Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 68, Ayat: 17-33)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ } . يريد أهل مكة ، والابتلاء : الاختبار . والمعنى : أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا ، فلما بطروا وعادوا محمداً صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أصحاب الجنَّة المعروف خبرها عندهم ، وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من " صنعاء " ، ويقال : بفرسخين ، كانت لرجل يؤدي حقَّ الله منهما ، فلما مات صارت إلى ولده ، فمعنوا الناس خيرها ، وبخلوا بحق الله فيها ؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها . قال الكلبيُّ : كان بينهم وبين " صنعاء " فرسخان ابتلاهم اللَّهُ بأن أحرق جنتهم . وقيل : جنة بصوران على فراسخ من صنعاء ، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى - عليه الصلاة والسلام - بيسير . وقيل : كانوا من بني إسرائيل . وقيل : وكانوا من ثقيف ، وكانوا بخلاء ، وكانوا يجذون النخل ليلاً من أجل المساكين ، فأرادوا حصاد زرعها ، وقالوا : { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } أي : الليل ، ويقال أيضاً للنهار : صريم ، فإن كان أراد الليل ، فلاسوداد مواضعها وكأنهم وجدوا مواضعها حمأة ، وإن كان أراد بالصريم النهار ، فلذهاب الشجر والزَّرْع وخلو الأرض منه ، وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل - عليه السلام - فاقتلعها . فقيل : إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيثُ مدينة الطائف اليوم ، ولذلك سميت الطائف ، وليس في أرض الحجازِ بلدة فيها الماء ، والشجر [ والزرع ] والأعناب غيرها . وقال البكريُّ في المعجم : سميت الطائف ، لأن رجلاً من العرب يقالُ له : الدَّمُون ، بَنَى حائطاً ، وقال : إني قد بنيت لكم حائطاً حول بلدكم ، فسميت الطائف . والله أعلم . قوله " إذ أقْسَمُوا " ، أي : حلفوا فيما بينهم " ليَصْرِمُنَّهَا " أي : ليجذُّنها " مُصْبحِيْنَ " أي : وقت الصباح قبل أن يخرج المساكين " ولا يَسْتَثْنُونَ " ، أي : لم يقولوا : إن شاء الله . قوله : " مُصْبحِيْنَ " حال من فاعل " ليَصْرمُنَّها " وهو من " أصبح " التامة ، أي داخلين في الصباح ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] وقوله : إذا سمعت بِسُرَى القين فاعلم بأنه مصبح والكاف في " كما " في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف ، أي : بلوناهم ابتلاء كما بلونا ، و " ما " مصدرية ، أو بمعنى " الذي " و " إذَا " منصوبة بـ " بَلَوْنَا " و " ليَصْرمُنَّهَا " جواب للقسم ، وجاء على خلاف منطوقهم ، ولو جاء لقيل : " لنَصْرمُنَّهَا " بنون المتكلم . قوله : { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } . هذه مستأنفة ، ويضعف كونها حالاً من حيث إن المضارع المنفي بـ " لا " كالمثبت في عدم دخول الواو عليه وإضمار مبتدأ قبله ، كقولهم : " قمت وأصك عينه " مستغنى عنه . ومعنى : " لا يَسْتثْنُونَ " لا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم للمساكين ، من الثني ، وهو الكف والرد ؛ لأنَّ الحالف إذا قال : واللَّهِ لأفعلن كذا إلا أن يشاء اللَّهُ غيره فقد رد انعقاد تلك اليمين . وقيل : المعنى : لا يستثنون عزمهم عن الحرماتِ . وقيل : لا يقولون ، إن شاء الله . قال الزمخشريُّ : وسمي استثناء وهو شرط ؛ لأن معنى : لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد . قوله { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ } . أي هلاك ، أو بلاء طائف ، والطائف غلب في الشر . قال الفراء : هو الأمر الذي يأتي ليلاً . ورد عليه بقوله { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ } [ الأعراف : 201 ] وذلك لا يختص بليلٍ ، ولا نهارٍ . وقرأ النخعيُّ : " طَيْفٌ " . قوله " مِن ربِّك " . يجوز أن يتعلق بـ " طاف " وأن يتعلق بمحذوف صفة لـ " طَائِفٌ " . قوله : { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } . والصرام : جذاذ النخلِ ، وأصل المادة الدلالة على القطع ، ومنه الصُّرم ، والصَّرْم - بالضم والفتح - وهو القطيعة ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 4821 - أفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَدلُّلِ وإنْ كنتِ قَدْ أزمَعْتِ صَرْمِي فأجْملِي @@ ومنه الصريمة ، وهي قطعة منصرمة عن الرمل لا تنبت شيئاً ؛ قال : [ البسيط ] @ 4822 - وبالصَّريمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ عَافٍ تَغَيَّرَ ، إلاَّ النُّؤيُ والوتِدُ @@ والصارم : القاطع الماضي ، وناقة مصرمة : انقطع لبنها ، وانصرم الشهر والسنة ، أي : قرب انفصالهما ، وأصرم زيد : ساءت حاله ، كأنه انقطع