Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 68, Ayat: 48-52)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : لقضاء ربِّك ، والحكم هنا القضاء . وقيل : اصبر على ما حكم به عليك ربُّك من تبليغ الرسالةِ . وقال ابنُ بَحْرٍ : فاصبر لنصر ربك . وقيل : منسوخ بآية السيف { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } يعني يونس - عليه السلام - أي : لا تكن مثله في الغضب ، والضجر ، والعجلة . وقال قتادة : إن الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ، ولا يعجل كما عجل يونس - عليه الصلاة والسلام - . وقد مضى الفرق بين " ذي " و " صاحب " في " يونس " . قوله : { إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } . " إذْ " منصوب بمضاف محذوف ، أي : ولا يكن حالك كحاله ، أو قصتك كقصته في وقت ندائه ، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبُّ عليها النهي على أحوالها ، وصفاتها . وقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } . جملة حالية من الضمير في " نَادَى " . والمكظوم : الممتلىء حزناً وغيظاً ، ومنه كظم السقاء إذا ملأه . قال ذو الرمة : [ البسيط ] @ 4836 - وأنْتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حَزَناً عَانِي الفُؤادِ قَريحُ القَلْبِ مَكْظُومُ @@ فصل في دعاء يونس " إذْ نَادَى " ، أي : حين دعا من بطن الحوتِ ، فقال : { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] . قال القرطبي : ومعنى { وَهُوَ مَكْظُومٌ } أي : مملوء غمًّا . وقيل : كرباً ، فالأول قول ابن عباس ومجاهد ، والثاني : قول عطاء وأبي مالك ، قال الماورديُّ : والفرق بينهما أن الغمَّ في القلب ، والكرب في الأنفاس . وقيل : " مَكْظُومٌ " محبوس ، والكظم : الحبس ومنه قولهم : كَظَمَ غَيْظَهُ ، أي : حبس غضبه ، قاله ابن بحر . وقيل : " إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس ، قاله المُبرِّدُ " . والمعنى : لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر ، والمغاضبة ، فتبتلى ببلائه . قوله : { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } . قال ابن الخطيب : لِمَ لَمْ يَقُلْ : تداركته نعمة ؟ وأجاب : بأنه إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في " تَدَاركَهُ " . ولأن التأنيث غير حقيقي . وقرأ أبيّ وعبد الله بن عباس : " تَدارَكتْهُ " بتاء التأنيث لأجل اللفظِ . والحسن وابن هرمز والأعمش : " تَدّارَكهُ " - بتشديد الدال - . وخرجت على الأصل : تتداركه - بتاءين - مضارعاً ، فأدغم ، وهو شاذ ؛ لأن الساكن الأول غير حرف لين ؛ وهي كقراءة البزي { إذْ تَلَّقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] ، و { ناراً تَلَّظَّى } [ الليل : 14 ] ، وهذا على حكاية الحال ، لأن المقصد ماضيه ، فإيقاع المضارع هنا للحكاية ، كأنه قال : لولا أن كان يقال فيه : تتداركه نعمة . قوله : { نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ } . قال الضحاكُ : النعمة هنا : النبوة . وقال ابن جبيرٍ : عبادته التي سلفت . وقال ابن زيدٍ : نداؤه بقوله { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] . وقال ابن بحرٍ : إخراجه من بطن الحوتِ . وقيل : رحمة من ربِّه ، فرحمه وتاب عليه . قوله : { لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ } ، هذا جواب " لَوْلاَ " ، أي : لنبذ مذموماً لكنه نبذ سقيماً غير مذموم . وقيل : جواب " لَولاَ " مقدر ، أي : لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوتِ . ومعنى : " مَذْمُوم " ، قال ابن عباس : مُليمٌ . وقال بكر بن عبد الله : مُذنِبٌ . وقيل : مبعدٌ من كل خير . والعراء : الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل ، ولا شجر يستر . وقيل : لولا فضلُ الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً ، يدل عليه قوله تعالى { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143 ، 144 ] . فصل في عصمة الأنبياء قال ابن الخطيب : هل يدل قوله " وهُوَ مَذمُومٌ " على كونه فاعلاً للذنب ؟ قال : والجوابُ من ثلاثة أوجه : الأول : أن كلمة " لولا " دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل . الثاني : لعل المراد من المذموميةِ ترك الأفضلِ ، فإن حسنات الأبرارِ سيئات المقربين . الثالث : لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة ، لقوله " فاجْتبَاهُ رَبُّهُ " والفاء للتعقيب . قيل : إن هذه الآية نزلت بأحدٍ حين حل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل فأراد أن يدعو على الذين انهزموا . وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف . قوله : { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ } ، أي : فاصطفاه واختاره . { فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } . قال ابن عباس : رد الله إليه الوحي ، وشفعه في نفسه ، وفي قومه ، وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألفٍ ، أو يزيدون . فصل فيمن قال : إن يونس لم يكن نبياً قبل واقعة الحوت قال ابن الخطيب : قال قوم : لعل صاحب الحوتِ ما كان رسولاً قبل هذه الواقعة ، ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولاً ، وهو المرادُ من قوله { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ } والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا هذا القول ، لأن الاحتباس في بطن الحوت ، وعدم موته هناك لما لم يكن هناك إرهاص ، ولا كرامة ، فلا بد وأن تكون معجزة ، وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحال . فصل في خلق أفعال العباد قال ابن الخطيب : احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله : { فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } وهذا يدل على أن الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه . قال الجبائيُّ : يحتمل أن يكون معنى " جعلهُ " أنه أخبر بذلك ، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح ، إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني . والجواب : أن ذلك مجاز ، والأصل في الكلامِ الحقيقة . قوله : { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } " إنْ " المخففة من الثقيلة : " ليُزلقُونَكَ " ، أي : يغتالونك بأبصارهم ، قرأها نافع : بفتح الياء ، والباقون : بضمها . فأما قراءة الجماعة : فمن أزلقه ، أي : أزال رجله ، فالتعدية بالهمزة من أزلق يزلق . وأما قراءة نافع ، فالتعدية بالحركة ، يقال : زَلِقَ - بالكسر - وزلقتُه - بالفتح ، ونظيره : شترت عينه - بالكسر - وشترها الله - بالفتح . [ وقد تقدم لذلك أخوات ] . وقيل : زلقه وأزلقه - بمعنى واحد - إزلاقاً ، إذا نحاه وأبعده ، وأزلق برأسه يزلقه زلقاً ، إذا حلقه . قال القرطبي : " وكذلك أزلقه ، وزلقهُ تزليقاً ، ورجل زلقٌ وزُملق - مثال هُدَبِد - وزمالِق وزملِق - بتشديد الميم - وهو الذي ينزل قبل أن يجامع ، حكاه الجوهري وغيره " . والباء في " بأبْصارهِمْ " إما للتعدية كالداخلة على الآلة ، أي : جعلوا أبصارهم كالآلة المزلقة لك كـ " عملت بالقدوم " ، وإما للسببية ، أي : بسبب عيونهم . وقرىء : " ليُزْهقونَكَ " من زهقت نفسه ، وأزهقها . ثم فيه وجوه : أحدها : أنهم من شدة تحديقهم ، ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة ، والبغضاء يكادون يزلقون قدمك من قولهم : نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أنشد ابن عباسٍ لما مر بأقوام حددوا النظر فيه : [ الكامل ] @ 4837 - نَظَرُوا إليَّ بأعْيُنٍ مُحَمَرَّةٍ نَظَرَ التيُوسِ إلى شِفارِ الجَازِرِ @@ فصل في المراد بالنظر أخبر الله تعالى بشدة عداوتهم للنبي صلى الله عليهم وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين ، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا : ما رأينا مثله ، ولا مثل حججه . وقيل : كانت العين في بني أسد ، حتى إن البقرة السمينة ، أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول : يا جارية ، خذي المكتل والدرهم ، فأتنا بلحم هذه الناقة فما تبرح حتى تقع الناقة للموت فتنحر . وقال الكلبيُّ : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرجع جانب الخباء ، فتمر به الإبل والغنم ، فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين ، فأجابهم ، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد : [ الكامل ] @ 4838 - قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسبُونَكَ سيِّداً وإخَالُ أنَّك سَيِّدٌ مَعْيُونُ @@ فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية . وذكر الماورديُّ : أن العرب كانوا إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً يعني في ماله ونفسه يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله ، فيقول : بالله ما رأيتُ أقوى منه ، ولا أشجع ، ولا أكبر منه ، ولا أحسن فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية . قال القشيريُّ : وفي هذا نظرٌ ؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغضِ ، ولهذا قال : " ويقولون : إنه لمجْنُونٌ " أي : ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن . قال القرطبيُّ : أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا ، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله ، ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك . فمعنى الكلمة إذاً التنحية والإزالة ، وذلك لا يكون في حق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته . قال الهرويُّ : أراد ليغتالونك بعيونهم ، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك . وقال ابن عباس : ينفذونك بأبصارهم ، يقال : زلق السَّهم ، وزهق إذا نفذ ، وهو قول مجاهد أي : ينفذونك من شدة نظرهم . وقال الكلبي : يصرعونك ، وعنه أيضاً والسُّدي وسعيد بن جبير : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة . وقال العوفي : يرمونك . وقال المؤرج : يزيلونك . وقال النضر بن شميل والأخفش : يفتنونك . وقال الحسن وابن كيسان : ليقتلونك كما يقال : صرعني بطرفه ، وقتلني بعينه . قوله : { لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ } من جعلها ظرفية جعلها منصوبة بـ " يُزْلقُونكَ " ، ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً للدلالة ، أي : لما سمعوا الذِّكر كادوا يزلقونك ، ومن جوز تقديم الجواب ، قال : هو هنا متقدم . والمراد بالذكر القرآن ، ثم قال : { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } وهو على ما افتتح به السُّورة ، ثم قال : " ومَا هُوَ " يعني : القرآن . { إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين } أي : الذين يزعمون أنه دلالة جنونه إلا ذكر للعالمين تذكير لهم ، وبيان لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد . وقال الحسنُ : دَوَاء إصابةِ العيْنِ أنْ يَقْرَأ الإنسانُ هذه الآية . وقيل : وما محمدٌ إلا ذكر للعالمين يتذكرون به . وقيل : معناه شرف ، أي : القرآن ، كقوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] والنبي صلى الله عليه وسلم شرف للعالمين أيضاً شرفوا باتباعه والإيمان به . عن أبيّ ابن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرأ سُورَةَ القلمِ أعْطَاهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - ثوابَ الذينَ حسَّنَ اللَّهُ أخلاقهم " .