Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 117-129)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يجوز في " أن " : أن تكُون المفسِّرة لمعنى الإيحَاءِ . ويجوزُ أنْ تكون مصدريّةً ؛ فتكونُ هي ، وما بعدها مفعول الإيحَاءِ . قوله : { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } قرأ العامَّةُ : " تَلَقَّفُ " بتشديد القافِ ، من " تَلَقَّفَ " والأصلُ : " تَتَلَقَّفُ " بتاءيْنِ ، فحذفت إحداهُمَا ، إمَّا الأولى ، وإمَّا الثانية وقد تقدَّم ذلك في نحو { تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] . والبزِّيُّ : على أصلها في إدغامِهَا فيما بعدها ، فيقرأُ : { فإذا هي تَّلَقَّفُ } بتشديد التاء أيضاً ، وقد تقدم تحقيقه عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } [ البقرة : 267 ] . وقرأ حفصٌ " تَلْقَفُ " بتخفيف القافِ من " لَقِفَ " كـ : " عَلِمَ يَعْلَمُ ، ورَكِب يَرْكَبْ " . يقال : لَقِفْتُ الشَّيءَ ألْقَفُهُ لَقْفاً ، ولَقَفَاناً ، وتَلقفتُهُ أتَلقَّفُهُ تَلَقُّفاً : إذا أخَذْتهُ بِسُرعةٍ ، فأكَلْتَهُ أو أبْتَلَعْتَهُ . وفي التفسير : أنها ابتلعَتْ جميع ما صَنَعُوه ، وأنشدُوا على : لَقِفَ يَلْقَفُ ، كـ " عَلِمَ يَعْلَمُ " قول الشَّاعِر : [ السريع ] @ 2543 - وأنتَ عَصَا مُوسَى الَّتي لَمْ تَزَلْ تَلْقَفُ مَا يَصْنَعُهُ السَّاحِرُ @@ ويُقَالُ : رَجُلٌ ثقفٌ لقفٌ ، وثَقِيفٌ لَقِيفٌ ، بَيِّن الثَّقافة واللَّقَافة . ويُقَالُ : لَقِفَ ولَقِمَ بمعنى واحدٍ ، قاله أبُو عُبيدٍ . ويقالُ : تَلْقَفُ ، وتَلْقَمُ ، وتَلْهَمُ : بمعنًى واحدٍ . والفَاءُ في " فإذَا هِيَ " يجوزُ أن تكُون العاطفة ، ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قَبْلهَا ليترتَّبَ ما بعد الفاءِ عليها ، والتقديرُ : " فألْقَاهَا فإذا هِيَ " . وَمَنْ جوَّز أن تكون الفاءُ زائدةً في نحو : " خَرَجْتُ فإذا الأسَدُ حَاضِرٌ " جوَّز زيادتها هُنَا . وعلى هذا فتكونُ هذه الجملةُ قد أوحيت إلى موسى كالَّتي قَبْلَهَا . وأمَّا على الأوَّل - أعني كون الفاءِ عاطفةً - فالجملةُ غير موحى بها إليه . قوله : " مَا يَأفكونَ " يجوزُ في " ما " أن تكون بمعنى " الذي " والعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي يأفِكُونهُ . ويجوز أن تكُون " ما " مصدرية ، " والمصدر " حينئذٍ واقعٌ موقعَ المفعُولِ به ، وهذا لا حَاجةَ إلَيْهِ . وذلك قولُهُ : { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يَجُوز أن تكون " ما " بمعنى " الذي " ، فيكونُ المعنى : بَطَلَ الحبالُ والعِصيُّ الذي عملوا به السِّحر : أي : زَالَ ، وذهب بِفُقْدانِهَا ، وأن تكون مصدرية ، أي : وبطل الذي كانوا يعملونه ، أو عملهم . وهذا المصدرُ يجوزُ أن يكون على بابه . وأن يكون واقعاً موقع المفعول به . بخلاف " مَا يَأفكُون " فإنَّ يتعيَّنُ أن يكُونُ واقعاً موقع المفعُولِ به ليصحَّ المعنى ؛ إذ اللَّقْفُ يستدعي عَيْناً يصحُّ تسلُّطُه عليها . ومعنى الإفكِ في اللُّغةِ : قلبُ الشَّيءِ عن وجْههِ ، ومنه قِيلَ للكذبِ إفْكٌ ، لأنَّهُ مقلْوبٌ عن وجهه . قال ابنُ عبَّاسٍ : " مَا يَأفِكُونَ " يُريدُ : يَكْذِبُونَ ، والمعنى : أنَّ العصا تلقَفُ ما يأفِكُونَهُ ، أي : يَقْلِبُونَهُ عن الحَقِّ إلى البَاطِلِ . قوله : " فَوَقَعَ الحَقُّ " قال مُجاهدٌ والحسنُ : ظَهَرَ . وقال الفرَّاءُ : " فتبيَّنَ الحَقُّ مِنَ السِّحْرِ " . قال أهْلُ المعاني : الوُقُوعُ : ظُهُورُ الشَّيءِ بوجوده نازلاً إلى مُسْتَقرِّهِ ، { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، من السِّحْرِ ، وذلك أنَّ السَّحرة قالوا : لئن كان ما صنعَ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - سِحراً لَبَقِيَتْ حبالُنَا وعصينا ولم تُفْقَدْ ، فلما فقدت ؛ ثَبَتَ أنَّ ذلك من أمر اللهِ . قال القَاضِي : قوله : " فَوَقَعَ الحَقُّ " : يفيد قُوَّة الظُّهُورِ والثُّبُوتِ بحيثُ لا يَصحُّ فيه البُطلان كما لا يَصِحُّ في الواقعِ أن يصيرَ إلاَّ واقعاً . فصل قلت : فإن قيل : قوله : " فوقع الحَقُّ " يدُلُّ على قوَّةِ الظَّهُورِ . فكان قوله : { وبطل ما كانُوا يَعْمَلُون } تكريراً . فالجوابُ : أنَّ المرادَ : مع ثبوت الحقِّ زالت الأعيانُ الَّتي أفكوها ، وهي الحِبَالُ والعصا ، فعند ذلك ظهرت الغلبةُ . فصل قوله : " فَغُلِبُوا هُنالِكَ " يجوزُ أن يكون مكاناً ، أي : غُلِبُوا في المكانِ الذي وقع فيه سحرهم ، وهذا هو الظَّاهرُ . وقيل : يجوزُ أن يكون زماناً ، وهذا ليس أصْلُهُ ، وقد أثبت لَهُ بعضهم هذا المعنى بقوله تعالى : { هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ الأحزاب : 11 ] . ويقول الآخر : [ الكامل ] @ 2544 - … فَهُنَاكَ يَعْترفُونَ أيْنَ المَفْزَعُ ؟ @@ ولا حُجَّةَ فيهما ، لأنَّ المكانَ فيهما واضحٌ . قوله : " وانقلبُوا صاغرينَ " أي : ذليلين مقهورين . وصاغرين حالٌ من فاعل انقلبُوا والضميرُ في انقلبُوا يجوزُ أن يعودَ على قوم فرعون وعلى السَّحرةِ ، إذا جعلنا الانقلاب قبل إيمان السحرةِ ، أو جعلنا انقلبُوا بمعنى : صاروا ، كما فسَّره الزمخشريُّ ، أي : صاروا أذلاَّءَ مبهوتين مُتَحَيِّرين . ويجوز أن يعودَ عليهم دُونَ السَّحرةِ إذا كان ذلك بعد إيمانهم ، ولم يجعلْ انْقلبُوا بمعنى : صاروا : لأنَّ الله لا يَصِفُهُم بالصَّغَارِ بعد إيمانهم . قوله : { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } . قال مقاتل : " ألْقاهُمُ اللَّهُ " . وقيل : ألهمهم اللَّهُ أنْ يسجدُوا فَسَجَدُوا . قال الأخفشُ : من سرعة ما سَجدُوا كأنَّهم ألقوا . فـ " ساجدين " حال من السَّحرة ، وكذلك قالوا أي ألقوا ساجدين قائلين ذلك ، ويجوزُ أن يكُون حالاً من الضَّمير المستتر في ساجدينَ . وعلى كلا القولين هُمْ متلبِّسُون بالسُّجُودِ للَّهِ تعالى . ويجوزُ أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له ، وجعله أبُو البقاءِ حالاً من فاعل " انْقَلَبُوا " ، فإنَّهُ قال : " يجوزُ أن يكُون حالاً ، أي : فانْقَلَبُوا صاغرين " . قالوا وهذا ليس بجيِّد للفصل بقوله " وَألقى السَّحرةُ " . قوله : { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . قال المفسِّرونَ : لما قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قال فِرعونُ : إيّايَ تعنُون ؛ فقالوا : { رَبِّ مُوسَى وهارُونَ } ، فـ : " ربِّ مُوسَى " يجوز أن يكون نعتاً لـ : " ربِّ العالمينَ " ، وأن يكون بدلاً ، وأنْ يكون عطف بيان . وفائدةُ ذلك : نَفْيُ تَوَهُّم من يتوهَّمُ أنَّ رب العالمينَ قد يطلق على غير اللَّه تعالى ، لقول فرعونَ { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [ النازعات : 24 ] وقدَّمُوا " مُوسَى " في الذِّكْرِ على " هَارُونَ " وإن كان هارون أسَنَّ منه ، لكبره في الرُّتْبَةِ ، أو لأنَّهُ وقع فاصِلة هنا . ولذلك قال في سورة طه : { بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } [ طه : 70 ] لوقوع " موسى " فاصلةً ، أو تكون كل طائفة منهم قالت إحدى المقالتين ، فنسبَ فعل البعض إلى المجمُوعِ في سورةٍ ، وفعل بعضهم الآخر