين قال بعد ذلك : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } ، أي : وأعتدنا للشَّياطين بعد الإحراق بالشُّهب في الدنيا عذاب السَّعير في الآخرة ، وهو أشدُّ الحريقِ . قال المبردُ : سعرت النَّار فهي مسعورة وسعير ، مثل قوله : مقتولة وقتيل . وهذه الآية تدل على أن النَّار مخلوقة ؛ لأن قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } خبر عن الماضي . قوله : { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ } خبر مقدم في قراءة العامة ، و " عذابُ جهنَّم " مبتدؤه . وفي قراءة الحسن والأعرج والضحاك : بنصب " عَذَابَ " فيتعلق بـ " أعْتَدْنَا " عطفاً على " لَهُمْ " و " عَذابَ السَّعيرِ " ، فعطف منصوباً على منصوب ، ومجروراً على مجرور ، وأعاد الخافض ، لأن المعطوف عليه ضمير . والمخصوص بالذَّم محذوف ، أي : وبئس المصير مصيرهم ، أو عذاب جهنَّم ، أو عذاب السَّعير . فصل في معنى الآية والمعنى لكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم عذاب جهنم ؛ ليبين أن الشياطين المرجومين مخصوصون بذلك ، ثم إنه - تعالى - وصف ذلك العذاب بصفات ، أولها قوله تعالى : { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً } يعني الكفار { إِذَآ أُلْقُواْ } طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة { سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً } أي : صوتاً . قال ابن عباس : الشَّهيق لجهنم عند إلقاء الكُفار فيها كشهيق البغلةِ للشعير . وقال عطاءٌ : الشَّهيق من الكُفَّار عند إلقائهم في النار . وقال مقاتلٌ : سمعُوا لجهنم شهيقاً . قال ابن الخطيب : ولعل المراد تشبيه صوت لهبِ النَّار بالشهيق ، وهو كصوت الحمار . وقال المبرد : هو - والله أعلم - تنفس كتنفس التغيُّظ . قال الزجاجُ : سمع الكُفَّار للنار شهيقاً ، وهو أقبح الأصوات . وقيل : سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [ هود : 106 ] . قوله : " لَهَا " متعلق بمحذوف على أنه حال من " شَهيقاً " لأنه في الأصل صفته ، ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : سمعوا لأهلها ، وهي تَفُور : جملة حالية . فصل في معنى الشهيق والزفير قال القرطبيُّ : " والشهيق في الصدر ، والزفير في الحلق ، وقد مضى في سورة " هود " " . وقوله : { وَهِيَ تَفُورُ } . أي : تغلي ؛ ومنه قول حسَّان : [ الوافر ] @ تَرَكْتُمْ قِدْركُمْ لا شيءَ فِيهَا وقِدْرُ القَوْمِ حَامِيَةٌ تَفورُ @@ قال مجاهد : تفور كما يفور الحب القليل في الماء الكثير . وقال ابن عباس : تغلي بهم على المراجل ، وهذا من شدّة لهب النار من شدّة الغضب كما تقول : فلان يفور غيظاً . قوله : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } . قرأ العامة : " تَميَّزُ " بتاء واحدة مخففة ، والأصل " تتميَّز " بتاءين ، وهي قراءة طلحة . والبزي عن ابن كثير : بتشديدها ، أدغم إحدى التاءين في الأخرى . وهي قراءة حسنة لعدم التقاء الساكنين بخلاف قراءته { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] ، و { نَاراً تَلَظَّىٰ } [ الليل : 14 ] وبابه . وأبو عمرو : يدغم الدَّال في التاء على أصله في المتقاربين . وقرأ الضحاك : " تَمَايَزُ " والأصل : " تتمايزُ " بتاءين ، فحذف إحداهما . وزيد بن علي : " تَمِيزُ " من " مَازَ " . وهذا كله استعارة من قولهم : تميز فلان من الغيظ ، أي : انفصل بعضه من بعض من الغيظ ، فمن سببية ، أي : بسبب الغيظ ، ومثله في وصف كَلْب ، أنشد عروة : [ الرجز ] @ 4798 - … يَكَادُ أنْ يَخْرُجَ مِنْ إهَابِهِ @@ قال ابن الخطيب : ولعل سبب هذا المجاز أن دم القلب يغلي عند الغضب ، فيعظم مقداره ، فيزداد امتلاء العروق ، حتَّى تكاد تتمزَّق . فإن قيل : النَّار ليست من الأحياء ، فكيف توصف بالغيظ ؟ . قال ابن الخطيب : والجواب : أن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة ، فلعل الله - تعالى - يخلق فيها وهي نار حياة ، أو يكون هذا استعارة يشبه صوت لهبها وسرعة مبادرتها بالغضبان وحركته ، أو يكون المراد الزبانية . فصل في تفسير الآية قال سعيد بن جبير { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } يعني تنقطع ، وينفصل بعضها من بعض . وابن عباس والضحاك وابن زيد : تتفرق من الغيظ من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى . قوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } . تقدم الكلام على " كُلَّمَا " . وهذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من ضمير جهنم . والفَوْج : الجماعة من الناس ، والأفْوَاج : الجماعات في تفرقة ، ومنه قوله تعالى : { فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } [ النبأ : 18 ] والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ } وهم مالك ، وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } ، أي : رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم ، حتى تحذروا . قال الزَّجَّاج : وهذا التوبيخُ زيادة لهم في العذاب . قوله : { بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ } . فيه دليل على جواز الجميع بين حرف الجواب ، ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا : بلى ، لفهم المعنى ، ولكنهم أظهروه تحسراً وزيادة في تغميمهم على تفريطهم في قبُول قول النذير ؛ فعطفوا عليه : " فكَذَّبْنَا " إلى آخره . قوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } ظاهره أنه من مقول الكفار للنذير ، أي : قلنا : " مَا أنْزَلَ اللَّهُ من شَيءٍ " أي : على ألسنتكم إن أنتم يا معشر الرسل { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } اعترفوا بتكذيب الرسلِ ، ثم اعترفوا بجهلهم ، فقالوا وهم في النار : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ } من النذر يعني : الرسل ما جاءوا به " أوْ نَعْقِلُ " عنهم . وجوز الزمخشريُّ أن يكون من كلام الرُّسل للكفرةِ ، وحكاه الكفرة للخزنةِ ، أي : قالوا لنا هذا فلم نقبلهُ . قال ابن الخطيب : يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار ، أي : لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } . قوله : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } . قال ابن الخطيب : احتجّ بهذه الآية من قال : إنَّ الدين لا يتم إلا بالتعليم ؛ لأنه قدم السمع على العقل ، فدل على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد غلب عليه تأمل السامع فيما ندب العلم . وأجيب : بأنه إنما قدم السمع ؛ لأن الرسول إذا دعا ، فأول المراتب أنه يسمع كلامه ، ثم يتفكر فيه فلما كان السمع مقدماً على التعقل لا جرم قدم عليه في الذكر . فصل فيمن فضل السمع على البصر واحتج بهذه الآيةِ من قدم السمع على البصر ، قالوا : لأنه جعل للسمع مدخلاً في الخلاص من النار ، والفوز بالجنة ، والبصر ليس كذلك ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر . قوله " بِذنْبِهِمْ " وحَّده ؛ لأنه مصدر في الأصل ، ولم يقصد التنويع بخلاف " بِذُنُوبِهِم " في موضع ؛ ولأنه في معنى الجمع ؛ ولأن اسم الجنس إذا أضيف عم . فصل في المراد بالضلال الكبير قال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون المراد من الضَّلال الكبير ما كانوا عليه في الدنيا من ضلالهم ، ويحتمل أن يكون المراد بالضَّلال الهلاك ، ويحتمل أن يكون قد سمى عقاب الضلال باسمه . فصل في الرد على المرجئة احتجت المرجئةُ بهذه الآية على أنه لا يدخل النارَ إلا الكفار قالوا : لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا : فكذبنا النذير ، وهذا يدل على أن من لم يكذب الله ورسوله لا يلقى في النار ، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرَّ لا يدخل النار ، وأجاب القاضي عنه : بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المخوفة ، وكل من يدخل النار مخالف للدليل . فصل في معرفة الله بعد ورود السمع واحتج بهذه الآية من قال : إن معرفة الله ، وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع ، قالوا : لأنه تعالى إنما عذبهم ؛ لأنه أتاهم النذير ، فدل على أنه لو لم يأتهم النذير لم يعذبوا . قوله : { فَسُحْقاً } . فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب على المفعول به ، أي : ألزمهم الله سحقاً . والثاني : أنه منصوب على المصدر ، تقديره : " أسحقهم الله سحقاً " فناب المصدر عن عامله في الدعاء نحو " جَدْعاً له ، وغفراً " فلا يجوز إظهار عامله . واختلف النحاة : هل هو مصدر لفعل ثلاثي ، أم لفعل رباعي ، فجاء على حذف الزوائد . فذهب الفارسي والزجاج إلى أنه مصدر " أسْحَقهُ اللَّهُ " أي : أبعده . قال الفارسي : فكان القياس إسحاقاً ، فجاء المصدر على الحذف ، كقوله : [ الوافر ] @ 4799 - … وإنْ يَهْلِكْ فذلِكَ كانَ قَدْرِي @@ أي : تقديري . والظاهر أن لا يحتاج إلى ذلك ؛ لأنه سمع " سَحَقَهُ اللَّهُ " ثلاثياً ؛ ومنه قول الشاعر : [ الطويل ] @ 4800 - يَجُولُ بأطْرَافِ البِلادِ مُغَرِّباً وتَسْحَقُهُ ريحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ @@ والذي يظهر أن الزجاج والفارسي إنما قالا ذلك فيمن يقول من العرب : أسحقه الله سحقاً . وقرأ العامة : بضم وسكون . والكسائي وآخرون : بضمتين . وهما لغتان ، والأحسن أن يكون المثقل أصلاً للمخفف ، و " لأصْحابِ " بيان كـ { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، وسقياً لَكَ . وقال مكيٌّ : " والرفع يجوز في الكلام على الابتداء " . أي : لو قيل : " فسحق " جاز ، لا على أنه تلاوة ، بل من حيث الصناعة ، إلاَّ أن ابن عطية قال ما يضعفه ، فإنه قال : " فسحقاً ، نصباً على جهة الدعاء عليهم ، وجاز ذلك فيه وهو من قبل الله - تعالى - من حيث إن هذا القول فيهم مستقر أزلاً ، ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة ، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه كما تقول : سُحْقاً لزيد ، وبُعْداً له ، والنصب في هذا كله بإضمار فعل ، فأما ما وقع وثبت ، فالوجه الرفع ، كما قال تعالى { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ المطففين : 1 ] و { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ، وغير هذا من الأمثلة " ، انتهى . فضعف الرفع كما ترى ؛ لأنه لم يقع ، بل هو متوقع في الآخرة . فصل قال المفسِّرون : { فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } ، أي : فَبُعْداً لهم من رحمة الله . وقال سعيد بن جبير ، وأبو صالح : هو واد في جهنَّم يقال له : السحق .