Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 69, Ayat: 9-29)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } . قرأ أبو عمرو والكسائيُّ : بكسر القاف ، وفتح الباء ، أي : ومن هو في جهته ، ويؤيده قراءةُ أبي موسى : " ومن تلقاه " . وقرأ أبيٌّ وعبد الله : " ومنْ مَعَه " . والباقون : بالفتحِ والسكونِ على أنه ظرف ، أي : ومن تقدمه . والقراءة الأولى اختارها أبو عبيدة ، وأبو حاتم اعتباراً بقراءة أبيّ ، وعبد الله . قوله : { وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } . " المؤتفكات " : أهل قرى لوط . وقراءة العامة : بالألف . وقرأ الحسن والجحدريُّ : " والمُؤتَفكةُ " على التوحيد . قال قتادةُ : إنما سُمِّيتْ قرى لوط " مُؤتفِكَات " لأنَّها ائتفكت بهم ، أي : انقلبت . وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظيِّ قال : خمس قريات : " صبعة ، وصعرة وعمرة ، ودوما ، وسدوم " ، وهي القرية العظمى . وقوله : " بالخاطئة " . إما أن تكون صفة ، أي : بالفعلة ، أو الفعلات الخاطئة ، وهي المعصية والكفر . وقال مجاهد : بالخطايا كانوا يفعلونها . وقال الجرجاني : بالخطأ العظيمِ ، فيكون مصدراً كـ " العاقبة " و " الكاذبة " . قوله : { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } إن عاد الضمير إلى فرعون ، ومن قبله ، فرسول ربِّهم موسى - عليه الصلاة والسلام - . وإن كان عائداً إلى أهلِ المؤتفكاتِ ، فرسولُ ربِّهم لوط عليه الصلاة والسلام . قال الواحديُّ : والوجه أن يقال : المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله : " فَعَصَوْا " فيكون كقوله : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 16 ] قال القرطبي : وقيل : " رسول " بمعنى رسالة ، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول ، كقوله : [ الطويل ] @ 4843 - لَقَدْ كَذَبَ الواشُونَ ما بُحْتُ عِندهُمْ بِسِرِّ ولا أرْسلتُهُمْ بِرسُولِ @@ قوله : { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } ، أي : عالية زائدة على الأخذات ، وعلى عذاب الأمم ، يقال : ربا الشيء يربوا إذا زاد ، ومنه الرِّبا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطي . والمعنى : أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار ، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القُبحِ على أفعال سائرِ الكفار . وقيل : إن عقوبة آل فرعون في الدنيا متعلقة بعذاب الآخرة ، لقوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدُّنيا ، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو . ثم ذكر قصة قومِ نوح ، وهي قوله : { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } ، أي : ارتفع وعلا . وقال عليٌّ رضي الله عنه : طَغَى على خُزَّانه من الملائكة غضباً لربِّه ، فلم يقدروا على حبسه . قال المفسرون : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً . وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه : طغى الماءُ زمن نوحٍ على خزانه ، فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج ، وليس من الماء قطرة تنزل قبله ، ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم ، وقد تقدم مرفوعاً أوَّل السورةِ ، والمقصود من ذكر قصص هذه الأممِ ، وذكر ما حل بهم من العذاب ، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسولِ ، ثم منَّ عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله : " حَمَلْناكُم " أي : حملنا آباءكم ، وأنتم في أصلابهم ، " فِي الجَاريَةِ " أي : في السفن الجاريةِ ، والمحمولُ في الجارية إنَّما هو نوحٌ وأولاده ، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك . والجارية من أسماء السفينة ، ومنه قوله تعالى : { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [ الرحمن : 24 ] ، وغلب استعمالُ الجاريةِ في السفينة ؛ كقوله في بعض الألغاز : [ البسيط ] @ 4844 - رَأيْتُ جَاريَةً في بَطْنِ جَارِيَةٍ فِي بَطْنِهَا رجُلٌ في بطْنهِ جَمَلُ @@ قوله : { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } ، أي : سفينة نوح - عليه الصلاة والسلام - جعلها الله تذكرة وعظةً لهذه الأمةِ حتى أدركها أوائلهم . في قول قتادة . قال ابن جريجِ : كانت ألواحُهَا على الجوديِّ ، والمعنى : أبقيتُ لكم الخشباتِ حتى تذكروا ما حلَّ بقوم نوحٍ ، وأنجى الله أباكم ، وكم من سفينةٍ هلكت وصارت تراباً ، ولم يبق منها شيءٌ ، وهذا قولُ الفرَّاءِ . قال ابنُ الخطيبِ : وهذا ضعيفٌ ، بل الصوابُ ما قاله الزجاج : أن الضمير في قوله : " لنجعلها " يعود إلى " الواقِعَة " التي هي معلومةٌ ، وإن كانت هنا غير مذكورةٍ ، والتقدير : لنجعل نجاةَ المؤمنين وإغراق الكافرين عظةً ، وعبرةً ، ويدل على صحته قوله : { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } فالضمير في قوله : " وتَعِيهَا " لا يمكن عوده إلى السفينة ، فكذا الضمير الأول . قوله : " وتَعِيهَا " العامة : على كسر العين وتخفيف التاء ، وهو مضارع " وَعَى " منصوب عطفاً على " لنجْعَلهَا " . وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون عنه وقنبل ، قال القرطبي : وحميد والأعرج بإسكانها تشبيهاً له بـ " رحم ، وشهد " وإن لم يكن منه ، ولكن صار في اللفظ بمنزلة الفعل الحلقي العين . قال ابن الخطيب : وروى عن ابن كثيرٍ إسكان العين ، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلةٍ واحدةٍ ، فحذف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من " فَخْذ وكَبْد وكَتْف " ، وإنما فعل ذلك ؛ لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل ، فأشبه ما هو من نفس الكلمة ، وصار كقول من قال : وَهْو وَهْي ، ومثل ذلك { وَيَتَّقْهِ } [ النور : 52 ] في قراءة من سكَّن القاف . وروي عن حمزة : إخفاء الكسرة . وروي عن عاصم وحمزة : بتشديد " الياء " . وهو غلط عليهما ، وإنما سمعهما الراوي يثبتان حركة الياء ، فظنَّها شدة . وقيل : أجريا الوصل مجرى الوقف فضعِّف الحرفُ ، وهذا لا ينبغي أن يلتفت إليه . وروي عن حمزة أيضاً ، وموسى بن عبد الله العبسي : " وتعِيهَا " بسكون " الياء " . وفيه وجهان : الاستئناف ، والعطف على المنصوب ، وإنما سكنا " الياء " استثقالاً للحركة على حرف العلة ، كقراءة : { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] . فصل في " وعى " قال الزَّجَّاجُ : يقال : وعيتُ كذا ، أي : حفظتُه في نفسي ، أعيه وعْياً ووعيتُ العلمَ ، ووعيتُ ما قلته كله بمعنى ، وأوعيت المتاع في الوعاء . قال الزجاجُ : يقال لكل ما حفظته في غير نفسك : أوعيتُه - بالألف - ولما حفظته في نفسك : وعيته ، بغير ألف . قال ابن الخطيب : واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قومٍ من الغرقِ في السَّفينة ، وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ، ونفاذ مشيئته ، ونهاية حكمته ، ورحمته ، وشدة قهره . " روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية : " سَألْتُ اللَّه أنْ يَجْعلهَا أذنَكَ يا عليُّ " ، قال علي رضي الله عنه : " فما نَسِيتُ شيئاً بعد ذلك " " . فإن قيل : لِمَ قال : " أذُنٌ واعِيَةٌ " على التوحيد والتنكير ؟ . فالجوابُ : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلةٌ ، ولتوبيخ الناس بقلة من يَعِي منهم ، والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعيت وعقلتْ عن الله ، فهي السَّواد الأعظم عند الله ، وأن سواها لا يلتفت إليهم ، وإن امتلأ العالمُ منهم . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] . قال قتادة : الأذُنُ الواعيةُ أذنٌ عقلتْ عن الله تعالى ، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل . قوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } . لما حكى هذه القصص الثلاثة ونبَّه بها على ثبوت القدرة والحكمة للصانع ، فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة ، ويثبت القدرة إمكان وقوع الحشر ، ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة ، فذكر أولاً مقدماتها ، فقال : { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } . قوله : " واحدةٌ " تأكيد ، و " نَفْخَةٌ " مصدر قام مقام الفاعل . وقال ابنُ عطية : " لما نُعِتَ صحَّ رفعهُ " انتهى . ولو لم يُنعتْ لصحَّ رفعه ؛ لأنه مصدر مختص لدلالته على الوحدة ، والممنوع عند البصريين إنما هو إقامة المبهمِ ، نحو : " ضَرَبَ " . والعامةُ على الرفع فيهما . وقرأ أبو السّمال : بنصبهما ، كأنه أقام الجارَّ مقام الفاعلِ ، فترك المصدر على أصله ، ولم يؤنث الفعل وهو : " نُفِخَ " ؛ لأن التأنيث مجازي وحسَّنه الفصل انتهى . فصل في النفخة الأولى قال ابن عباس : هي النفخة الأولى لقيام الساعة ، فلا يبقى أحد إلا مات . قال ابن الخطيب : لأن عندها يحصل خرابُ العالمِ . فإن قيل : لم قال بعد ذلك { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية ؟ . قلت : جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النَّفختان ، والصَّعقة والنشور ، والوقوف ، والحساب ، فكذلك { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } كقوله : " جئتُه عام كذا " وإنَّما كان مجيئُك في وقتٍ واحدٍ من أوقاته . وقيل : إنَّ هذه النَّفخة هي الأخيرةُ . وقال : { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } ، أي : لا تثنَّى . قال الأخفشُ : ووقع الفعلُ على النَّفخة ، إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع ، فقيل : نفخة . قوله : { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ } ، قرأ العامة : بتخفيف " الميم " . أي : وحملتها الريحُ ، أو الملائكةُ ، أو القدرةُ ، أي : رفعتْ من أماكنها ، " فَدُكَّتا " ، أي : فُتَّتَا وكسِّرتا ، { دَكَّةً وَاحِدةً } أي : الأرض والجبالُ ؛ لأن المراد الشيئان المتقدمان ، كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } [ الحجرات : 9 ] . ولا يجوزُ في " دكَّةً " إلا النصبُ ؛ لارتفاع الضمير في " دُكَّتَا " . وقال الفرَّاءُ : لم يقلْ : " فَدُكِكْنَ " ؛ لأنه جعل الجبال كلها كالجملةِ الواحدة [ والأرض كالجملة الواحدة ] ومثله : { أَنَّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً } [ الأنبياء : 30 ] ، ولم يقل : " كُنَّ " . وهذا الدَّكُّ ، كالزلزلةِ لقوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] . وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنَّها تحمل الأرض والجبال ، أو بملك من الملائكة ، أو بقدرة الله ، " فَدُكَّتَا " ، أي : جملة الأرض ، وجملة الجبال تضرب بعضها في بعض حتى تندق وتصير { كَثِيباً مَّهِيلاً } [ المزمل : 14 ] ، و { هَبَآءً مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 6 ] . والدَّكُّ أبلغُ من الدَّق وقيل : " دُكَّتا " أي : بُسطتا بسطةً واحدةً ، ومنه اندكَّ سنامُ البعير ، إذا انفرش في ظهره . وقرأ ابن عامرٍ في رواية ، والأعمش ، وابن أبي عبلة وابن مقسم : " وحُمِّلت " - بتشديد الميم - . فجاز أن يكون التشديد للتكثير ، فلم يكسب الفعل مفعولاً آخر . وجاز أن يكون للتعدية فيكسبه مفعولاً آخر ، فيحتمل أن يكون الثاني محذوفاً ، والأول هو القائمُ مقام الفاعلِ تقديره : وحُمِّلت الأرض والجبال ريحاً تفتتها ، لقوله : { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] . وقيل : التقدير : حملنا ملائكة ، ويحتمل أن يكون الأول هو المحذوف ، والثاني هو القائم مقام الفاعل . قوله : " فيَومئذٍ " منصوب بـ " وقعت " ، و " وقَعَتِ الواقِعَةُ " لا بُدَّ فيه من تأويلٍ ، وهو أن تكون " الوَاقعةُ " صارت علماً بالغلبةِ على القيامة ، أو الواقعة العظيمة ، وإلاَّ فقام القائمُ لا يجوز ، إذ لا فائدة فيه ، وتقدم هذا في قوله : { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [ الواقعة : 1 ] والتنوين في " يومئذٍ " للعوضِ من الجملة ، تقديره : يومئذٍ نُفِخَ في الصُّوْرِ . فصل في معنى الآية المعنى قامت القيامة الكبرى { وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ } أي : انصدعت وتفطرت . وقيل : انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] { فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } ، أي : ضعيفة مسترخيةٌ ساقطةٌ { كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] بعد ما كانت محكمةً . يقال : وهى البناء يَهِي وهْياً ، فهو