إلى المجمُوعِ في أخرى . فصل احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بقوله تعالى : { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } على أن غيرهم ألقاهُم ، وما ذاك إلاَّ اللَّهُ رب العالمين ، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى . وأجاب المُعتزِلَةُ بوجوهٍ : أحدها : أنَّهُمْ لمَّا شاهدوا الآياتِ العظيمةَ ، لم يتمالَكُوا أن وقعوا ساجدين ، فصاروا كأنَّ مُلقِياً ألقاهُم . وثانيها : ما تقدَّم من تفسير الأخفش . وثالثها : أنَّهُ ليس في الآية أنَّ ملقياً ألقاهم ، فنقولُ ذلك المُلقي هُم أنفسُهم . والجوابُ : أن خالق تلك الدَّاعيةِ في قلوبهم هو اللَّهُ تعالى ، وإلا لافتقر خَلْقُ تلك الدَّاعِيِةِ إلى داعيةٍ أخرى ، ولزم التَّسلسل ، وهو مُحَالٌ ، ثمَّ إن أصل القدرةِ مع تلك الدَّاعية الجازمة تصيرُ موجبةً للفعل ، وخالقُ ذلك الموجب هو اللَّهُ تعالى ، فكان ذلك الفعل مُسنداً إلى اللَّهِ تعالى . فصل فإن قيل : إنَّهُ تعالى ذكر أوَّلاً أنَّهُمْ صاروا ساجدين ، ثمَّ ذكر بعد ذلك أنهم قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . فما الفائدة فيه مع أن الإيمان يجبُ أن يكون متقدِّماً على السُّجُودِ ؟ . فالجوابُ ، من وجوه ، أحدها : أنَّهُم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا للَّه تعالى في الحال ، وجعلوا ذلك السُّجُود شكراً لِلَّه تعالى على الفَوْزِ بالمَعْرفةِ والإيمان ، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان ، وإظهاراً للتَّذلل ، فكأنَّهم جعلوا ذلك السُّجُود الواحد علامةً على هذه الأمور . وثانيها : لا يبعد أنَّهُمْ عند الذهاب إلى السُّجود قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . فصل فإن قيل : لمّا قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } دخل موسى وهارون في جملة العالمين ، فما فائدة تخصيصهما بعد ذلك ؟ فالجواب من وجهين : الأول : أن التقدير آمنا برب العالمين ، وهو الذي دعا إلى الإيمان به وبموسى وهارون . الثاني : خَصَّهُمَا بالذِّكْرِ تشريفاً ، وتفضيلاً كقوله : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . قوله : " آمنتم " اختلف القرَّاءُ في هذا الحرف هنا ، وفي طه وفي الشعراءِ ، فبعضهم جرى على منوالٍ واحد ، وبعضهم قرأ في موضع بشيءٍ لمْ يقرأ بِهِ في غيره ، وهم في ذلك على أربع مراتب . الأولى : قراءة الأخوينِ ، وأبي بكر عن عاصمٍ بتحقيق الهمزتين في السُّور الثَّلاثِ من غير إدخال ألف بينهما ، وهو استفهام إنكارٍ ، وأمَّا الألفُ الثَّالثة فالْكلُّ يَقْرءُونَهَا كذلك ، لأنَّهَا فاءُ الكلمة ، أبدلتْ لسكونها بعد همزة مفتوحة ، وذلك أنَّ أصْلَ هذه الكلمةِ أَأَأْمنْتم بثلاثِ همزاتٍ : الأولى للاستفهام ، والثَّانيةُ همزة " أفْعَلَ " ، والثَّالثةُ فاء الكلمة ، فالثَّالثة يجبُ قلبها ألفاً ، لما تقدم أوَّل الكتاب ، وأمَّا الأولى فمُحَقَّقه ليس إلاَّ ، وأمَّا الثَّانيةُ فهي الَّتي فيها الخلاف بالنِّسبة إلى التَّحقيقِ والتَّسْهيلِ . الثانية : قراءة حفص وهي " آمنتم " بهمزة واحدة بعدها الألفُ المشار إليها في جميع القرآن ، وهذه القراءةُ تحتمل الخبرَ المَحْضَ المتضمِّنَ للتَّوبيخ ، وتحتمل الاستفهامَ المشارَ إليه ، ولكنه حُذِفَ لفهم المعنى ، ولقراءة الباقين . الثالثة : قراءة نافعٍ وابن عمرٍو وابن عامر والبزِّي عن ابن كثير وهي تحقيقُ الأولى ، وتسهيلُ الثانية بين بين ، والألف المذكورة ، وهو استفهام إنكاري ، كما تقدم . الرابعة : قراءةُ قنبلٍ عن ابنِ كثير ، وهي