Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 130-137)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما قال موسى لقومه : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } [ الأعراف : 129 ] بدأ بذكر ما أنزل بفرعون وقومه من المِحَنِ حالاً بعد حال ، إلى أن وصل الأمرُ إلى الهلاكِ تنبيهاً للمكلَّفين على الزَّجْرِ عن الكفر . " والسِّنينَ " : جمعُ سنة ، وفيها لغتان أشهرهما : إجْرَاؤُهُ مُجرَى المُذكر السَّالم فيُرفع بالواو ويُنْصَبُ ويُجَرُّ بالياء ، وتُحْذَفُ نُونُه للإضافة . قال النُّحَاةُ : إنَّمَا جرى ذلك المجرى جَبْراً لما فاته من لامة المحذوفةِ ، وسيأتي في لامه كلامٌ ، واللغة الثانيةُ : أن يُجْعَلَ الإعرابُ على النُّون ولكن مع الياء خاصَّةً . نقل هذه اللُّغة أبُو زيد والفراءُ . ثم لك فيها لغتان : إحداهما : ثبوتُ تنوينها . والثانية : عدمهُ . قال الفرَّاءُ : هي في هذه اللُّغة مصروفة عند بني عامر ، وغير مصروفة عند بني تميم ، ووجه حذف التنوين التَّخفيف ، وحينئذ لا تُحْذَفُ النُّون للإضافة وعلى ذلك جاء قوله : [ الطويل ] @ 2547 - دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سِنِينَهُ لَعِبْنَ بِنَا شيباً وشَيِّبْنَنَا مُرْدَا @@ وجاء في الحديث : " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سنينَ كَسِنِي يُوسُفَ " " وسِنيناً كسِنِينِ يُوسفُ " باللُّغتين ، وفي لام سَنَةٍ لغتان ، أحدهما : أنَّهَا واو لقولهم : سنوات وسَانَيْتُ ، وسُنَيَّةٌ . والثانية : أنَّها هاء لقولهم : سانَهْتُ وسَنَهَات وسُنَيْهَة ، وليس هذا الحكمُ المذكور أعني : جريانه مجرى جمع المذكر أو إعرابه بالحركات مقتصراً على لفظ " سِنينَ " بل هو جارٍ في كلِّ اسم ثلاثي مؤنث حُذِفَتْ لامُهُ ، وعُوِّضَ منها تَاءُ التَّأنيثِ ، ولم يُجْمَع جمع تكسير نحو : ثُبَةٍ وثُبين ، وقُلة ، وقُلينَ . فصل قال شهابُ الدِّين : وتَحرَّزْتُ بقولي : حُذِفَتْ لامُه مِمَّا حُذِفَتْ فاؤه ، نحو : لِدة وعِدَة . وبقولي ولم يُجْمع جمع تكسير من ظُبَةٍ وظُبًى ، وقد شَذَّ قولهم : لِدُونَ في المحذوف الفاء ، وظِبُونَ في المكسَّر . قال : [ الوافر ] @ 2548 - يَرَى الرَّاءُونَ بالشَّفرَاتِ مِنْهَا وقُودَ أبِي حُبَاحِبَ والظُّبِينَا @@ واعلم أنَّ هذا النَّوَع إذَا جَرَى مَجْرَى الزيدينَ فإنْ كان مكسورَ الفاء سَلِمَتْ ، ولم تُغَيَّر نحو : مائة ومئين ، وفئة وفئين ، وإنْ كان مفتوحها كُسِرَتْ نحو : سنين ، وقد نُقِلَ فَتْحُها وهو قليلٌ جدًّا ، وإن كان مضمومَهَا جاز في جمعها الوجهان : أعني السَّلامة ، والكسر نحو : ثُبين وقُلين . قال أبُو عَلِي : السَّنة على معنيين : أحدهما : يراد بها العام . والثاني : يراد بها الجدْب . وقد غلبت السَّنَةُ على زمانِ الجدْبِ ، والعام على زمان الخصب حتى صَارَا كالعلم بالغلبة ولذلك أشتقُّوا من لفظ السَّنَةِ فقالوا : أسْنَتَ القَوْمُ . قال : [ الكامل ] @ 2549 - عَمْرُو الذي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنتُونَ عِجَافُ @@ وقال حاتم الطائِيُّ : [ الطويل ] @ 2550 - فإنَّا نُهِينُ المَالَ مِنْ غَيْرِ ضِنَّةٍ وَلاَ يَشْتَكِينَا في السِّنينَ ضَرِيرُهَا @@ ويُؤيِّدُ ذلك ما في سورة يوسف [ الآية 47 ] : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً } ثم قال : { سَبْعٌ شِدَادٌ } فهذا في الجدب . وقال : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ } . وقوله : " مِنَ الثَّمَرَاتِ " متعلِّق بـ " نَقْصٍ " . قال قتادةُ : أمَّا السنُونَ فلأهل البوادي ، وأمَّا نقص الثَّمراتِ فلأهل الأمصار . " لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُّونَ " يتَّعظون ، وذلك لأنَّ الشدة ترقق القلوب ، وترغب فيما عند اللَّهِ . قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] . فصل قال القاضي : هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ تعالى فعل ذلك لإرادة أن يذكَّرُوا وأنْ لا يقيموا على كفرهم ، وأجاب الواحديُّ : " بأنَّهُ قد جاء لفظا الابتلاء ، والاختبار في القرآن لا بمعنى أنَّه تعالى يمتحنهم ، لأنَّ ذلك على اللَّهِ مُحَالٌ ، بل إنَّه تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء ، والامتحان ، فكذا ههنا " . ثم بيَّن أنَّهُم عند نزول تلك المحن عليهم يزيدون في الكُفْرِ ، والمعصيةِ . فقال : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ } . قال ابْنُ عبَّاسٍ : يُريد بالحسنةِ : العُشْبَ ، والخصب ، والمواشي ، والثِّمار وسعة الرزق ، والعافية ، أي : نحن أهلها ومستحقُّوها على العادة فلم يشكروا ويقوموا لِلَّهِ بحق النِّعمة . { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قَحْط وجدْب وبلاء ومرض : { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } أي : يتشاءمُوا بموسى ، ومن معه ، ويقولُوا : إنَّمَا أصَابَنا هذا الشَّرُّ بِشُؤمِ مُوسَى وقومه . قال سعيدُ بْنُ جبيرٍ ومحمَّدُ بنُ المُنْكَدرِ : كان مُلْكُ فرعون أربعمائة سنة ، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروهاً ، ولو كان حصل لَهُ في تلك المُدَّة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ قط . فصل أتى في جانب الحَسَنَةِ بـ " إذا " الَّتي للمحقق ، وعُرِّفَتِ الحسنة ، لسعة رَحْمَةِ اللَّهِ تعالى ، ولأنَّها أمر محبوبٌ ، كلُّ أحدٍ يتمناه ، وأتى في جانب السيئة بـ " إن " التي للمشكوك فيه ، ونُكِّرتِ السيئة ، لأنَّهُ أمرٌ كل أحدٍ يَحْذَره . وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال : فإن قلت : كيف قيل فإذا جَاءَتْهُمُ الحسنةُ بـ " إذا " وتعريفُ الحسنة و " إِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ " بـ " إن " وتنكير السيئة ؟ قلت : لأنَّ جنسَ الحسنة وقوعه كالواجب ، لكثرته واتِّساعه ، وأمَّا السَّيَّئةُ فلا تقع إلاَّ في الندرَةِ ، ولا يقع إلاَّ شيء منها ، وهذا من محاسن عِلْمِ البَيَانِ . قوله " يَطَّيَّرُوا " الأصْلُ : " يتطيَّروا " فأدغمتِ التَّاءُ في الطَّاءِ ، لمقاربتها لها . وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ : وطلحةُ بنُ مصرف " تَطَيَّرُوا " بتاءٍ من فوق على أنَّهُ فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورةٌ . إذ لا يقعُ فعل الشَّرْطِ مضارعاً ، والجزاءُ ماضياً إلاَّ ضرورةً ، كقوله : [ الخفيف ] @ 2551 - مَنْ يَكِدْنِي بِسَيِّىءٍ كُنْتُ مِنْهُ كالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ والوريدِ @@ وقوله : [ البسيط ] @ 2552 - إن يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرحاً مِنِّي وما يَسْمَعُوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا @@ وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك . والتَّطير : التَّشاؤُم ، وأصلُهُ ، أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم فيطير لِكُلِّ أحدٍ حظَّه ، ثمَّ أطلق على الحَظِّ ، والنَّصيب السَّيِّىء بالغَلبَةِ . وأنشدوا للبيد : [ الوافر ] @ 2553 - تَطِيرُ عدائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلامِ @@ الأشْرَاكُ جمع شِرْكٍ ، وهو النَّصيب . أي : طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر ، وَوِتْراً للأنثى والزَّعامةَ : أي : الرِّئاسة للذكر ، فهذا معناه : تَفَرَّق ، وصار لكُل أحد نصيبُه ، وليس من الشُّؤمِ في شيءٍ ، ثم غلبَ على ما ذكرناه . قوله : { ألا إنما طائرهم عند الله } أي حَظُّهم ، وما طار لهم في القضاء والقدر ، أو شؤمهم أي : سبب شؤمهم عند الله ، وهو ما ينزله بهم . قال ابن عباس : يريد شُؤمَهُمْ عند الله ، أي من قِبَل الله ، أي : إنما جاءهم الشَّرُّ بقضاءِ الله وحُكْمِهِ . قال الفَرَّاءُ : وقد تَشَاءَمت اليهود بالنبي - عليه السلام - بـ " المدينة " ، فقالوا : غَلَتْ أسْعَارُنَا ، وقَلَّتْ أمطارنا مذ أتانا ، وكثرت أمواتنا . ثم أعلم الله على لسان رسوله - عليه السلام - أن طيرتهُمْ باطلة ، فقال : " لا طيرة ولا هامة " - وكان النبي عليه السلام يَتفَاءَلُ ولا يَتَطَيَّرُ . وأصل الفَألِ : الكلمة الحسنة ، وكانت العرُب مذهبها في الفَألِ والطِّيرةِ واحداً ، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الفَألَ ، وأبطل الطِّيرةَ . والفَرْقُ بينهما أن الأرْوَاحَ الإنسانية أقوى وأصْفَى من الأرواح البهيمية والطيرية ، فالكلمة التي تَجْري على لسان الإنسان يمكن الاسْتِدْلالُ بها ؛ بخلاف طيرانِ الطير ، وحَرَكَاتِ البهائم ، فإن أرْوَاحَهَا ضعيفة ، فلا يمكن الاستدلالُ بها على شيء من الأحوال ، ثم قال تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ أي ] : أن الكل من الله تعالى ؛ لأن أكثر الخَلْقِ يُضِيفُونَ الحوادث إلى الأسبابِ المحسوسة ، ويقطعونها عن قضاءِ الله وقَدره ، والحق أن الكل من الله ؛ لأن كل موجود إما واجب لذاته ، أو ممكن لذاته ، والواجب لِذَاتِهِ واحد ، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الوَاجِبِ لذاته ، فكان الكل من الله - تعالى - ، فإسنادها إلى غير الله يكون جَهْلاً بكمال الله تعالى . قال الأزهريُّ : قيل للشُّؤم طائر وطير ، لأنَّ العرب كانت إذ خرجت وطار الطَّائِرُ ذات اليسار تشَاءَمُوا بها ، فَسَموا الشؤمَ طيراً وطَائِراً لتشاؤمهم بها . قال القُرْطُبِيُّ : وأصل هذا من الطِّيرةِ وزجر الطَّيْرِ ، ثمَّ كَثُر استعمالهم حتَّى قيل لِكُلّ مَنْ تشاءم : تَطَيَّر . وكانت العربُ تَتَيَمَّن بالسَّانِحِ : وهو الذي يأتي من ناحية اليَمينِ وتتشاءم بالبَارحِ : وهو الذي يأتي من ناحية الشّمَالِ . وكانوا يَتَطَيَّرُون أيضاً بِصَوْتِ الغراب ويتأوَّلُونَهُ البَيْن ، ويستدلُّونَ بمجاوبات الطيور بعضها بعضاً على أمور ، وبأصواتها في غير أوقاتها المَعْهُودَة على مثل ذلك . ويتطيّر الأعاجم إذَا رَأوْا صَبِيّاً يُذْهَب به إلى المُعَلِّم بالغَدَاةِ ، وَيَتَيمَّنُون برؤية صبيٍّ يرجع من عند المعلم إلى بيته ، ويَتَشَاءَمُونَ برؤية السَّقَّاء على ظهره قِرْبَةٌ مملوءةٌ مشدودة ، ويتيمَّنُونَ برؤية فارغ السِّقاءِ مفتوحة ، ويتشاءَمُونَ برؤية الحَمَّالِ المُثْقَل بالْحِمْلِ والدَّابَّة الموقرة ، وَيَتَيَّمنُونَ بالحَمَّال الذي وضع حمله ، وبالدَّابة الَّتي وضع عنها . فَجَاء الإسْلامُ بالنَّهْيِ عن التَّطيُّرِ ، والتَّشَاؤُم بما يُسمع من صوت طائرٍ ما كان ، وعلى أيّ حال كان ؛ فقال عليه الصلاة والسلام : " أقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا " وذلك أن كثيراً من أهل الجاهليةِ كان إذا أراد الحَاجَةَ ذهب إلى الطَّير في وَكْرها فنفَّرها فإذا أخذت يميناً مضى إلى حاجته ، وهَذَا هو السَّانِحُ عندهم ، وإن أخذت شمالاً رجع وهذا هو البَارحُ عندهم ، فنهى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هذا بقوله " أقِرُّوا الطَّيْرَ على مُكنَاتِهَا " هكذا في الحديث . وأهل العربيَّة يقولون : " وكناتِهَا " ، والوكْنَةُ : اسمٌ لكلِّ وَكْرٍ وعشٍّ . والوَكْنُ : اسمٌ للموضع الذي يبيض فيه الطَّائِرُ ويُفرخُ ، وهُو الخَرْقُ في الحِيطَانِ والشَّجرِ . ويقال : وَكَنَ الطائرُ يَكِنُ وَكْناً ووكُوناً : دخل في الوَكْنِ ، ووكن بَيْضَهُ ، وعليه : حضنه ، وكان أيضاً من العرب من لا يرى التَّطيُّرَ شيئاً نقله القرطبيُّ . وروى عبد اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيرةُ عن حَاجَتِه فَقَدْ أشْرَكَ " . قيل : وما كفارةُ ذلك يا رسُول اللَّهِ . قال : " أنْ يقُولَ أحَدُكم : اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ ، ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ ، وَلاَ إله غَيرُك ، ثُمَّ يمضي إلى حاجته " . قوله { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا } . لَمَّا حكى عنهم أوَّلاً أنَّهم بجهلهم أسْنَدُوا الحوادث إلى قضاء اللَّه وقدره ، حكى عنهم ثانياً نوعاً آخر من الجهل والضَّلالة ، وهو أنَّهم لم يُميّزُوا بين المعجزاتِ والسّحر ، وجعلوا آيات موسى مثل انقلاب العَصَا حَيَّة . وقالُوا ذلك من باب السِّحر فلا يقبلُ منها شيء . " مَهْمَا " اسمُ شرطٍ يجزم فعلين كـ " إنْ " هذا قولُ جمهور النُّحَاةِ ، وقد تأتي للاستفهام وهو قليلٌ جداً . كقوله : [ الرجز ] @ 2554 - مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهْ ؟ أوْدَى بِنَعْلَيَّ وسِربَالِيَهْ @@ يريد : ما لي اللِّيلة ما لي ؟ والهاءُ للسَّكت . وزعم بعض النُّحاة أنَّ الجازمةَ تأتي ظرف زمان ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 2555 - وإنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا @@ وقول الآخر : [ الكامل ] @ 2556 - عَوَّدْتَ قَوْمَكَ أنَّ كُلَّ مُبَرَّزٍ مَهْمَا يُعَوَّدْ شِيَمةً يتَعَوَّدِ @@ وقول الآخر : [ الكامل ] @ 2557 - نُبِّئْتُ أنَّ أبَا شُتَيْمٍ يَدَّعِي مَهْمَا يَعِشْ يَسْمَعْ بمَا لَمْ يَسْمَعِ @@ قال : فـ " مَهْمَا " هنا ظرف زمان ، والجمهور على خلافه ، وما ذكره متأوّل ، بل بعضُهُ لا يظهر فيه للظَّرفية معنى ، وشنَّع الزمخشري على القائل بذلك . فقال : وهذه الكلمة في عداد الكلمات الَّتي يُحَرِّفُهَا مَنْ لا يدَ له في علم العربية ، فيضعها في غير موضعها ويحسب " مَهْمَا " بمعنى " متى ما " . ويقولُ : مَهْمَا جئتني أعطيتك ، وهذا من كلامِهِ ، وليس من واضع العربية ، ثم يذهبُ فيفسِّر : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ } [ الأعراف : 132 ] بمعنى الوقت ، فَيُلْحد في آيات اللَّهِ ، وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله مِمَّا يُوجب الجُثُوَّ بين يدي النَّاظر في كتاب سيبويه . قال شهابُ الدِّين : هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت ، فإن ذلك قولٌ ضعيفٌ ، لم يَقُلْ به إلاَّ الطَّائفة الشَّاذَّةُ . وقد قال جمال الدِّين بْنُ مالكٍ : جميع النَّحويين يقول إنَّ " مَهْمَا " و " مَا " مثل " مَنْ " في لزوم التَّجرُّدِ عن الظَّرف ، مع أنَّ استعمالهما ظرفين ثابتٌ في أشعار فصحاء العرب . وأنشد بعض الأبْياتِ المتقدمة وكفى بقوله جميع النَّحويين دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما . وهي اسمٌ لا حرفٌ ، بدليل عَوْد الضَّمير عليها ، ولا يعودُ الضَّمير على حرف ؛ لقوله : { مَهْمَا تَأتِنَا بِهِ } فالهاءُ في " بِهِ " تعود على " مَهْمَا " وشَذَّ السُّهيليُّ فزعم أنَّها قد تأتي حرفاً . واختلف النَّحويون في " مَهْمَا " هل هي بسيطة أو مركبة ؟ والقَائِلُونَ بتركيبها اختلفوا : فمنهم مَنْ قال : هي مركبة مِنْ " مَا مَا " كُرِّرَتْ " ما " الشَّرطيَّة توكيداً ، فاستثقل توالي لفظين فأبْدِلَت ألف " ما " الأولى هاء . وقيل : زيدت " ما " على " ما " الشَّرطية ، كما يُزَادُ على " إنْ " " ما " في قوله : " فَإمَّا يَأتينَّكُم " . فَعُمِلَ العمل المذكور للثقل الحاصل ، وهذا قولُ الخليل وأتباعه من أهل البصرة . وقال قَوْمٌ : هي مركبة من مَهْ التي هي اسم فعلٍ بمعنى الزَّجْر ، و " مَا " الشَّرطيَّة ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شَيْئاً واحداً . وقال بعضهم : لا تركيب فيها هنا ، بل كأنَّهُم قالوا له مَهْ ، ثم قالوا { مَا تَأتِنَا بِهِ } ويُعْزَى هذان الاحتمالان للكسائيِّ . قال شهابُ الدِّين : " وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأنَّ ذلك قد يأتي في موضع لا زَجْرَ فيه ، ولأنَّ كتابتها متصلة ينفي كون كلٍّ منهما كلمةً مستقلة " . وقال قومٌ : إنَّهَا مركَّبةً من " مَهْ " بمعنى اكفف و " مَن الشَّرطيَّةِ " ؛ بدليل قول الشاعر : [ الطويل ] @ 2558 - أماوِيَّ مَهْمَنْ يَسْتَمِعْ في صديقِهِ أقَاوِيلَ هذا النَّاسِ مَاوِيَّ يَنْدَمِ @@ فأبْدِلَتْ نونُ " مَنْ " ألفاً كما تبدل النُّونُ الخفيفة بعد فتحة ، والتَّنوين ألفاً ، وهذا ليس بشيء بل " مَهْ " على بابها من كونها بمعنى : اكْفُفْ ، ثم قال : مَنْ يستمعُ . وقال قوم : بل هي مركَّبة مِنْ " مَنْ " و " مَا " فأبدلت نونُ " مَنْ " هاءً ، كما أبدلوا من ألف " ما " الأولى هاءً ، وذلك لمؤاخاة مَنْ ما في أشياء ، وإن افترقَا في شيء واحد ، ذكره مكيٌّ . ومَحَلُّهَا نصبٌ أو رفعٌ ، فالرَّفعُ على الابتداء وما بعده الخبر ، وفيه الخلافُ المشهورُ هل الخبرُ فعلُ الشَّرْط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً ؟ والنَّصْبُ من وجهين : أظهرهما : على الاشتغال ويُقَدَّرُ الفعلُ متأخراً عن اسم الشَّرْطِ ، والتقديرُ : مَهْمَا تُحْضِر تَأتِنَا ، فـ " تَأتِنَا " مُفَسِّر لـ تُحْضر ، لأنَّهُ من معناه . والثاني : النصبُ على الظرفية عند مَنْ يَرَى ذلك ، وقد تقدَّم الرَّدُّ على هذا القول ، والضَّميرانِ من قوله بِهِ و " بِهَا " عائدان على " مَهْمَا " ، عاد الأوَّلُ على اللَّفظ ، والثاني المعنى ، فإنَّ معناها الآية المذكورة ، ومثله قول زُهَيْرٍ : [ الطويل ] @ 2559 - وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِىءٍ مِنْ خَلِيقةٍ وإنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ @@ ومثله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] فأعَادَ الضَّمير على " ما " مؤنثاً ، لأنَّهَا بمعنى الآية . وقوله : " فَمَا نَحْنُ " يجوز أن تكون " ما " حجازيةً أو تميميةً والباءُ زائدةٌ على كلا القولين ، والجملةُ جوابُ الشَّرْطِ فمحلّها جزم . فصل قال ابْنُ عباس ، وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق : لما قال قوم موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } [ الأعراف : 132 ] فهو سِحْرٌ ، ونحن لا نُؤمن بها وكان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - رجلاً جديداً ، فعند ذلك دَعَا عليهم فقال : يا ربِّ إنَّ عبدك فرعون علا في الأرض وبَغَى وَعَتَا ، وإنَّ قومه نَقَضُوا عهدك ؛ فَخُذْهُمْ بعقوبةٍ تجعلها لهم نقمةً ولقومي عظة ، ولمن بعدهم آية وعبرة ، فأرسل اللَّهُ عليهم الطُّوفان وهو الماء ، وبيوت بني إسرائيل ، وبيوت القبط مشتبكة ، فامتلأت بيوت القبط حَتَّى قَامُوا في المَاءِ إلى تراقيهم ، ومن جَلَسَ منهم غرق ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة ، ودام ذلك عليهم من السَّبت إلى السبت . فقالوا لموسى : ادْعَ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِف عنَّا المطر ؛ فنُؤمِنُ بك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا رَبَّهُ فرفع عنهم الطوفان ، وأرسل الرِّيَاحَ فَجَفَّفَت الأرْضُ ، وخرج من النَّبَاتِ مَا لَم يَرَوْا مثله قط ، وأخصبت بلادهم . فقالوا : ما كان هَذَا الماء إلاَّ نعمة عَلَيْنَا لكنَّا لم نشعر ؛ فمكثوا شهراً في عافيةٍ فنكثُوا العهد . وقالوا : لا نُؤمِنُ بك ، ولا نرسل معك بني إسرائيل ؛ فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الجَرادَ ، فأكل عامَّة زرعهم ، وثمارهم ، وأوراق الشَّجَرِ ؛ حتَّى أكلت الخَشَبَ وسقوفَ البيُوتِ ومسامير الأبْوابِ من الحديد حتَّى وقع دورهم ، وابتلي الجراد بالجُوعِ فكان لا يشبع ، ولم يصب بني إسرائيل شَيءٌ من ذلك فَضجُّوا إلى موسى . وقالوا : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لئن كَشَفْتَ عَنَّا لرجز لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بَنِي إسرائيل ، وأعطوه عَهْدَ اللَّهِ وميثاقة . فَدَعَا موسى رَبَّه فَكَشَفَ عنهم الْجرادَ بعد سبعة أيام ، وفي الخَبَرِ " مَكْتوبٌ على صدر كلّ جرادة جند اللَّهِ الأعظم " فأرسل اللَّهُ ريحاً فحمل الجراد ؛ فألقاه في البحر . وقيل : إنَّ مُوسَى برز إلى الفضاءِ ، وأشارَ بعصاه إلى المشرق والمغرب ؛ فرجعت الجراد من حيثُ جاءت . وكانت قد بقيت من زروعهم ، وغلاتهم بقيّة . فقالُوا : قد بَقِيَ لَنَا ما يكفينَا ، فَنَقَضُوا العَهْدَ ولم يُؤمنوا ، فأقَامُوا شَهْراً في عافية . فأرسل اللَّه القملَ سبتاً إلى سبت ، فلم يبق بأرضهم عود أخضر إلاَّ أكلته . فَصَاحوا بمُوسَى فسأل ربَّهُ ، فأرسل اللَّه عليها ريحاً حارّة فأحرقتها ، وألقتها في البحر فلم يُؤمِنُوا . فأرسل اللَّهُ عليهم الضَّفادع سبعة أيَّام ؛ فخرج من البَحْرِ مثل اللَّيْلِ الدَّامس ووقع في النَّبَاتِ والأطْعِمَةِ ، فكان الرَّجُلُ يجلسُ في الضَّفادع إلى رقبته ، ويهم أن يتكلَّم ، فيثب الضِّفْدَعُ في فِيهِ . فَصَرَخوا إلى موسى وَحَلَفُوا لَهُ لئن رفعت عنَّا هذا العذاب لنُؤمننَّ بكَ ، فَدَعَا اللَّهَ تعالى فأمات الضَّفادع ، فأرسل عليها المطر ؛ فأحملتها ، ثمَّ أقَامُوا شَهْراً ثم نَقَضُوا العهد وعادُوا لكفرهم . فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الدَّمَ فجرت أنهارهم دماً ، فما يستقون من الآبار والأنهار إلاَّ وَجَدوهُ دماً عَبِيطاً أحمر ، فَشَكَوْا إلى فرعون . فقال : إنَّه سحركم وكان فرعون يجمع القبطيَّ والإسرائيلي على الإناءِ الواحد ؛ فيكون ما يَلِي الإسرائيليّ ماءً ، وما يَلِي القبطي دماً ، ويقومان إلى البُحَيْرة فيها الماء ، فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دماً ، حتى كانت المرأةُ من آل فرعون تأتي المَرْأةَ من بني إسرائيل حينَ جَهَدَهُمُ العَطَشُ فتقولُ : اسقِني من مائك فتصب لها من قربتها ؛ فيعود دماً في الإناء ، حَتَّى كانت تَقُولُ اجعليه في فِيكِ ثم مُجِّيهِ فِي فِيَّ فتأخذ في فِيهَا ماءً ، فإذا مَجّته في فِيهَا ؛ صَارَ دَماً ، وإنَّ فرعون اضطره العطشُ حتَّى مضغ الأشجار الرَّطْبَةَ فَصَارَ ماؤُهَا في فِيهِ مِلْحاً أجَاجاً ، فمكثُوا في ذلك سبعة أيام ، فقالوا : يا مُوسى { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ } [ 134 ] . إلى آخر الآية . الطُّوفان فيه قولان : أحدهما : أنَّهُ جمع : طُوفَانة ، أي : هو اسمُ جنس كـ : قمح وقمحة ، وشعير وشعيرة . وقيل : هو مصدرٌ كالنُّقْصَان والرُّجْحَان ، وهذا قول المُبَرِّدِ في آخرين والأوّلُ قول