سعده . فقوله " كالصَّريمِ " . قيل : هي الأشجار المنْصَرِم حملها . وقال ابن عباس : كالليل ؛ لأنه يقال له : الصريم ، لسواده ، والصريم أيضاً : النهار وقيل : الصُّبحُ ؛ لأنه انصرم من الليلة ، قاله الأخفش . فهو من الأضداد . وقال شمر : الصريم الليل ، والصريم النهار . وقيل : الصريم : رملة معروفة باليمنِ لا تنبت شيئاً . وقال الثوريُّ : كالزرع المحصود ، فالصريم بمعنى المصروم ، أي : المقطوع ما فيه . وقال الحسنُ : صرم عنها الخير ، أي : قطع ، فالصريم مفعول أيضاً . وقال المؤرج : كالرملة انصرمت من معظم الرمل ، يقال : صريمة وصرائم ، فالرملة لا تنبت شيئاً ينتفع به . وقيل : سمي الليل صريماً ؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف ، ولهذا يكون " فَعِيْل " ، بمعنى " فاعل " . قال القشيريُّ : وفي هذا نظر ؛ لأن النهار يسمى صريماً ، ولا يقطع عن التصرف . وقيل : سمي الليل صريماً ؛ لأنه يصر نور البصر ويقطعه . فصل في بيان أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان . قال القرطبيُّ : في الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان . لأنهم عزموا على أن يفعلوا ، فعوقبوا على فعلهم ؛ ونظيره قوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذَا التَقَى المُسلِمَانِ بِسيْفِهِمَا فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ ، قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنَّه كَانَ حريصاَ على قَتْلِ صاحِبهِ " وقد مضى في آل عمران عند قوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ } [ آل عمران : 135 ] . قوله : { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } . قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض : { ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ } يعني بالحرث الثِّمار والزروع والأعناب ، ولذلك قال : " صَارمِيْنَ " ، لأنهم أرادوا قطع الثمار من الأشجار . " أن اغْدُوْا " يجوز أن تكون المصدرية ، أي : تنادوا بهذا الكلام ، وأن تكون المفسرة ، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول . قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : هلاَّ قيل : اغدوا إلى حرثكم ، وما معنى على ؟ . قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه ، ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول : غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم : يغدى عليهم بالجفنة ويراح " انتهى . فجعل " غَدَا " متعدياً في الأصل بـ " إلى " فاحتاج إلى تأويل تعديه بـ " عَلَى " ، وفيه نظر ؛ لورود تعديه بـ " عَلَى " في غير موضع ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 4823 - وقَدْ أغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ نَشَاوَى واجِدينَ لَمَا نَشَاءُ @@ وإذا كانوا قد عدوا مرادفه بـ " عَلَى " فليعدوه بها ، ومرادفه " بكر " تقول : بكرتُ عليه و " غدوتُ عليه " بمعنى واحد ؛ قال : [ الطويل ] @ 4824 - بَكَرْتُ عَليْهِ غُدْوةً فَرأيْتُهُ قُعُوداً إليْهِ بالصَّريمِ عَواذِلُه @@ قوله { إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } . جوابه محذوف ، أي فاغدوا و " صارمين " : قاطعين حادين . وقيل : ماضين العزم من قولك : سيف صارم . قوله { فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } . أي : يتشاورون فيما بينهم ، والمعنى يخفون كلامهم ، ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد ، قاله عطاء وقتادة . وهو من خفت يخفت إذا سكت ، ولم يبين . قال ابن الخطيب : " وخَفَى وخَفَت ، كلاهما في معنى الكتم ، ومنه الخمود والخفاء " . وقيل : يخفون أنفسهم من الناس ، حتى لا يروهم ، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام . وقوله : { وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } جملة حالية من فاعل " انْطَلقُوا " . قوله : { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } . " أنْ " مفسرة ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : يتخافتون بهذا الكلام ، أي : يقوله بعضهم لبعض : { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } . قال ابن الخطيب : والنهي للمسكين عن الدخول نهيٌ لهم عن تمكينه منه ، أي : لا تمكنوه من الدخول . وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة : " لا يدْخُلنَّهَا " بإسقاط " أنْ " إما على إضمار القولِ كمذهب البصريين ، وإما على إجراء " يَتَخافتُونَ " مجراه كقول الكوفيين . قوله : { وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } . يجوز أن يكون " قَادِريْنَ " حالاً من فاعل " غَدَوْا " و " عَلى حَرْدٍ " متعلق به وأن يكون " على حَردٍ " هو الحال و " قَادِريْنَ " إما حال ثانية ، وإما حال من ضمير الحالِ الأول . والحرد : قيل : الغضب والحنق . قاله السديُّ وسفيان . وأنشد للأشهب بن رميلة : [ الطويل ] @ 4825 - أسُودُ شَرًى لاقَتْ أسُودَ خَفيَّةٍ تَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأسَاوِدِ @@ قيل : ومثله : [ الرجز ] @ 4826 - إذَا جِيادُ الخَيْلِ جَاءتْ تَرْدِي مَملُوءةً مِنْ غضَبٍ وحَرْدِ @@ عطف لما تغاير اللفظان ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 4827 - … وألْفَى قوْلهَا كذِباً ومَيْنَا @@ قال أبو عبيدة والقتيبي : " عَلى حَرْدٍ " على منع من حاردت الناقة حراداً ، أي : قل لبنها . والحرود من النوق القليلة الدر ، وحاردت السَّنةُ : قل مطرها ، وخيرها . ويقال : حرد - بالكسر - يحرد حرداً ، وقد تفتح فيقال : حَرَدَ فهو حردان وحارد ، وليوث حوارد . وقيل : الحرد ، والحرود : الانفراد ، يقال : حَرَدَ - بالفتح - يَحْرُدُ - بالضم - حروداً وحرداً ، أي : انعزل . ومنه كوكب حارد ، أي : منفرد . قال الأصمعي : هي لغة هذيل . وقال القرطبيُّ : يقال : حرد يحرد حروداً ، أي : تنحى عن قومه ، ولم يخالطهم . وقال أبو زيدٍ : رجل حريد من قوم حرداء ، وقد حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُوداً إذا ترك قومه ، وتحول عنهم . قال الأصمعي : رجل حريد ، أي : فريد وحيد ، قال : والمنفرد والمنحرد في لغة هذيل وأنشد لأبي ذؤيب : [ البسيط ] @ 4828 - … كأنَّهُ كَوكَبٌ في الجَوِّ مُنْحِرِدُ @@ ورواه أبو عمرو : بالجيم ، قال : وهو سهيل . وقيل : الحردُ القصد ، يقال : حَرَد يحْرِدُ - بالكسر - حرداً ، قصداً ، تقول : حردت حردك ، أي : قصدت قصدك ؛ قال الراجز : [ الرجز ] @ 4829 - أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّه يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ @@ وقال قتادة ومجاهدٌ : " عَلى حَرْدٍ " ، أي : على جد وجهد . وقال القرطبيُّ ومجاهد وعكرمة : أي : على أمر مجتمع قد أسموه بينهم . قال البغويُّ : " وهذا معنى القصدِ " . وقال الحسنُ : على حاجةٍ وفاقةٍ . وقيل : الحرد اسم جنتهم بعينها ، قاله السديُّ . وقال الأزهريُّ : حرد اسم قريتهم . وفيهما بعد . و " قَادِريْنَ " إما من القدرة وهو الظاهرُ ، وإما من التقدير ، وهو التضييق ، أي : مضيقين على المساكين . وقرأ العامة : بالإسكان . وقرأ أبو العالية وابن السميفع : بالفتح ، وهما لغتان . فصل في تفسير " قادرين " قال الفرَّاء : ومعنى " قادرين " قد قدروا أمرم ، وبنوا عليه . وقال قتادة : قادرين على جنتهم عند أنفسهم . وقال الشعبيُّ : قادرين على المساكين . وقيل : معناه من الوجود ، أي : منعوا وهم واجدون . ومعنى الآيةِ : وغدوا ، وكانوا عند أنفسهم ، وفي ظنهم أنهم قادرون على منع المساكينَ . قوله { فَلَمَّا رَأَوْهَا } . يعني الجنة محترقة ، لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد أنكروها ، وشكوا فيها ، وقال بعضهم لبعض : " إنَّا لضالُّونَ " أي : ضللنا الطريق إلى جنتنا ، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي ، قالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنعنا الفقراء ، قاله قتادة . وقيل : " إنَّا لضالُّون " عن الصَّواب في غدونا على نية منع المساكين ، فلذلك عوقبنا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : حرمنا جنتنا بما صنعنا . روى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " إيَّاكم والمَعاصِي إنَّ العَبْدَ ليذْنبُ الذَّنْبَ فيُحرَمُ بِهِ رِزْقاً كان هُيِّىء له " ثم تلا : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } " الآيتين . قوله : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } ، يعني أعدلهم ، وأفضلهم وأعقلهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ : لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } أي : هلا تستثنون ، وكان استثناؤهم تسبيحاً . قاله مجاهدٌ وغيره ، وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء ، فلم يطيعوه . قال أبو صالحٍ : كان استثناؤهم سبحان الله ، فقال لهم : " هَلاَّ تسبِّحُونَ اللَّهَ " ، أي تقولون : سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم . وقال النحاس : أصل التسبيحِ التنزيه لله - عز وجل - ، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء اللَّهُ ؛ لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته . وقال ابن الخطيب : التسبيحُ عبارة عن تنزيهه عن كل سوء فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى ، لوجب عود النقص إلى قدرة الله تعالى ، فقولك : " إن شاء الله " مزيل هذا النقص ، فكان ذلك تسبيحاً . وقيل : المعنى : هلاَّ تَسْتغفرونهُ من فِعْلكُم ، وتتوبون إليه من خبث نيتكم . قيل : إنَّ القوم لمَّا عزموا على منع الزكاةِ واغتروا بالمال والقوة ، قال لهم أوسطهم : توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذابِ ، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامهُ الأول ، وقال : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } فحينئذ اشتغلوا بالتوبة وقالوا : { ِسُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } قال ابن عباس في قولهم سبحان ربنا أي نستغفر ربنا من ذنوبنا لأنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا المساكين . وقال الحسنُ : هذا التسبيحُ هُو الصَّلاةُ كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة ، وإلا لكانت ناهية لهم [ عن الفحشاء والمنكر ، ولكانت داعية لهم ] إلى أن يواظبوا على ذكر الله ، وعلى قول إن شاء الله . قوله { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } . أي : يلوم بعضهم بعضاً ، يقول هذا لهذا : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ، ويقول ذلك لهذا : أنت خوفتنا بالفقر ، ويقول الثالث لغيره : أنت رغبتني في جمع المال ، ثم نادوا على أنفسهم بالوَيْلِ فقالوا : { يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي : عاصين بمنع حق الفقراءِ ، وترك الاستثناء . وقال ابنُ كيسان : طغينا نعم اللَّهِ ، فلم نشكرهَا كما شكرها آباؤنا من قبل { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ } تعاقدوا وقالوا : إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعنّ كما صنع آباؤنا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها . قرىء : " يبدلنا " بالتخفيف والتشديد ، وهما لغتانِ . وقيل : التبديلُ تغير الشيء ، أو تغير حاله وعين الشيء قائم ، والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه ، ثم قال : { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } أي : طالبون منه الخير راجعون لعفوه . قال المفسرون : إن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع تلك الجنة ، بزغر من أرض الشام ، ويأخذ من أرض الشام جنة ، فيجعلها مكانها . وقال ابن مسعود : إن القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم أبدلهم اللَّهُ جنة يقال لها : الخيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقوداً واحداً . وقال أبو خالد اليماني : دخلت تلك الجنة ، فرأيت كُلَّ عنقودٍ منها كالرَّجلِ الأسودِ القائمِ . وقال الحسنُ : قول أهل الجنة : { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } لا أدري إيماناً كان ذلك منهم ، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابهم الشدة . فتوقف في كونهم مؤمنين . وسئل قتادةُ عن أهل الجنَّة ، أهم من أهل الجنَّة أم من أهل النَّارِ ؟ . قال : لقد كلفتني تعباً . والأكثرون يقولون : إنهم تابوا وأخلصوا . حكاه القشيري . قوله : { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ } . مبتدأ وخيره مقدم ، أي : مثل ذلك العذاب عذاب الدنيا وأما عذاب الآخرة فأكبر منه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } . قال ابنُ زيدٍ : " كذَلكَ العَذابُ " أي : عذاب الدنيا وهلاك الأموال . وقيل : هذا وعظٌ لأهل مكة بالرجوعِ إلى اللَّه لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم أي : كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } . قال ابنُ عباسٍ : هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر ، وحلفوا ليقتلنَّ محمداً ، وأصحابه ، وليرجعوا إلى أهل مكة ، حتى يطوفوا بالبيت ، ويشربوا الخمر ، وتضرب القيانُ على رءوسهم ، فأخلف الله ظنهم ، وقتلوا وأسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرم ، فخابوا . فصل في العبرة من هذه الآية بضرب المثل قال ابن الخطيب : قوله تعالى { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ القلم : 14 - 15 ] ، والمعنى : لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله ، كلا ، بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء ، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه ، بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذه المعصيةِ اليسيرةِ دمر الله جنتهم ، فكيف حال من عاند الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصرَّ على الكفر والمعصيةِ . فصل في بيان هل كان الحق واجباً عليهم أم لا ؟ قيل : إن الحق الذي منعه أهل الجنَّة المساكين كان واجباً عليهم ، ويحتمل أنه كان تطوعاً ، والأول أظهر . وقيل : السورة مكية ، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحطِ ، وعلى قتال بدر .