التَّفرقةُ بين السُّور الثَّلاثِ . وذلك أنَّهُ قرأ في هذه السُّورة حال الابتداء بـ " أآمنتم " بهمزتين ، أولاهما محققة والثَّانية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ وألف بعدها كقراءة البزِّي ، وحال الوصل يقرأ : { قَالَ فِرْعَوْنُ وآمَنْتُم } بإبدال الأولى واواً ، وتسهيل الثَّانية بين بين وألف بعدها ، وذلك أنَّ الهمزة إذا كانت مفتوحةً بعد ضمَّةٍ جاز إبدالُهَا واواً سواء أكانت الضَّمَّةُ والهمزةُ في كلمةٍ واحدةٍ نحو : مُرْجَؤونَ ، و { يُؤَاخِذُكُمُ } [ البقرة : 225 ] ومُؤجَّلاً أم في كلمتين كهذه الآيةِ ، وقد فعل ذلك أيضاً في سورة الملك في قوله : { وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ ءَأَمِنتُم } [ الملك : 15 - 16 ] فأبدلَ الهمزةَ الأولى واواً ، لانضمام ما قَبْلهَا حال الوصل ، وأمَّا في الابتداءِ فيخففها لزوال الموجبِ لقلبها ، إلاَّ أنَّه ليس في سورة الملكِ ثلاثُ همزاتٍ ، وسيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في موضعه . وقرأ في سورة طه كقراءة حفص : أعني بهمزة واحدة بعدها ألف ، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقه البزّيّ ، فإنَّهُ ليس قبلها ضمة ؛ فيبدلها واواً في حال الوصل . وقد قرىء لقنبل أيضاً بثلاثة أوجُهٍ في هذه السُّورةِ وَصْلاً وهي : تسكينُ الهمزةِ بعد الواوِ المبدلة ، أو تحريكها ، أو إبدالها ألفاً ، وحينئذٍ يُنطق بِقَدْرِ ألفيْنِ . ولم يُدخلْ أحدٌ من القراء مدًّا بين الهمزتين هنا سواءً في ذلك من حقَّق أو سهَّل ، لئلاَّ يجتمع أربعُ متشابهاتٍ ، والضميرُ في " به " عائدٌ على اللَّهِ تعالى لقوله : { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ويجوزُ أن يعود على موسى ، وأمَّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله { آمنتُمْ له } فالضَّميرُ لموسَى لقوله { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ } . فصل اعلم أنَّ فرعون لمَّا رأى إيمان السَّحرةٍ بنبوة موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - عند اجتماع الخلق خاف من أن يصير ذلك حجّة قويَّة على صحَّةِ نبوة موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فألقى في الحالِ شبهتين إلى أسْماعِ العوامِّ ؛ ليمنع القوم من اعتقاد نُبوةِ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - . الأولى : قوله : { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ } أي : إنَّ إيمان هؤلاء بموسى ليس لقوة الدَّليل بل لأنَّهم تَوَاطَئُوا مع مُوسى أنَّه إذا كان كذا وكذا فنحن نُؤمن بِك . الثانية : أنَّ غرض موسى والسَّحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة ، وإبطال ملكهم . ومعلوم عند جمع العقلاء أنَّ مُفارقَةَ الوطنِ والنِّعْمَة المألوفة من أصعبِ الأمور فجمع فرعون اللّعينُ بين الشُّبهتين ، ولا يوجد أقوى منهما في هذا الباب . وروى محمَّدُ بنُ جريرٍ عن السُّدِّي في حديثٍ عن ابن عباس ، وابن مسعودٍ وغيرهما من الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين أن موسى عليه السلام وأمير السحرة التقيا فقال موسى - عليه الصلاة والسلام - : أرأيتك إن غلبتك أن تؤمن بي وتشهدَ أنَّ ما جِئتُ به الحقّ ؟ فقال الساحر : واللَّهِ لئن غلبتني لأومِنَنَّ بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمعُ قولهما ، فهذا قولُ فرعون : { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ } . قال القاضي : وقوله { قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } دليلٌ على مناقضة فرعون في ادِّعاءِ الألوهية ، لأنَّهُ لو كان إلهاً لما جاز أن يأذنَ لهم في أن يُؤمنوا به مع أنَّهُ يدعُوهُمْ إلى إلهيَّةِ غيره ، وذلك من خذلان اللَّهِ الذي يظهرُ على المُبطلين . قوله : " فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ " حُذِفَ مفعولُ العلم ، للعلم به ، أي : تعلمون ما يحلُّ بكم ، وهذا وعيدٌ مجمل ، ثُمَّ فَسَّرَ هذا المُبْهَمَ بقوله : " لأقَطِّعَنَّ " جاء به في جملةٍ قَسَمِيَّةٍ ؛ تأكيداً لِمَا يَفْعَله . وقرأ مجاهدُ بنُ جبر ، وحميد المكي ، وابنُ مُحَيْصنٍ : " لأقْطعَنَّ " مخففاً من " قَطَعَ " الثلاثي ، وكذا لأصْلُبَنّكُم من " صَلَبَ " الثلاثي . رُوي بضم اللام وكسرها ، وهما لغتان في المضارع ، يُقال : صَلَبَهُ يَصْلُبُهُ ويَصْلِبُهُ . قوله : " مِنْ خلافٍ " يُحتمل أن يكون المعنى : على أنَّهُ يقطع من كُلِ شقٍّ طرفاً ، فيقطع اليدَ اليمنى ، والرِّجل اليسرى ، وكذا هو في التفسير ، فيكونُ الجارُّ والمجرور في محلِّ نصبٍ على الحال ، كأنَّهُ قال : مُختلفةً ، ويُحْتملُ أن يكون المعنى : لأقَطِّعَنَّ لأجْلِ مخالفتكم إيَّاي فتكون " مِنْ " تعليليةً وتتعلَّق على هذا بنفس الفعل ، وهو بعيدٌ . و " أجْمَعِينَ " تأكيدُ أتى به دون كلّ وإن كان الأكثرُ سبقهُ بـ " كلّ " وجيء هنا بـ " ثُمَّ " ، وفي : طه والشعراء بالواو ، لأن الواو صالحةٌ للمُهْلة ، فلا تَنَافِيَ بين الآيات . فصل اختلفوا هل فعل بهم ذلك أم لا ؟ فنقل عن ابْنِ عبَّاسٍ أنَّهُ فعل بهم ذلك . وقال غيره : لم يقع من فرعون ذلك ، بل استجاب اللَّه دعاءهم في قولهم : " وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ " . وقوله : { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } جَوَّزُوا في هذا الضَّمير وجهين ، أحدهما : أنَّهُ يَخُصُّ السَّحرةَ ، لقوله بعد ذلك { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا } فإنَّ الضَّميرَ في مِنَّا يَخُصُّهُمْ . وجَوَّزُوا أن يعود عليهم ، وعلى فرعون ، أي : إنَّا - نحن وأنت - ننقلب إلى اللَّهِ ، فيُجازي كلاًّ بعمله ، وهذا وإن كان هو الواقعَ إلاَّ أنَّهُ ليس من هذا اللَّفظِ . قوله وَمَا تَنقِمُ قد تقدَّم في المائدةِ أنَّ فيه لغتين وكيفية تعدِّيه بـ " مِنْ " وأنَّهُ على التَّضمين . وقوله : { إلاَّ أنْ آمنَّا } يجوز أن يكون في محلَِّ نصبٍ مفعولاً به ، أي : ما تَعِيبُ علينا إلاَّ إيماننا ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله ، أي : ما تنال مِنَّا وتعذِّبنا لشيءٍ من الأشياء إلاَّ لإيماننا وعلى كلا القولينِ فهو استثناءٌ مفرغ . قوله " لَمَّا جَاءَتْنَا " يجوزُ أن تكون ظرفيةً كما هو رأي الفارسي ، وأحد قولي سيبويه ، والعامِلُ فيها على هذا آمَنَّا أي : آمنَّا حين مجيء الآيات ، وأن تكون حرف وجوب لوجوبٍ ، وعلى هذا فلا بدَّ لها من جواب وهو محذوف تقديره : لما جاءتنا آمّنا بها من غير توقّف . قوله : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } معنى الإفراغ في اللُّغَةِ : الصَّبُّ . وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه بالكليَّة ، فكأنَّهُمْ طلبوا من اللَّه كلَّ الصَّبْرِ لا بعضه . ونكَّرُوا " الصَّبْر " وذلك يدلُّ على الكمالِ والتَّمَامِ ، أي : صبراً كَاملاً تاماً ، كقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] أي : على حياة كاملة تامَّةٍ . وقوله : { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : توفنا على الدِّين الحقِّ الذي جاء بِهِ موسى . واحْتَجَّ القاضي بهذه