الأخْفَشِ . وقال : هو " فُعْلان " من الطَّواف ، لأنَّه يطوفُ حتَّى يَعُمَّ الأرضَ ، وواحدته في القياس " طُوفَانَة " ؛ وأنشد : [ الرمل ] @ 2560 - غَيَّرَ الجِدَّةَ مِنْ آيَاتِهَا خُرُقُ الرِّيحِ وطُوفَانُ المَطَرْ @@ والطُّوفان : المَاءُ الكثير ، قاله اللَّيْثُ ؛ وأنشد للعجّاج : [ الرجز ] @ 2561 - وعَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأثْأبَا @@ شَبَّهَ ظلامَ اللَّيلِ بالماءِ الذي يَغْشَى الأمكِنة . وقال أبُو النَّجْمِ : [ الرجز ] @ 2562 - وَمَدَّ طُوفانٌ مُبيدٌ مَدَدَا شَهْراً شَآبيبَ وشَهْراً بَرَدَا @@ وقيل : الطُّوفان من كُلِّ شيءٍ : ما كان كثيراً مُحيطاً مُطْبقاً بالجماعةِ من كُلِّ جهة كالمَاءِ الكثيرِ ، والقَتْلِ الذَّريع ، والمَوْتِ الجارفِ ، قاله الزَّجَّاجُ . وقد فَسَّرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالموتِ تارةً ، وبأمرٍ من اللَّهِ أخرى ، وتلا قوله : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] وهذ المادَّةُ وإن كانت قد تَقدَّمَتْ في " طَائِفَة " إلاَّ أنَّ لهذه البنية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة . والجَرَادُ معروف ، وهو جَمْعُ : جَرَادةٍ ، الذَّكَرُ والأنْثَى فيه سواء . يقال : جَرَادَةٌ ذَكَرٌ وجَرَادة أنْثى ، كـ : نَمْلَة ، وحمامة . قال أهلُ اللُّغَةِ : وهو مشتقٌّ من " الجَرْدِ " . قالوا : والاشتقاقُ في أسماءِ الأجْنَاس قليلٌ جِداً . يقال : أرْضٌ جَرْدَاء ، أي : مَلْسَاء وثَوْبٌ جَرْدٌ ، إذا ذَهَبَ زئبره . فصل قال القرطبيُّ : اختلف الفُقهَاءُ في جواز قتل الجَرَادِ . فقيل : يُقتل ، لأنَّ في تركها فساد الأموال ، وقد رخَّصَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أخذَ ماله ، فالجرادُ إذا أراد فسادَ الأموال كانت أوْلَى بجوازِ قتلها ، كما أنَّهم اتفقوا على جواز قتل الحيّة ، والعقرب ؛ لأنَّهُمَا يُؤذِيَان النَّاس فكذلك الجَرَادُ . وروى ابْنُ ماجَةَ عن أنس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذَا دَعَا على الجراد قال : " اللَّهُمَّ أهْلِك كِبارَهُ واقْتُل صغَارَهُ ، وأفْسِد بيضَه ، واقطع دابرهُ ، وخُذْ بأفْواهِه عن مَعَايِشِنَا وأرْزَاقنَا إنَّكَ سَميعُ الدّعاءِ " . فقال رجل : يَا رسُول اللَّهِ ، كيف تَدْعُو إلى جُنْد من أجْنَادِ اللَّهِ بقطع دَابره ؟ قال : " إنَّ الجراد نثرة حوت في البَحْرِ " . وهذا قول جمهور الفقهاءِ . وقيل : لا يُقْتَلُ ، لأنَّه خلق عظيم من خَلْقِ اللَّهِ يأكل من رزق اللَّهِ . وقد رُوِي " لا تَقْتُلُوا الجَرَادَ فإنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الأعْظَمُ " . والقُمَّلُ : قيل : هي القِرْدَان ، وقيل : دوابُّ تشبهها أصْغَرَ مِنْهَا . وقال سعيدُ بن جبير : هو السُّوسُ الذي يخرج من الحِنْطة . وقال ابْنُ السِّكِّيت ، إنَّه شيء يقع في الزَّرع ليس بجرادٍ ؛ فيأكل السُّنبلة ، وهي غضة قبل أن تقوى ، وحينئذٍ يطولُ الزَّرْعُ ولا سنبل له . وقيل : إنَّهَا الحمنان الواحدة : حَمْنَانَة ، نوع من القِرْدَان . وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قُرَى مصر تدعى " بعين شمس " فذهب موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاهُ فانْهَالَ عليهم القُمَّل ، وعلى هذا هو القَمْل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه ، ويؤيد هذا قراءة الحسن " والقَمْل " بفتح القاف وسكون الميم ، فيكونُ فيه لغتان : " القُمَّل " كقراءة العامةِ و " القَمْل " كقراءة الحسن البصري . وقيل : القملُ البراغيث ، وقيل : الجعلان . والضفَادعُ : جمع ضِفْدَع ، بزنة دِرْهَم ، ويجوز كسر دَالِهِ فتصير بزنة " زِبْرِج " وقدْ تُبْدَلُ عَيْنُ جمعه ياء ، كقوله : [ الرجز ] @ 2563 - وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ ولِضَفَادِي جَمِّهِ نَقَانِقُ @@ وشَذَّ جمعُهُ على : ضِفْدَعَات ، والضِّفْدَعُ : مؤنَّث ، وليس بمذكر ، فعلى هذا يُفَرَّقُ بين مذكّره ومؤنثه بالوصفِ . فيقال : ضِفْدَع ذكر وضفدع أنثى ، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاء التأنيث ، نحو حمامة ، وجرادة ، ونملة . فصل روى أبُو داوود وابنُ ماجةَ عن أبي هريرة قال : نَهَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عن قتل : الصُّرَدِ والضِّفْدَعِ ، والنَّمْلَةِ ، والهُدْهُدِ . ولمَّا خرج إبراهيمُ - عليه السلام - من الشَّام إلى الحَرَم في بناء البيتِ كانت السِّكينَة معه والصُّرَدُ ، فكان الصُّرَدُ دليلة إلى الموضعِ ، والسكينةَ مقداره ، فلمَّا صار إلى البقعَةِ ؛ وقعت السَّكينة على موضع البيتِ ونادت : ابْنِ يَا إبراهيمُ على مقدار ظِلِّي . فنهى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن قتل الصُّرَدِ ؛ لأنه كان دليل إبراهيم ، وعن قتل الضّفدع ؛ لأنها كانت تصب الماء على نَارِ إبراهيم ، ولما تسلَّطت على فرعون جاءت ، وأخذت الأمكنة كلها ، فلما صارت إلى التَّنُّور وثَبَتْ فيها وهي نار تسعر طاعة لله ، ولكن نار يسعرها الله بها ؛ فَجَعَلَ " نقيقها " تسبيحاً . والدَّم ذكرناه وهو معروف . قال زيد بنُ أسلم : الدَّم الذي سلطة اللَّهُ عليهم كان الرُّعَاف ، ونقله الزمخشريُّ . قوله : " آيَاتٍ مفصّلات " . آياتٍ منصوبة على الحال من تلك الأشياءِ المتقدّمة أي أرْسَلْنَا عليهم هذه الأشياءَ حال كونها علاماتٍ مميزاً بعضها من بعض ، ومُفَصَّلاتٍ فيها وجهان : أحدهما : مُفَصَّلات أي : مُبينات لا يشكلُ على عاقل أنَّهَا من آيات اللَّهِ التي لا يقدر عليها غيره . وقيل : مُفَصّلات أي : فَصَّلَ بعضها من بعض بزمانٍ يمتحن فيه أحوالهم هل يقبلون الحُجَّة ، أو يستمرون على المُخالفةِ ؟ فاسْتَكْبَرُوا عن عبادة اللَّهِ { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } . فصل فإن قيلَ : لمَّا علم اللَّهُ تعالى من حالهم أنَّهُم لا يؤمنون بتلك المُعجزاتِ ، فما الفائدة في تواليها ؟ وقوم مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم طلبُوا المعجزات فما أجِيبُوا فما الفرق ؟ فالجوابُ : قال بعضُ أهل السُّنَّةِ : يفعلُ اللَّهُ ما يشاءُ ، ويحكم ما يريد . وقال آخرون : إنَّمَا فعلَ ذلك زَجْراً لنا ، وموعظةً وإعلاماً بأنَّ المُصرَّ على الكُفْرِ يستوجبُ العذابَ المؤبّد . وأجاب المُعتزلَةُ : برعاية الصالح ، فلعلَّهُ علم من قوم مُوسَى أنَّ بعضهم كان يؤمن عند ظهور المعجزة الزَّائدة كمؤمن آل فرعونَ وكالسَّحرةِ ، وعَلِمَ من قوم محمَّد صلى الله عليه وسلم أنَّ أحداً منهم لا يَزْداد بِظُهُورِ المُعْجِزَةِ الزَّائِدِة إلاَّ كُفْراً . فظهر الفرقُ . قوله : { وَلَمَّا وَقَعَ عليْهِمُ الرِّجْزُ } ، أي نزل بهم العذاب من الطُّوفَانِ ، وغيره . وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ : الطاعون . وقيل : مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد . وتقدم الكلام على الرِّجْز في البقرة عند قوله : { فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ البقرة : 59 ] . قوله { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } . يجوزُ في هذه الباءِ وجهان : أظهرهما : أن تتعلَّق بـ ادْعُ أي : ادْعُهُ بالدُّعاء الذي علَّمك أن تدعوه به . والثاني : أنَّهَا باء القسم . قال الزمخشريُّ : والباء إمَّا تتعلَّق بـ " ادْع " على وجهين : أحدهما : أسْعِفْنَا إلى ما نطلب إليك من الدُّعاء بحق ما عندك من عهد الله ، وكرامته إيَّاك بالنُّبُوَّةِ أو ادع اللَّه لنا مُتَوَسِّلاً إليه بعهده عندك ، وإمَّا أن يكون قَسَماً مُجَاباً بـ " لنُؤمِنَنَّ " أي : " أقْسَمْنَا بِعَهْدِ اللَّهِ عندك " . فصل اعلمْ أنَّهُ تعالى بيَّن ما كانُوا عليه من المُناقضة القبيحة ، لأنَّهم تارة يكذبون موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ، وأخرى عند الشَّدائد يفزعون إليه فزع الأمة إلى نبيّها ويسألونه أن يسأل رَبَّه رفع العذاب عنهم ، وذلك يقتضي أنهم سَلَّمُوا كونه نبيًّا مجاب الدَّعْوَةِ ، ثُمَّ بعد زوال تلك الشَّدائد يعودون إلى تكذيبه . وقوله : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ } . أي : العذاب . إلى أجلٍ فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلَّقَ بـ " كَشَفْنَا " وهو المشهور ، وعليه إشكال وهو أنَّ ما دخَلَتْ عليه " لَمَّا " يترتَّبُ جوابُهُ على ابتداء وقوعه ، والغايةُ تنافي التعليق على ابتداء الوقوع ، فلا بُدَّ من تعقُّل الابتداء والاستمرار حتَّى تتَحقَّقَ الغاية ، ولذلك لا تقعُ الغاية في الفعل غير المتطاول . لا يُقالُ : لمَّا قتلتُ زيداً إلى يوم الخميس جَرَى كَذَا ، ولا لمَّا وثبت إلى يوم الجمعة اتَّفق كذا ، وقد يُجَابُ بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا : وقتُ إيمانهم ، وإرسالهم بني إسرائيل معه ، ويكون المرادُ بالكشفِ : استمرارَ رفع الرِّجْزِ . كأنه قيل : فَلَمَّا تمادَى كَشَفْنَا عنهم إلى أجلٍ ، وأمَّا مَنْ فَسَّرَ " الأجَلَ " بالمَوْتِ أو بالغَرَقِ فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُهُ : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ إلى أجل قُرْب أجل هم بالغوه ، وإنَّما احتاج إلى ذلك ، لأنَّ بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكثٌ ، فكيف يُتَصَوَّرُ أن يكون النَّكْثُ منهم بعد موتهم ، أو غرقهم ؟ والثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من " الرِّجز " أي : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ كَائِناً إلى أجل ، والمعنى : أنَّ العذابَ كان مُؤجَّلاً . قال أبُو حيَّان : وَيُقَوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب " لمَّا " جاء بـ " إذا " الفجائية أي : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم العذابَ المقرَّر عليهم إلى أجلٍ فاجؤوا بالنَّكْثِ ، وعلى معنى تَغْيِيَتِهِ الكشفَ بالأجَل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلاَّ على تأويل الكشفِ بالاستمرار المُغيَّا فيمكن المفاجأة بالنَّكْث إذْ ذاك ممكن . قوله : " هم بَالِغُوهُ " في محلِّ جرٍ صفة لـ " أجَلٍ " والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ من وصفِهِ بالمفرد ، لتكررِ الضَّمير المؤذن بالتَّفخيم . وقوله : { إِذَا هُمْ يَنكُثُون } هذه " إذَا " الفُجَائيَّةِ ، وتقدَّم الكلامُ عليها قريباً : و " هُمْ " مبتدأ ، و " ينكُثُونَ " خبره ، و " إذَا " جوابُ " لمَّا " كما تقدَّم بالتَّأويلِ المذكور . قال الزمخشريُّ : { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } جواب " لَمَّا " يعني : فلمَّا كشفنا عنهم العذاب فاجؤوا بالنّكث وبَادَرُوهُ ولَمْ يؤخِّروه ، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نَكَثُوا . قال أبُو حيان : " ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير " . انتهى . يعني فلا بُدَّ من تأويل الكشْفِ بالاستمرار ، كما تقدَّم ، حتَّى يَصِحَّ ذلك . وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يَدَّعي في " لَمَّا " أنَّهَا ظَرْفٌ ، إذْ لا بُدَّ لَهَا حينئذٍ من عامل ، وما بعد " إذَا " لا يعمل فيما قبلها ، كما تحرَّر في موضعه . وقرأ أبُو حَيْوَةَ وأبو هاشم " يَنْكِثُون " بكسر الكاف ، والجمهور على الضَّمِّ ، وهما لغتان في المضارع . والنَّكْثُ : النَّقْضُ ، وأصله : مِنْ نَكْثِ الصُّوف المغزول لِيُغْزل ثانياً ، وذلك المنكوث : نِكثٌ كـ : ذِبْح ، وَرِعْي . والجمعُ : أنكاث ، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه كما في خيوط الأكسية إذا نُكِثَتْ بعدما أبْرِمَتْ ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات . قوله : " فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ " هذه الفاءُ سببيَّة ، أيْ : تَسَبَّب عن النَّكْثِ الانتقامُ ثم إن أريد بالانتقام نَفْسُ الإغراق ، فالفاءُ الثَّانية مُفَسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك وإلاَّ كان التقدير : فَأرَدْنَا الانتقام ، والانتقام في اللُّغَةِ : سلب النعمة بالعذابِ . و " في اليمِّ " متعلق بـ " أغْرَقْنَاهُم " ، واليَمّ : البحر ، والمشهور أنَّهُ عربيّ . قال ذو الرُّمَّة : [ البسيط ] @ 2564 - دَاوِيَّة ودُجَى لَيْلٍ كأنَّهُمَا يَمٌّ تراطَنَ في حَافَاتِهَا الرُّومُ @@ وقال ابْنُ قتيبةَ : إنَّه البَحْرُ بالسُّريانِيَّةِ . وقيل : بالعبرانيَّة . والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص قال الزمخشري : اليَمّ : البحرُ الذي لا يُدْرَكُ قعره . وقيل : هو لُجَّة البحر ومعظم مائه . وقال الهروِيُّ - في " غريبيه " - : واليَمُّ : البَحْرُ الذي يقالُ له : إسَافٌ وفيه غَرِقَ فرعونُ . وهذا ليس بجيد ، لقوله تعالى : { فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ } [ القصص : 7 ] والمرادُ : نيلُ مِصْرَ ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون . فصل قيل : واشتقاقه من التيمم ، وهو القصد ، لأنَّ النَّاسَ يقصدونه . قوله : " بِأنَّهُمْ " الباء للسببيّة ، أي : أغْرَقْنَاهم بسببِ تكذيبهم بآياتِنَا ، وكونهم عَنْهَا غافلين ، أي : غَافِلينَ عن آياتنا ، فالضَّمِيرُ في عَنْهَا يعودُ على الآيات ، وهذا هو الظَّاهِرُ . وبه قال الزَّجَّاجُ وغيره . وقيل : يجوزُ أن يعود على النِّقْمَةِ المدلولِ عليها بـ " انتَقَمْنَا " ويُعْزَى هذا لابن عباس ، وكأن القائل بذلك تَخَيَّلَ أنَّ الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لَهُم من حيثُ إنَّ الغفلة ليست من كسب الإنسان . وقال الجمهور : إنَّهم تَعَاطَوْا أسبابَ الغَفْلَة ، فَذُمّوا عليها ، كما يُذَمُّ الناس على نِسْيَانه لتعاطيه أسبابه . فصل قوله : " وَأوْرَثْنَا " يتعدى لاثنين ، لأنَّه قبل النَّقلِ بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو : وَرِثْتُ أبي ، فبالنَّقْلِ اكتسب آخَرَ . فأولهما : القومَ والَّذينَ وصلتُه في محل نصب نعتاً له . وأما المفعولُ الثَّانِي ففيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرها : أنَّهُ " مشارِقَ الأرضِ ومغَاربَهَا " . وفي قوله : { ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } على هذا وجهان : أحدهما : أنَّه نعتٌ لـ : مشارق ومغارب . والثاني : أنَّهُ نعتٌ للأرض ، وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوف بَيْنَ الصفةِ والموصوفِ . وهو نظيرُ قولك : قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ . وقال أبُو البقاءِ هنا : وفيه ضعفٌ ؛ لأنَّ فيه العطفَ على الموصوفِ قبل الصِّفَةِ . وهذا سبْقُ لسان أو قلم ، لأنَّ العطفَ ليس على الموصُوفِ ، بل على ما أضيف إلى الموصوف . والثاني من الأوجه الثلاثة : أن المفعول الثاني هو : { ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } أي : أورثناهم الأرض التي باركنا فيها . وفي قوله تعالى : { مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } وجهان : أحدهما : هو منصوبٌ على الظّرْف بـ " يُسْتَضْعَفُونَ " . والثاني : أنَّ تقديره : يُسْتَضْعَفُون في مشارق الأرض ومغاربها فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وصل الفعلُ بنفسه ؛ فنصب ، هكذا قال أبو البقاءِ . قال شهابُ الدِّين : ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن ، فإنَّ القول بالظَّرفية هو عينُ القولِ بكونه على تقدير في ، لأنَّ كلَّ ظرف مقدَّرٌ بـ " في " فكيف يجعل شيئاً واحد شيئين ؟ الوجه الثالث : أنَّ المفعول الثَّاني محذوفٌ ، تقديره : أورثناهم الأرضَ ، أو الملكَ ، أو نحوه ويُسْتَضْعَفُونَ يجوز أن يكون على بابه من الطَّلبِ ، أي : يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً وأن يكون استفعل بمعنى : وَجَدَهُ ذَا كَذَا ، والمُرَادُ بالأرْضِ : أرَضُ الشَّام . وقيل : أرض مصر ، لأنها أرض القبط . وقيل : مصر والشَّام ، ومشارقها ، ومغاربها جهات المشرق ، والمغرب { ٱلَّتِي بَاركْنَا فِيهَا } بإخراج الزَّرع ، والثِّمار ، والأنهار . وقيل : المرادُ جملة الأرض ؛ لأنَّه خرج من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرْضَ . قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ } . قرأ الحسنُ ورُويت عن أبي عمرو وعاصم كَلِمَات بالجمع . قال الزمخشريُّ : ونظيره : { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } [ النجم : 18 ] . يعني في كون الجمع وُصِفَ بمُفْردٍ . قال أبُو حيَّان : ولا يتعيَّن في الكُبْرَى ما ذكر لجواز أن يكون التقدير : لَقَدْ رَأى الآية الكُبْرَى ، فهو وصفُ مُفْردٍ لا جمعٍ ، وهو أبلغُ . قال شهابُ الدِّين : في بعض الأماكن يتعيَّنُ ما ذكره الزمخشريُّ نحو { مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [ طه : 18 ] وهذه الآية ، فلذلك اختار فيها ما يتعيَّن في غيرها والمرادُ بالكلمةِ الحسنى : قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [ القصص : 5 ] إلى قوله : { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } [ القصص : 6 ] والحُسْنَى : تأنيثُ الأحسنِ صفة للكلمة . وقيل : معنى تمام الكلمةِ : إنجاز الوعْدِ الذي تقدَّم بإهلاك عدوهم . ومعنى : " تَمَّتْ " أي : مَضَتْ واستمرَّتْ من قولهم : تَمَّ عليه الأمر إذَا مَضَى عليه . قوله بِمَا صَبَرُوا متعلِّق بـ " تَمَّتْ " والبَاءُ للسببيَّةِ و " مَا " مصدريةٌ ، أي : بسبب صبرهم ومتعلَّقُ الصَّبرِ محذوفٌ أي : على أذَى فرعون وقومه . قوله : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } . يجوزُ ههنا أوجه : أحدها : أن يكون فِرْعَونُ اسم كان ، ويَصْنَعُ خبرٌ مقدم ، والجملةُ الكونيَّة صلةُ " ما " والعائد محذوف ، والتقديرُ ودَمَّرنا الذي كان فرعون يَصْنَعُهُ ، واستضعف أبُو البقاءِ هذا الوجه . فقال : لأنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أن يعمل في فِرْعَوْن فلا يُقَدَّر تأخيره ، كما لا يُقدَّر تأخيرُ الفعل في قولك : قام زيدٌ . يعني : أنَّ قولك : " قَامَ زَيْدٌ " يجب أن يكونَ من باب الفِعْلِ والفاعل ، ولا يجوز أن يُدَّعى فيه أنَّ " قام " فعلٌ وفاعلٌ ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌ ، وزيد : مبتدأ مؤخَّرٌ لأجل اللَّبس بباب الفاعل ، فكذا هنا ؛ لأنَّ يَصْنَعُ يَصحُّ أن يتسلَّطَ على فِرْعَوْنَ فيرفعهُ فاعلاً فلا يُدَّعَى فيه التقديم ، وقد سبقه إلى هذا مكيٌّ . وقال : ويلزم من يجيز هذا أن يُجيزَ : يقومُ زيدٌ ، على الابتداء والخبر ، والتَّقديم والتَّأخير ، ولمْ يُجزْهُ أحَدٌ . وقد تقدَّمت هذه المسألةُ وما فيها ، وأنَّهُ هل يجوز أن يكون من باب التَّنازع أم لا ؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان مُتَخَيَّلاً في بادىء الرأي ، فإنه كـ : باب الابتداء ، والخبر ، ولكن الجَواب عن ذلك : أنَّ المانع في " قَامَ زيدٌ " هو اللَّبس ، وهو مفقودٌ هَهُنَا . الثاني : أنَّ اسمَ " كان " ضميرٌ عائدٌ على " مَا " الموصولة ، ويَصْنَعُ مسندٌ لـ " فِرْعَوْن " والجُملةُ خبر " كان " والعائدُ محذوف أيضاً ، والتَّقديرُ : ودمَّرْنَا الذي كان هو يصنعه فرعون . الثالث : أن تكون " كان " زائدةً و " مَا " مصدرية والتقديرُ : ودمَّرْنَا ما يصنع فرعون . أي : صُنْعَهُ ، ذكره أبُو البقاءِ . قال شهابُ الدِّين : وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً ، وإن كانت " مَا " موصولة اسمية ، على أنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُهُ : ودَمَّرْنَا الذي يصنعه فرعون . الرابع : أن " ما " مصدرية أيضاً و " كان " لَيْسَتْ زائدةً بل ناقصة ، واسمُهَا ضميرُ الأمر والشَّأن ، والجملةُ من قوله يَصْنعُ فرعَونُ خبرُ " كان " فهي مفسِّرة للضميرِ . وقال أبُو البقاءِ هنا : وقيل : ليست " كان " زائدةً ، ولكن " كان " النَّاقِصَة لا يُفْصَل بها بين " ما " وبين صلتها ، وقد تقدَّمَ ذلك في قوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] وعلى هذا القول تحتاج " كان " إلى اسم . ويضعُف أن يكون اسمُهَا ضمير الشَّأنِ ؛ لأنَّ الجُملة التي بعدها صلةُ " ما " فلا تَصْلُح للتَّفسير ، فلا يحصُل بها الإيضاحُ ، وتمامُ الاسم ، والمفسِّر يجبُ أن يكون مستقلاً ، فتدعو الحَاجَةُ إلى أن يجعل " فرعون " اسم " كان " وفي : " يَصْنَعُ " ضمير يعود عليه . قال شهابُ الدِّين بعد فرض كونها ناقصةً : يلزم أن تكون الجملة من قوله : يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ خبراً لـ " كان " ويمتنع أن تكون صلةً لـ " ما " . وقوله : فتدعُو الحاجةُ أي : ذلك الوجُه الذي بدأت به ، واستضعفه ، وهو الذي احتاج إليه في هذا المكان فراراً من جعل الاسم ضمير الشَّأن ، لمَّا تخيَّلهُ مانعاً ، والتَّدميرُ : الإهلاكُ . قال الليث : الدَّمَارُ : الهَلاك التَّام ، يقال : دَمَرَ القومُ يَدمُرُونَ دماراً : أي : هلكوا وهو مُتَعَدٍّ بنفسه ، فأمَّا قوله : { دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } [ محمد : 10 ] فمفعولُه محذوفٌ ، أي : خَرَّب عليهم منازلهم وبُيُوتَهم . وقوله : { مَا كانَ يصنعُ فِرعونُ وقوْمُهُ } أي : في أرض مصر من العمارات . قوله : " يَعْرِشُونَ " قرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النَّحل { يَعرُشُونَ } بضم الرَّاءِ . والباقون بالكسر فيهما ، وهما لغتانِ : عَرَشَ الكرمَ يَعْرِشُهُ ويَعْرُشُهُ . والكَسْرُ لغة الحِجَازِ . قال اليَزِيديُّ : وهي أفصحُ . وقال مُجاهدٌ : ما كانُوا يبنون من القصور والبيوت . وقُرىء شاذًّا بالغين المعجمةِ والسِّين المهملة ، من غَرْس الأشجَار . وقال الزمخشري وبلغني أنه قرأ بعض الناس يعرشون من عرش وما أظُنّه إلاَّ تصحيفاً . وقرأ ابن أبي عبْلَةَ يُعَرِّشُونَ بضمِّ الياء وفتحِ العين ، وكسرِ الرَّاءِ مشدَّدَةً على المُبالغة والتَّكثير . وهذا آخر قصةِ فرعونَ .