واهٍ إذا ضعف جدّاً . ويقال : كلامٌ واهٍ أي : ضعيف . فقيل : إنَّها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهْي ، ويكون ذلك لنزولِ الملائكةِ . وقيل : لهولِ يوم القيامةِ . وقال ابن شجرة : " واهية " أي : متخرقة ، مأخوذ من قولهم : وهى السِّقاءُ ، إذا انخرق . ومن أمثالهم : [ الرجز ] @ 4845 - خَلِّ سَبيلَ مَنْ وهَى سِقاؤهُ ومَنْ هُرِيقَ بالفَلاةِ مَاؤهُ @@ أي : من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه . { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } . لم يردْ به ملكاً واحداً ، بل المراد الجنس والجمع . " على أرجائها " " الأرجاء " في اللغة : النواحي والأقطار بلغة " هُذَيْل " ، واحدها : " رجا " مقصور وتثنيته " رجوان " ، مثل " عصا ، وعصوان " ، قال الشاعر : [ الوافر ] @ 4846 - فَلاَ يُرْمَى بِيَ الرَّجوانِ أنَّي أقَلُّ القَوْمِ مَنْ يُغْنِي مَكانِي @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 4847 - كَأنْ لَمْ تَرَي قَبْلِي أسِيراً مُقَيَّداً ولا رَجُلاً يُرْمَى بِهِ الرَّجوانِ @@ و " رجاء " هذا يكتب بالألف عكس " رَجَا " ؛ لأنه من ذوات الواو ، ويقال : " رجا " ، ورجوانِ ، والجمع : " الأرجاء " ، ويقال ذلك لحرفي البئر وحرف القبر وما أشبهه . فصل في تفسير الآية قاب ابن عباس : على أطرافها حين تنشق . قال الماورديُّ : ولعله قول مجاهد وقتادة ، وحكاه الثعلبي عن الضحاك ، قال : على أطرافها مما لم تنشقّ منها . وقال سعيد بن جبيرٍ : المعنى والملك على حافات الدنيا ، أي : ينزلون إلى الأرض ، ويحرسون أطرافها . وقال : إذا صارت السماءُ قطعاً ، تقف الملائكةُ على تلك القطعِ التي ليست مُتشققة في أنفسها . فإن قيل : الملائكةُ يمُوتُونَ في الصَّعقةِ الأولى ، لقوله تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 68 ] فكيف يقال : إنهم يقفون على أرجاء السماء ؟ . فالجوابُ من وجهين : الأول : أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ، ثم يموتون . والثاني : المراد الذين استثناهم في قوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [ الزمر : 68 ] [ النمل : 87 ] . فإن قيل : إنَّ الناس إذا رأوا جهنَّم هالتهم ، فندُّوا كما تندُّ الإبلُ ، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلاَّ رأوا ملائكة ، فيرجعون من حيثُ جاءوا . وقيل : { عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النَّارِ من السَّوق إليها ، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة ، وهذا كلُّه راجعٌ إلى قول ابن جبير ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] . قوله : { عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } ، خبر المبتدأ ، والضمير للسماء ، وقيل : للأرضِ ، على ما تقدم . قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما الفرق بين قوله : " والمَلَكُ " وبين أن يقال : " والمَلائِكَةُ " ؟ قلت : الملكُ أعمُّ من الملائكةِ ، ألا ترى إلى قولك : " ما من ملك إلاَّ وهو ساجدٌ " أعم من قولك : " ما مِنْ ملائكةٍ " انتهى . قال أبو حيَّان : ولا يظهر أنَّ الملك أعمُّ من الملائكةِ ، لأن المفرد المحلَّى بالألف واللام ، قُصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلَّى ، ولذلك صح الاستثناءُ منه ، فقصاراه أن يكون كالجمع المُحَلَّى بهما ، وأما دعواه أنه أعم منه ، بقوله : " ألا ترى " إلى آخره ، فليس دليلاً على دعواه ؛ لأن " مِنْ ملكٍ " نكرةٌ مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها " مِن " المخلصة للاستغراق ، فشملت كل ملكٍ فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفرد فيه ، فانتفى كل فردٍ فرد ، بخلاف " مِنْ ملائِكةِ " ، فإن " مِنْ " دخلت على جمع منكَّر ، فعمّ في كل جمع جمع من الملائكةِ ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ من الملائكة ، لو قلت : " ما في الدار من رجال " جاز أن يكون فيها واحدٌ ، لأن النفي إنما انسحب على جمع ، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفردُ ، والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه " مِنْ " وإنَّما جِيءَ به مفرداً ؛ لأنه أخفُّ ، ولأن قوله : { عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } يدلُّ على الجمع ؛ لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون " على أرجائِهَا " في وقتٍ واحدٍ بل أوقات ، والمراد - والله أعلم - أن الملائكة على أرجائها إلاَّ أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات . وقال شهاب الدين : إنَّ الزمخشريَّ منزعهُ في هذا ما تقدم عنه في أواخر سورة " البقرة " عند قوله : { وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] فليرجع ثمَّة . وأما قول أبي حيان : " ما مِنْ رجالٍ " أن النفي منسحبٌ على رُتَب الجمع ، ففيه خلاف ، والتحقيق ما ذكره . قوله : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } . الضمير في " فَوقَهُمْ " يجوز أن يعود على " الملائكة " بمعنى كما تقدم ، وأن يعود على الحاملين الثمانية . وقيل : إنَّ حملة العرشِ فوقَ الملائكةِ الذينَ في السماء على أرجائها . وقيل : يعود على جميع العالم ، أي : أن الملائكة تحمل عرش الله فوق العالم كلِّه . فصل في هؤلاء الثمانية قال ابن عباس : ثمانية صنوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله . وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاكٍ . وعن الحسن : الله أعلمُ كم هم ثمانية ، أم ثمانية آلاف ، أو ثمانية صفوف . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أَنَّ حَمَلةَ العَرْشِ اليَوْم أربعةُ أوعالٍ ، فإذَا كان يومُ القيامةِ أيدهُم اللَّهُ بأربَعة آخرين ، فكانُوا ثَمانيَةً " خرَّجَهُ الماورديُّ مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم . ورواه العباسُ بنُ عبد المطّلب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " هُمْ ثَمانِيَةُ أملاكٍ على صورةِ الأوعالِ ، لكلِّ ملكٍ منهُم أربعةُ أوجهٍ : وجهُ رجُلٍ ، ووجهُ أسدٍ ، ووجهُ ثورٍ ، ووجهُ نسْرٍ ، وكلُّ وجهٍ مِنْهَا يسألُ اللَّهَ الرِّزقَ لذلك الجِنْسِ " . فإن قيل : إذا لم يكنْ فيهم صورةُ وعلٍ ، فكيف سُمُّوا أوعالاً ؟ . فالجواب : أنَّ وجْهَ الثَّور إذا كانت له قرون الوعْلِ أشبه الوعْلَ . وفي الخبرِ : " أنَّ فَوْقَ السَّماءِ السَّابعةِ ثمانيةَ أوْعالٍ بينَ أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ مثلُ ما بَيْنَ سماءٍ إلى سماءٍ ، وفوقَ ظُهورهِنَّ العَرْشُ " ذكره القشيريُّ ، وخرَّجهُ الترمذيُّ من حديث العباس بن عبد المُطلبِ . وفي حديث مرفوع : " أنَّ حَمَلَةَ العرْشِ ثَمَانيَةُ أمْلاكٍ ؛ على صُوَرِ الأوعالِ ، ما بين أظْلافهَا إلى رُكَبِهَا مسِيْرةُ سبعِينَ عاماً للطَّائرِ المُسْرعِ " . ورُوي أنَّ أرجلهنَّ في السَّماءِ السَّابعةِ . فصل في إضافة العرش إلى الله إضافة العرش إلى الله - تعالى - كإضافة البيت إليه ، وليس البيتُ للسكنِ ، فكذلك العرشُ ، ومعنى " فوقهم " أي : فوق رءوسهم . قال ابنُ الخطيب : قالت المشبِّهةُ : لو لم يكن اللَّهُ في العرشِ لكان حملُ العرش عبثاً لا فائدة فيه ، لا سيما قد أكَّد ذلك بقوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } ، والعرش إنَّما يكونُ لو كان الإلهُ حاضراً في العرش . وأجاب : بأنه لا يمكن أن يكون المراد أنَّ الله - تعالى - جالس في العرش ؛ لأن كل من كان حاملاً للعرش ؛ كان حاملاً لكل ما كان في العرش فلو كان الإلهُ على العرش لزم أن يكون الملائكة حاملين لله تعالى ، وذلك محالٌ ؛ لأنه يقتضي احتياج الله إليهم ، وأن يكونوا أعظم قدراً من الله ، وكل ذلك كفرٌ ، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل ، فنقول : السببُ في هذا الكلام هو أنه - تعالى - خاطبهم بما يتعارفونه ، فخلق لنفسه بيتاً يزورونه ليس أنه يسكنه - تعالى الله عن ذلك - وجعل في ركن البيت حجراً ، هو يمينه في الأرض إذْ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم ، وجعل على العبادِ حفظةً لا لأن النسيان يجوزُ عليه سبحانه ، وكذلك أنَّ الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس على سريره ، ووقفت الأعوانُ حوله ، فسمى الله يوم القيامة عرشاً ، وحفَّت به الملائكة لا لأنه يقعد عليه ، أو يحتاجُ إليه ، بل كما قلنا في البيت والطَّواف . قوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } هو جواب " إذَا " من قوله : " فَإذَا نُفِخَ " . قاله أبو حيَّان . وفيه نظرٌ ، بل جوابها ما تقدم من قوله : " وقَعَتِ الواقِعَةُ " و " تُعْرضُونَ " على هذا مستأنفة . قوله : { لاَ تَخْفَىٰ } . قرأ الأخوان : بالياء من تحت ؛ لأن التأنيث مجازي ، كقوله : { وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ } [ هود : 67 ] . واختاره أبو عبيد ؛ لأنه قد حال بين الفعل والاسم المؤنث الجار والمجرور . والأخوان : على أصلهما في إمالة الألف . وقرأ الباقون : " لا تَخْفَى " بالتاء من فوق للتأنيث اللفظي والفتح وهو الأصل ، واختاره أبو حاتم . فصل في العرض على الله قال القرطبيُّ : هذا هو العرضُ على الله ، ودليله : { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً } [ الكهف : 48 ] وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً ، بل ذلك العرضُ عبارةٌ عن المحاسبة والمساءلة وتقدير الأعمال عليهم للمجازاة . قال صلى الله عليه وسلم : " يُعْرَضُ النَّاسُ يوم القِيامةِ ثلاثَ عَرضَاتٍ ، فأما عَرْضتانِ فَجِدالٌ ، ومعَاذِيرٌ وأما الثَّالثةُ فعند ذلك تَطِيْرُ الصُّحُفُ في الأيْدِي فآخِذٌ بيَمِينِهِ وآخِذٌ بِشمالهِ " . وقوله : { لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } . قال ابن شجرة : أي : هو عالم بكل شيء من أعمالكم ، فـ " خَافِيَة " على هذا بمعنى " خفيَّة " كانوا يخفونها من أعمالهم ، ونظيره قوله تعالى : { لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } [ غافر : 16 ] . قال ابن الخطيب : فيكون الغرضُ المبالغة في التهديدِ ، يعني : " تُعرَضُون على من لا يخفى عليه شيء " . وقيل : لا يخفى عليه إنسان لا يحاسب . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : لا يَخْفَى المُؤمِنُ من الكافر ، ولا البَرُّ من الفاجرِ . وقيل : لا يتسر منكم عورة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " يُحْشرُ النَّاسُ حُفاةً عُراةً " . قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } ، وهذا دليلٌ على النجاة . قال ابن عباسٍ : أول من يُعْطَى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمرُ بن الخطاب ، وله شعاعٌ كشعاع الشمس ، وقيل له : فأين أبو بكر ، فقال : هيهات ، زفَّته الملائكةُ إلى الجنَّة . قال القرطبي : وقد ذكرناه مرفوعاً من حديث زيد بن ثابت بلفظه ، ومعناه في كتاب " التذكرة " . قوله : " هَاؤمَ " ، أي : خذوا { ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته ؛ لأن اليمين عند العرب من دلائلِ الفرح . قال الشاعر : [ الوافر ] @ 4848 - إذَا مَا رايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ لقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ @@ وقال : [ الطويل ] @ 4849 - أبِينِي أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي فأفْرَحُ أمْ صيَّدْتِنِي بِشمَالِكِ @@ وقال ابن زيدٍ : معنى : " هَاؤمُ " : تعالوا ، فتتعدى بـ " إلى " . وقال مقاتلُ : " هَلُمَّ " . وقيل : خذوا ، ومنه الحديث في الربا : " إلا هَاء وهَاءَ " أي : يقول كل واحد لصاحبه : خُذْ ، وهذا هو المشهورُ . وقيل : هي كلمةٌ وضعت لأجابة الدَّاعي عند الفرح ، والنَّشاط . وفي الحديث : " أنَّه نَاداهُ أعرَابِيٌّ بصَوْتٍ عَالٍ ، فأجَابَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم " هَاؤمُ " يطول صوته . " . وقيل : معناها " اقصدوا " . وزعم هؤلاء أنها مركبة من هاء التنبيه ، وأموا ، من الأم ، وهو القصدُ ، فصيره التخفيف والاستعمال إلى " هاؤم " . وقيل : " الميمُ " ضميرُ جماعةِ الذكور . وزعم القتيبي : أنَّ " الهمزة " بدلٌ من " الكاف " . فإن عنى أنها تحلُّ محلَّها فصحيح ، وإن عنى البدل الصناعي فليس بصحيح . فقوله : " هاؤم " يطلب مفعولاً يتعدى إليه بنفسه إن كان بمعنى : " خُذْ " أو " اقْصِد إليّ " إن كان بمعنى : " تَعَالَوْا " ، و " اقرأوا " يطلبه أيضاً ، فقد تنازعا في : " كِتَابِيَه " وأعمل الثاني للحذف من الأول . وقد تقدم تحقيق هذا في سورة " الكهف " . وفيها لغاتٌ : وذلك أنها تكون فعلاً صريحاً ، وتكون اسم فعل ، ومعناها في الحالين : " خذ " فإن كانت اسم فعلٍ ، وهي المذكورة في الآية الكريمة ، ففيها لغتان : المدّ والقصر تقول : " هَا درهماً يا زيدُ ، وهاء درهماً " ، ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ ، ويتصل بهما كافُ الخطاب ، اتصالها بإسم الإشارة ، فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي ضميره ، نحو : " هَاكَ ، هَاكِ ، هاءَكَ " إلى آخره . وتخلف كافُ الخطابِ همزة " هاءَ " مصرفة تصرف كاف الخطاب ، فتقول : " هَاءَ يا زيدُ ، هاءِ يا هندُ ، هاؤم ، هاؤن " وهي لغةُ القرآن . وإذا كانت فعلاً صريحاً ؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاثة لغاتٍ : إحداها : أن يكون مثل " عَاطَى يُعَاطِي " ، فيقال : " هاء يا زيدُ ، هائِي يا هندُ ، هائيَا يا زيدان أو يا هنداتُ ، هاءوا يا زيدون ، هائين يا هنداتُ " . الثانية : أن تكون مثل : " هَبْ " فيقال : " هَأ ، هِىء ، هَاءَا ، هِئُوا ، هِئْنَ " ، مثل : " هَبْ ، هِبِي ، هِبَا ، هِبُوا ، هِبْنَ " . الثالثة : أن تكون مثل : " خَفْ " أمراً من الخوف ، فيقال : " هَأْ ، هَائِي ، هَاءَا ، هَاءُوا ، هَأنَ " ، مثل : " خَفْ ، خَافِي ، خَافَا ، خَافُوا ، خفْنَ " . قوله : " كتابيه " . منصوب بـ " هاؤم " عند الكوفيين ، وعند البصريين بـ " اقرأوا " ؛ لأنه أقربُ العاملين ، والأصل " كتابي " فأدخل " الهاء " لتبين فتحة " الياءِ " و " الهاء " في " كتابيه " و " حسابيه " و " سلطانيه " و " ماليه " للسكتِ ، وكان حقُّها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً ، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف ، أو وصل بنية الوقف في " كتابيه " و " حسابيه " اتفاقاً ، فأثبت " الهاء " . وكذلك في " مَاليَه " و " سلطانيه " و { مَا هِيَهْ } [ القارعة : 10 ] في القارعة ، عند القُرَّاء كلهم إلا حمزة ، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث وصلاً ، وأثبتها وقفاً ؛ لأنها في الوقف يحتاج إليها ؛ لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه ، وفي الوصل يستغنى عنها . فإن قيل : فَلِمَ لم يفعل ذلك في " كتابيه " و " حسابيه " ؟ . فالجواب : أنه جمع بين اللغتين ، هذا في القراءات السبعِ . وقرأ ابن محيصن : بحذفها في الكلم كلِّها وصلاً ووقفاً إلا في " القارعة " ، فإنه لم يتحقق عنه فيها نقل . وقرأ الأعمشُ ، وابن أبي إسحاق : بحذفها فيهن وصلاً ، وإثباتها وقفاً . وابن محيصن : يسكنُ الهاء في الكلم المذكورة بغيرها . والحق أنها قراءةٌ صحيحةٌ ، أعني ثبوت هاء السكتِ وصلاً ؛ لثبوتها في خط المصحف الكريم ، ولا يلتفت إلى قول الزهراوي إن إثباتها في الوصل لحن لا أعلم أحداً يجيزه . وقد تقدم الكلام على هاء السكت في البقرة والأنعام . قوله : { إنِّي ظَنَنتُ } . قال ابن عباس : أي : أيقنتُ وعلمتُ . وقيل : ظننتُ أن يؤاخذني الله بسيئاتي إن عذبني فقد تفضَّل علي بعفوه ، ولم يؤاخذني بها . قال الضحاك : كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك . وقال مجاهد : ظَنُّ الآخرة يقين وظَنُّ الدنيا شَكٌّ . وقال الحسن في هذه الآية : إنّ المؤمن من أحسن الظَّن بربّه فأحسن العمل ، وإن المنافق أساء الظن بربه ، فأساء العمل . وقوله : { أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } ، أي : في الآخرة ، ولم أنكرْ البعث ، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب ؛ لأنه تيقّن أن الله يحاسبه ، فعمل للآخرة . قوله : { رَّاضِيَةٍ } ، فيها ثلاثة أوجه : أحدها : أنه على المجاز جعلت العيشة راضية ؛ لمحلها في مستحقيها ، وأنها لا حال أكمل من حالها ، والمعنى في عيش يرضاه لا مكروه فيه . الثاني : أنه على النَّسب ، أي : ذات رضا ، نحو : " لابنٌ وتامرٌ " لصاحب اللَّبن والتَّمْرِ والمعنى : ذات رضا يرضى بها صاحبها . الثالث : قال أبو عبيدة والفراء : إنه مما جاء فيه " فاعل " بمعنى مفعول نحو : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] ، أي : مدفوق ، كما جاء مفعول بمعنى فاعل ، كقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] ، أي : ساتراً . فصل في تنعم أهل الجنة . قال عليه الصلاة والسلام : " إنَّهُم يَعِيشون فلا يَمُوتُون أبداً ، ويصحُّونَ فلا يَمْرضُونَ أبداً ، وينعَمُونَ فلا يَرَوْنَ بأساً أبَداً ويَشِبُّونَ فلا يَهْرمُونَ أبداً " . قوله : { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } ، أي : عظيمةٌ في النفوس ، { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } ، القطوف جمع : قطف ، وهو فعل بمعنى مفعول ، كـ " الدِّعْي " و " الذِّبْح " ، وهو ما يَجتنِيهِ الجاني من الثِّمار ، و " دَانِيَةٌ " ، أي : قريبة التناولِ يتناولها القائم ، والقاعد ، والمضطجع . والقِطْف - بكسر القاف - وهو ما يقطفُ من الثِّمار ، والقَطْفِ - بالفتح - المصدر ، والقِطَاف - بالفتح والكسر - وقت القطف . { كُلُواْ } ، أي : يقال لهم : كلوا واشربوا ، وهذا أمر امتنان ، لا أمرُ تكليف . وقوله : " هنيئاً " قد تقدم في أول النساء وجوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوفٍ ، أي : " أكْلاً هنيئاً وشُرْباً هنيئاً " ، وأن ينتصب على المصدر بعامل من لفظه مقدر ، أي : " هَنِئْتُم بذلك هَنِيئاً " . و " الباء " في " بما أسْلفتُمْ " سببية ، و " ما " مصدرية أو اسمية ، ومعنى " هَنِيئاً " ، لا تكدير فيه ولا تنغيص ، " بما أسْلَفْتُم " قدمتم من الأعمال { فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } ، أي : في الدنيا . قالت المعتزلةُ : وهذا يدل على أنَّ العمل يوجبُ الثوابَ ، وأن الفعل للعبدِ ، وقال : " كُلُوا " بعد قوله : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } لقوله : { فأما من أوتي كتابه } ، و " من " تتضمنُ معنى الجمعِ . فصل فيمن نزلت فيه الآية ذكر الضحاكُ : أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي . وقال مقاتل : والآية التي قبلها في أخيه الأسود بن عبد الأسد في قول ابن عبَّاس والضحاك . قال الثعلبي : ويكون هذا الرجل ، وأخوه سبب نزول هذه الآيات ، ويعم المعنى جميع أهل الشقاوةِ ، والسعادة ، بدليل قوله تعالى : { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } . وقيل : إنَّ المراد بذلك كل من كان متبوعاً في الخير والشر يدعو إليه ، ويأمر به . قوله : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله يخجل منها ويقول : { يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } ثُم يتمنَّى الموت ، ويقول : { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } . فالضَّميرُ في " لَيْتهَا " قيل : يعود إلى الموتةِ الأولى ، وإن لم تكن مذكورة ، إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة . و " القَاضِيَة " : القاطعةُ من الحياة ، قال تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ } [ الجمعة : 10 ] ، ويقال : قُضِيَ على فلان ، إذا مات ، والمعنى : يا ليتها الموتة التي كانت القاطعة لأمري ، ولم أبْعَثْ بعدها ، ولم ألقَ ما وصلت إليه . قال قتادة : يتمنى الموت ، ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت ، وشرٌّ من الموت ما يطلب منه الموت ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 4850 - وشَرٌّ مِنَ الموْتِ الذي إنْ لَقيتُهُ تَمَنَّيتُ مِنْهُ المَوْتَ ، والمَوْتُ أعْظَمُ @@ وقيل : يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب ، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليَّ . قوله : { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي } ، يجوزُ أن يكون نفياً ، وأن يكون استفهام توبيخٍ لنفسه ، أي : أيُّ شيءٍ أغنى عني ما كان لي من اليسار . { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } قال ابن عباس : هلكتْ عنِّي حُجَّتِي ، والسلطانُ : الحجةُ التي كنتُ أحتجُّ بها ، وهو قول مجاهدٍ وعكرمة والسُّدي والضَّحاك . وقال مقاتل : ضلت عني حجّتي حين شهدت عليه الجوارح . وقال ابن زيد : يعني مُلكي وتسلّطي على الناس ، وبقيت ذليلاً فقيراً ، وكان مُطاعاً في أصحابه .