الآية على أنَّ الإيمان والإسلامَ واحد . فقال : إنَّهُم قالوا أوَّلاً : { آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا } ، ثمَّ ثانياً ، " وَتَوَفَّنَا مُسْلِمينَ " ، فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان . قوله : { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } . [ اعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف ، فلهذا لم يحبسه ولم يتعرض له بل خلى سبيله ، فقال له قومه : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ] . أي : يُفسدوا على النَّاسِ دينَهُمْ . قوله : " وَيَذَركَ " العامةُ " ويَذَرَكَ " بالغيبةِ ، ونصب الرَّاءِ ، وفي النَّصْبِ وجهان : أظهرهما : أنَّهُ عطف على " لِيُفْسِدُوا " والثاني : أنَّهُ منصوبٌ على جواب الاستفهام كما يُنْصب في جوابه بعد الفاء ؛ كقول الحُطيئةِ : [ الوافر ] @ 2545 - ألَمْ أكُ جَارَكُمْ ويكُونَ بَيْنِي وبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإخَاءُ ؟ @@ والمعنى : كيف يكون الجمعُ بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين ، وبين تركهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك ، أي : لا يمكن وقوعُ ذلك . وقرأ الحسنُ في رواية عنه ونعيمُ بن ميسرة " ويَذَرُكَ " برفع الرَّاء ، وفيها ثلاثة أوُجه : أظهرها : أنَّه عطف نسق على " أتذر " أي : أتطلق له ذلك . الثاني : أنه استئناف أي ، إخبار بذلك . الثالث : أنَّهُ حالٌ ، ولا بدَّ من إضمارِ مبتدأ ، أي : وهو يَذَرُكَ . وقرأ الحسنُ أيضاً والأشهبُ العُقَيْلِيُّ " وَيَذَرْكُ " بالجزم ، وفيه وجهان : أحدهما : أنَّه جزم على التَّوهُّم ، كأنه توهَّم جزم " يُفْسِدُوا " في جواب الاستِفْهَامِ وعطف عليه بالجزمِ ، كقوله : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] بجزم " أكُنْ " . والثاني : أنَّهَا تخفيفٌ كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] وبابه . وقرأ أنس بن مالك " ونَذَرُكَ " بنون الجماعة ورفع الرَّاءِ ، تَوَعَّدُوهُ بذلك ، أو أنَّ الأمْرَ يؤولُ إلى ذلك فيكونُ خبراً محضاً . وقرأ عبد الله والاعمش بما يخالف السَّوادَ ، فلا حاجة إلى ذكره . وقرأ العامةُ " آلهَتَكَ " بالجمع . رُوِيَ أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبَقَرِ ، ولذلك أخرجَ السَّامري لهم عجلاً ، ورُوِي أنَّهُ كان يعبدُ الحِجارةَ والكواكب ، أو آلهتَه التي شَرَعَ عبادتَهَا لهم وجعل نَفْسَهُ الإله الأعلى في قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [ النازعات : 24 ] . وقرأ علي بنُ أبي طالب ، وابنُ مسعود ، وابن عبَّاسٍ ، وأنسٌ وجماعةٌ كثيرةٌ " وإلاهتكَ " ، وفيها وجهان : أحدهما : أنَّ " الإلاهَةَ " اسمٌ للمعبود ، ويكونُ المرادُ بها معبودَ فرعون ، وهي الشَّمْسُ . رُوى أنَّهُ كان يعبُد الشَّمْسَ ، والشَّمْسُ تُسَمَّى " الإهَةً " ، عَلَماً عليها ، ولذلك مُنِعَت الصَّرف ، للعلميَّة والتأنيث ؛ قال الشَّاعرُ : [ الوافر ] @ 2546 - تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّغْباءِ عَصْراً فأعْجَلْنَا الإلهَةَ أنْ تَئُوبَا @@ والثاني : أنَّ الإلاهة مصدرٌ بمعنى العبادة ، أي وتذرُ عبادتك ، لأنَّ قومه كانوا يعبدونه . ونقل ابنُ الأنْباري عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ كان يُنكر قراءة العامَّة ، ويقرأ " وإلاهتك " ، وكان يقول : إنَّ فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ . قال ابنُ الخطيبِ : والذي يخطر ببالي أنَّ فرعون إن قلنا : إنَّه ما كان كامل العقل لم يَجُزْ في حكم اللَّهِ تعالى إرسال الرسول إليه ، وإن كان عَاقِلاً لم يَجُز أنْ يعتقدَ في نفسه كونه خالقاً للسَّمواتِ والأرضِ ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك ، لأنَّ فسادهُ معلوم بالضَّرُورةِ ، بل الأقربُ أن يقال : إنَّهُ كان دَهْرياً مُنكراً لوجود الصَّانِعِ ، وكان يقُولُ : مُدبِّرُ هذا العالم السُّفْلي هو الكواكِبُ ، وأنا المخدوم في العالمِ للخلق ، والمُربي لهم فهو نفسه . فقوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [ النازعات : 24 ] أي : مُرببكم والمنعم عليكم والمطعم لكم . وقوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] أي : لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلاَّ أنا ، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنَّهُ كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب يعبدها ، ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب ، وعلى هذا فلا امتناع في حمل قوله تعالى : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } على ظاهره . قوله : " قَالَ سَنُقَتِّلُ " قرأ نافعٌ وابْنُ كثير بالتخَّفيفِ سنقتل والباقون بالتضعيف لتعدُّد المحالّ . وسيأتي أنَّ الجماعة قَرَءُوا " يُقَتِّلُونَ أبناءكم " بالتضعيف إلاَّ نافعاً فيخفف . فتخلص من ذلك أنَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف ، وابن كثير يُخَفف " سنَقْتُل " ويثقل " يُقَتِّلُونَ " ، والباقون يثقِّلونهما . قوله : " ونستحيي نِسَاءهُمْ " . أي نتركهم أحياء . والمعنى : أنَّ موسى إنَّما يُمْكنه الإفسادُ برهطه وبشيعته فنحنُ نسعى في تقليل رهطه وشيعته ، بأنْ نقتِّلَ أبناء بني إسرائيل ، ونستحيي نساءهم . ثم بَيِّن أنَّهُ قادرٌ على ذلك بقوله : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } أي : إنَّمَا نترك موسى لا مِنْ عجزٍ وخوفٍ ، ولو أردنا البَطْشَ به لقدرنا عليه . قال ابنُ عباس : أمر فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل ، فشكت ذلك بنو إسرائيل إلى موسى ، فقال لهم مُوسَى : { ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱلأَرْضَ لِلَّهِ } يعني أرض مصر . قوله : " يُورِثهَا " في محلِّ نصب على الحَالِ ، وفي صاحبها وجهان : أحدهما : الجلالة ، أي هي له حال كونه مُورِثاً لها من يشاؤه . والثاني : أنَّه الضَّميرُ المستترُ في الجَارِّ أي : إنَّ الأرضَ مستقرة للَّهِ حال كونها مُوَرَّثَةً من الله لمن يشاءُ ، ويجوز أن يكون " يُورِثُهَا " خبراً ثانياً ، وأنْ يكون خبراً وحده ، و " لِلَّهِ " هو الحالُ ، و " مَن يشاءُ " مفعولٌ ثاني ويجوزُ أن تكون جملةً مستأنفة . وقرأ الحسنُ ، ورُويت عن حفص " يُوَرِّثُهَا " بالتشديد على المبالغة ، وقرىء " يُورَثها " بفتح الراء مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل هو : " مَن يَشَاءُ " . والألفُ واللاَّم في " الأرض " يجوزُ أن تكون للعهدِ ، وهي أرضُ مصر كما تقدَّم ، أو للجنس ، وقرأ ابن مسعود بنصب " العَاقِبَة " نسقاً على الأرض و " للمتَّقينَ " خبرُها ، فيكون قد عطف الاسم على الاسم ، والخبر على الخبر فهو مِنْ عطف الجمل . فصل قال الزمخشريُّ : فإن قلت : لِمَ أخليَتْ هذه الجملة من الواو وأدخلتْ على الَّتي قبلها ؟ . قلت : هي جملةٌ مبتدأةٌ مستأنفةٌ ، وأمَّا : " وقَالَ الملأ " فهي معطوفة على ما سبقها من قوله : { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } . والمرادُ من قوله : " والعاقِبَةُ " أي النَّصْرُ والظفر ، وقيل : الجَنَّةُ . فصل قوله : { قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } . لما هدَّد فرعونُ قوم موسى وتوعدهم خافوا ، و { قَالُوا أوذينا من قبل أن تَأتِينَا } لأنَّهم كانُوا قبل مجيء موسى - عليه الصلاة والسلام - كانوا مستضعفين في يد فرعون ، يأخذُ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمالِ الشَّاقة ، ويمنعهم من الترفة ، ويقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، فلمَّا بعث اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسلام - قوي رجاؤُهم في زوال تلك المضار ، فلما سمعوا تهديدَ فرعون ثانياً عظُم خوفُهُم ، فقالوا هذا الكلام . فصل فإن قيل : هذا القول يدلُّ على كراهتهم مجيء موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك يوجب الكفر . فالجواب : أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لمَّا جاء وعدهم بزوال تلك المضار فَظَنُّوا أنَّهَا تزول على الفور ، فلَّما رأوا أنَّهَا ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد ، فبيَّن لهم موسى - عليه السلام - أن الوعدَ بإزالتها لا يُوجِب الفور ، بل لا بدَّ أن يستنجزَ ذلك الوعد في الوقت المقدر لَهُ . فالحاصل أنَّ هذا ما كان نُفرةً عن مجيء موسى بالرِّسالةِ ، بل استكشافاً لكيفية ذلك . فعند هذا قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } . قال سيبويه : " عَسَى " طمع وإشفاق . قال الزَّجَّاجُ : وما يطمع اللَّه فيه فهو واجب . ولقائل أن يقول : هذا ضعيف ؛ لأنَّ لفظ " عسى " ههنا ليس كلام اللَّه بل هو حكاية عن كلام موسى ، ويُجاب بأنَّ هذا الكلامِ إذا صدر عن الرسول الذي ظهرت نبوته بالمعجزات أفاد قوة اليقين فَقَوَّى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - قلوبهم بهذا القولِ وحقَّق عندهم الوعدَ ليصبروا ويتركوا الجزع المذموم . قال القرطبي : " جَدَّدَ لهم الوعدَ وحقَّقَهُ . وقد استُخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ، وفتحُوا بيت المقدس مع يُوشع بن نون كما تقدم ، وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى ، وتبعهم فرعون ، فكان وراءهم ، والبحرُ أمامهم ، فحقَّقَ اللَّه الوعد : بأن غرق فرعون وقومه ، وأنجاهم " . ثُم بيَّن بقوله : { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } ما يَجْرِي مجرى الحثِّ له على التَّمسُّك بطاعة اللَّهِ . واعلم أنَّ النظر قد يُراد به النَّظر الذي يفيد العِلْمَ ، وهو على اللَّهِ محال ، وقد يُرَادُ به تقليب الحدقة نحو المرئيّ التِمَاساً لرؤيته وهو أيضاً على اللَّهِ محال ، وقد يراد به الرُّؤية ، ويجب حملُ اللَّفْظِ ههنا عليها . قال الزَّجَّاجُ : أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم ، لأنَّ اللَّه تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم وإنَّمَا يجازيهم على ما يقعُ منهم . فإن قيل : إذا حملتم هذا النَّظَر على الرُّؤيَةِ لزم الإشكالُ ، لأن الفاءَ في قوله : " فَيَنْظُرَ : " للتعقيب ، فيلزم أن تكون رؤية اللَّهِ لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعْمَالِ ، وذلك يُوجِبُ حُدُوث صفة في ذات اللَّهِ . فالجواب : أن المعنى تعلُّق رؤية اللَّه تعالى بذلك الشَّيءِ ، والتَّعلق نسبة حادثة ، والنِّسَبُ والإضافاتُ ؛ لا وجود لها في الأعيانِ ، فلم يلزم حدوث الصِّفةِ الحقيقية في ذات اللَّهِ تعالى . وقد حَقَّقَ اللَّهُ ذلك الوعدَ ، فأغرق فرعون واستخلفهم في ديارهم ، وأموالهم ؛ فعبدُوا والعِجْلَ .