Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 68, Ayat: 42-47)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم إنه تعالى لما أبطل قولهم شرح بعده عظمة يوم القيامة ، وهو قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } " يَوْمَ " منصوب بقوله " فليَأتُوا " أي : فليأتوا بشركائهم يوم يكشفُ عن ساق ليشفع الشركاء لهم وحينئذ لا يوقف على " صَادِقينَ " . أو بإضمارِ " اذْكُرْ " فيكون مفعولاً به ، أو بمحذوفٍ وهو ظرف ، أي : يوم يكشف يكون كيت وكيت . أو بـ " خَاشِعةً " . قاله أبو البقاء . و " عَنْ ساقٍ " قائم مقام الفاعل . وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : " تكشف " بالتاء من فوق مبنياً للفاعل ، أي : الشدة والساعة . وعنه أيضاً كذلك : مبنياً للمفعول . وهي مشكلة ، لأن التأنيث لا معنى له هاهنا إلا أن يقال : إن المفعول مستتر ، أي : تكشف هي ، أي : الشدة ، ويتعلق " عَنْ ساقٍ " بمحذوف ، أي : تكشف عن ساقها . ولذلك قال الزمخشري : " وتكشف " بالتاء مبنياً للفاعل والمفعول جميعاً ، والفعل للساعة ، أو الحال : أي يشتد الحال ، أو الساعة . وقرىء : " ويُكشِفُ " - بضم التاء أو الياء وكسر الشين - من " أكشف " إذا دخل في الكشف ، وأكشف الرجل إذا انقلبت شفته العليا لانكشاف ما تحتها . ويقال له أيضاً : أخلع وكشف الساق كناية عن الشدة . قال الراجز : [ الرجز ] @ 4831 - عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي ومِنْ إشْفَاقِهَا ومِنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أرْزَاقِهَا في سَنةٍ قَدْ كشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا حَمْرَاءِ َبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عُراقِهَا @@ وقال حاتم الطائيُّ : [ الطويل ] @ 4832 - أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ به الحَرْبُ عضَّهَا وإنْ شَمَّرْتَ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا @@ وقال الآخر : [ مجزوء الكامل ] @ 4833 - كَشفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا وبَدَا مِنَ الشَّرِّ البَواحُ @@ وقال الراجز : [ الرجز ] @ 4834 أ - قَدْ شَمرَتْ عَنْ سَاقِهَا فشُدُّوا وجَدَّتِ الحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا @@ وقال الآخر : [ السريع ، أو الرجز ] @ 4834 ب - صَبْراً أُمامُ إنَّهُ شَرُّ بَاقْ وقَامتِ الحَرْبُ بِنَا على سَاقْ @@ قال الزمخشريُّ : الكشفُ عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدراتِ عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن عند ذلك ؛ قال حاتم : @ 4835أ - أخو الحَرْبِ … … @@ وقال ابن قيس الرُّقيَّاتِ : [ الخفيف ] @ 4835 ب - تُذِهِلُ الشَّيْخَ عنْ بنيهِ وتُبْدِي عَنْ خِدَامِ العَقيلَةُ العَذْراءُ @@ انتهى . فصل في " الساق " قال ابن عباس في قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ، قال : كرب وشدة . وعن مجاهد : شدة الأمر وحده . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : أشد ساعةٍ في القيامة . وقال أبو عبيدة : إذا اشتد الأمر ، أو الحرب قيل كشف الأمر عن ساقه . والأصل فيه : أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد ، شمر عن ساقه ، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة . وقيل : ساق الشيء : أصله الذي به قوامه كساق الشجرة ، وساق الإنسان ، أي : يوم يكشفُ عن أصل الأمر ، فتظهر حقائق الأمور ، وأصلها . وقيل : يكشف عن ساق جهنم . وقيل : عن ساق العرش . وقيل : يريد وقت اقتراب الأجل وضعف البدن ، أي : يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه ، ويدعوه المؤذنون إلى الصلاة ، فلا يمكنه أن يقوم ، ويخرج . فصل في تأويل " الساق " قال القرطبيُّ : فأما ما روي الله تعالى يكشف عن ساقه ، فإنه - عز وجل - يتعالى عن الأعضاء ، والأبعاض ، وأن ينكشف ، ويتغطى ، ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره وقيل : " يكشف عن نوره عز وجل " . ؟ ؟ ؟ وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { عَنْ سَاقٍ } قال : يكشف عن نورٍ عظيمٍ يخِرُّونَ لهُ سُجَّداً . وروى أبو بردة عن أبي موسى قال : حدثني أبي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامةِ مثِّل لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبدُونَ فِي الدُّنيَا فيَذْهبُ كُل قَوْمٍ إلى مَا كَانُوا يَعَبْدُون ويبقى أهلُ التَّوحيدِ ، فيقال لهم : ما تَنْتَظِرُونَ ، وقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ ، فيقولون : لنَا رَبٌّ كنَّا نَعْبدُهُ في الدُّنيَا ، ولَمْ نَرَهُ ، قال : وتعْرِفُونهُ إذَا رأيتمُوهُ ؟ فيقولون : نَعَم ، فيُقَالُ لَهُمْ : فَكيْفَ تعرفونه ، ولَمْ تَرَوهُ ؟ قالوا : إنه لا شبيهَ لَهُ ، فيكشفُ لَهُم الحجابُ ، فينْظُرونَ إلى اللَّهِ تعالى ، فيخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً ، ويبقى أقوامٌ ظُهُورُهُمْ كَصَياصِي البَقرِ ، فينْظرُونَ إلى اللَّهِ تعالى فيريدون السُّجُودَ ، فلا يَسْتطِيْعُونَ ، فَذلكَ قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } فيقول الله تعالى : عبادي ارفعوا رءوسكم ، فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار " قال أبو بردةُ : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال : الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث ؟ فحلف له ثلاثة أيمانٍ ، فقال عمر : سمعتُ في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إليَّ من هذا . قوله { خَاشِعَةٌ } . حال من مرفوع " يُدْعَونَ " و " أبْصَارهُمْ " فاعل به ، ونسب الخشوع للأبصار وإن كانت الأعضاء كُلها كذلك لظهور أثره فيها . وقوله : " وهُمْ سَالِمُونَ " . حال من مرفوع " يُدعَونَ " الثانية . ومعنى { خَاشِعَةٌ أَبْصَارُهُمْ } ، أي : متواضعةٌ " تَرْهقُهُمْ ذلَّةٌ " وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم ، ووجوههم أشد بياضاً من الثلج ، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين حتى ترجع أشد سواداً من القار . فصل في تقرير كلام أهل اللغة في الساق قال ابن الخطيب بعد أن حكى أقوال أهلِ اللغةِ في الكشف عن الساق : واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعماله في الشدة مجاز ، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلامِ إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة ، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسماً ، فيجب حينئذٍ صرف هذا اللفظ إلى المجاز . واعلم أن صاحب الكشَّاف أورد هذا التأويل في معرض آخر ، فقال : الكشف عن السَّاق مثلٌ في شدَّة الأمر ، فمعنى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يوم يشتد ، ويتعاظم ، ولا كشف ثمَّ ولا ساقَ ، كما تقول : الشحيح يده مغلولة ، ولا يد ثمَّ ، ولا غل ، وإنما هو مثل في البخلِ ، ثم أخذ يعظم علم البيانِ ويقول : لولاه ما وقفنا على هذه الأسرارِ ، وأقولُ : إما أن يدعي أنه يجوز صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل ، أو تقول : لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة ، والأول باطل بالإجماع ، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفةِ في أمر المعاد ، فإنهم يقولون في قوله : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [ الحج : 23 ] ليس هناك أنهار ولا أشجار ، وإنما هو مثل للّذة والسعادة ويقولون في قوله تعالى : { ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ } [ الحج : 77 ] وليس هناك ركوع ولا سجود وإنما هو مثل للتعظيم ، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع ، وفساد الدينِ ، وأما من قال : إنه لا يصار إلى التأويل ، إلا عند قيام الدليل على أنه لا يجوز حمله على ظاهره ، فهذا قولُ كُلِّ أحد من المتكلمين ، فأين الدقائق التي استند هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطةِ علم البيان ، ثم إن قال بعد أن حكى القول بأن المراد بالساق جهنم ، أو ساق العرش ، أو ساق ملك عظيم إن اللفظ لا يدل إلا على ساق ، وأما أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه ، ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنَّهُ تعالى يتَمثَّلُ للخَلْق يَوْمَ القِيامةِ حِيْنَ يَمُرُّ المُسْلمُونَ فيقول : مَنْ تَعْبُدُونَ ؟ فيقولون : نَعْبُدُ اللَّهَ فيُشْهدُهمْ مرَّتينِ ، أو ثلاثاً ، ثُمَّ يقُولَ : هَلْ تَعْرفُون ربَّكُمْ ؟ فيقولون : لَوْ عرَّفنَا نَفسَهُ عرفْناهُ ، فعِنْدَ ذلِكَ يُكْشَفُ عن سَاقٍ فَلا يَبْقَى مُؤمِنٌ إلاَّ خَرَّ للَّه ساجِداً ، ويَبْقَى المُنافِقُونَ ظُهُورهُمْ كالطَّبَقِ الوَاحدِ ، كأنَّما فيهَا السَّفافِيدُ " . قال : واعلم أن هذا القول باطل لوجوه : أحدها : أن الدلائل دلت على أن كل جسم متناهي وكل متناهٍ محدث ، وأنّ كلَّ جسم ممكن وكل ممكن محدث . وثانيها : أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف أنها ساق مخصوصة معهودة عنده ، وهي ساق الرحمن ، أما إذا أجملت ففائدة التنكير : الدلالة على التعظيم ، كأنه قال : يوم يكشف عن شدة ، وأي شدة لا يمكن وصفها . وثالثها : أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق ، وإنما يحصل بكشف الوجه ، ثم حكى قول أبي مسلم : بأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة ؛ لأنه تعالى قال في وصفه : { وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ } ويوم القيامة ليس فيها تعبد ، ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [ الأنعام : 158 ] الآية لأنه الوقت الذي لا تنفع نفساً إيمانها ، وإما حال المرض والهرم والعجز ، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، وهو لا يستطيع الصلاة { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } مما بهم الآن من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، أو من العجز والهرم ، ونظير هذه الآية { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } [ الواقعة : 83 ] . ثم قال : واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قال أبو مسلم ، ثم قال : فأما قوله : " إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل في الدنيا والتكاليف زائلة يوم القيامة " . فجوابه : أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلت : إن ذلك غير جائزٍ . قوله { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ } في الدنيا { وَهُمْ سَالِمُونَ } معافون أصحاء . قال إبراهيم التيمي : أي : يدعون بالأذان ، والإقامة ، فيأبون . وقال سعيد بن جبيرٍ : كانوا يسمعون حيّ على الفلاح ، فلا يجيبون ، وهم سالمون أصحاء . وقال كعبُ الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات . وقيل : أي : بالتكليف الموجه عليهم في الشرع . قوله : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } ، أي : فدعني والمكذبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم . وقال الزجاجُ : لا تشغل بالك به كِلْهُ إليّ ، فإني أكفيك أمره . و " مَنْ " منصوب إما نسقاً على ضمير المتكلم ، أو مفعول معه ، وهو مرجوح ؛ لإمكان النسق من غير ضعف ، وتقدم إعراب ما بعده . فصل في مناسبة الآية لما قبلها لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف مما عنده ، وفي قدرته من القهر ، يقال : ذَرْنِي وإياه أي كِلْهُ إليّ ، فأنا أكفيكه . قال السديُّ : والمراد بالحديث القرآن . وقيل : يوم القيامةِ ، وهذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم . قوله : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : سنأخذهم على غفلة ، وهم لا يعرفون ، فعذبوا يوم بدر . وقال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعم ، وننسيهم الشكر . وقال الحسن : كم مستدرجٍ بالإحسان إليه ، وكم مفتون بالثناء عليه ، وكم مغرورٍ بالستر عليه . وقال أبو روق : كلما أحدثوا الخطيئة جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم الاستغفار . قال ابن عباسٍ : سنمكر بهم ، وروي أن رجلاً من بني إسرائيل قال : يا ربِّ ، كم أعصيك وأنت لا تعاقبني ، فأوحى اللَّهُ إلى نبي زمانهم أن قُلْ له : كَمْ مِنْ عقُوبَةٍ لِي عليكَ وأنْتَ لا تَشْعرُ أنَّ جُمُودَ عَيْنِك ، وقساوة قلبك استدراجٌ منِّي ، وعقُوبةٌ لو عقَلْتَ . والاستدراج : ترك المعالجة ، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدريج . ومنه قيل : درجات ، وهي منزلة واستدرج فلان فلاناً ، أي : استخرج ما عنده قليلاً قليلاً ، ويقال : درجه إلى كذا ، واستدرجه بمعنى أدناه على التدريج ، فتدرج . ومعنى الآية : إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين ، وهو في الحقيقة يسبب هلاكهم . قوله : { وَأُمْلِي لَهُمْ } أي : أمهلهم ، وأطيل لهم المدة ، كقوله { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] والملاوة : المدة من الدهر ، وأملى الله له ، أي : أطال له ، والملوان : الليل والنهار . وقيل : { وَأُمْلِي لَهُمْ } ، أي : لا أعاجلهم بالموت ، والمعنى واحد ، والملا مقصور : الأرضِ الواسعة سميت بها لامتدادها { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي : إن عذابي لقوي شديد ؛ فلا يفوتني أحد ، وسمى إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً في صورة الكيدِ ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في السبب للهلاك . فصل في إرادة الكائنات قال ابن الخطيبِ : تمسك الأصحاب بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات ، لأن هذا الاستدراج والكيد إن لم يكن لهما أثر في الطغيان ، فليسا بكيد ، ولا استدراج ، وإن كان لهما أثر فيه لزم أن يكون الحق سبحانه مريداً له ، لأن من فعل شيئاً لحصول شيء وأكده وقواه لا بد وأن يكون مريداً لحصول ذلك الشيء . أجاب الكعبيُّ : بأن المراد استدراجهم إلى الموتِ ، أي : يخفى عنهم زمن الموت من حيثُ لا يعلمون ، وهو مقتضى الحكمة ، وإلا لكان فيه إغراء بالمعاصي ، لأنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه أقدموا على المعاصي ، ثم صاروا مفتنين . وأجاب الجبائيُّ : بأن معنى قوله : { سَنَسْتَدْرِجُهُم } أي : إلى العذاب { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } في الآخرة ، { وَأُمْلِي لَهُمْ } في الدنيا توكيداً للحجة عليهم { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } فأمهله ، وأزيح الأعذار عنه { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] ، ويدل على هذا قوله قبل ذلك : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } ولا شك أن هذا التهديد إنما هو بعذاب الآخرة ، فوجب أن يكون الاستدراج والكيد المذكور عقيبه هو عذاب الآخرة وأجاب الأصحاب : أن هنا الإمهال إذا كان مؤدياً إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضياً بذلك الطغيان . قوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } . عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } أي : أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله ، والمغرم : الغرامة فهم من غرامة ذلك مثقلُون ، أي : يثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال ، فيثبطهم ذلك عن الإيمان . والمعنى : ليس عليهم كلفة في متابعتك ، بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم . قوله : { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ } ، أي : علم ما غاب عنهم { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } . وقيل : أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون ، وعن ابن عباسٍ : الغيب هنا هو اللوح المحفوظُ ، فهم يكتبون منه ثوابَ ما هم عليه من الكفر ، ويخاصمونك به ، ويكتبون أنهم أفضل ، وأنهم لا يعاقبون . وقيل : " يَكْتُبونَ " أي : يحكمون ما يريدون ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار .