Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 14-16)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : أخرنِي ، وأمْهِلْنِي فلا تميتني إلى يوم يُبْعَثُونَ من قُبُورهم ، وهي النَّفْخَةُ الأخِيرَةُ عند قِيَام السَّاعَةِ . والضَّميرُ في " يُبْعَثُونَ " يعودُ على بَنِي آدَمَ لدلالة السِّياقِ عليهم ، كما دَلَّ على ما عاد عليه الضَّميرانِ في " منها " وفيها كما تقدم . قوله : { فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ } [ الحجر : 37 ] قال بعضُ العُلَمَاءِ ، إنَّهُ تعالى أنظره إلى النَّفْخَةِ الأولى ؛ لأنَّهُ تعالى قال في آيةٍ أخرى : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } [ الحجر : 37 ، 38 ] ، المراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحْيَاءُ كلهُمْ . وقال آخرون : لم يُوقِّتِ اللَّهُ تعالى له أجلاً بل قال : { إِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ } وقوله في الآيةِ الأخْرَى { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } المرادُ منه الوقت المَعْلُومُ في عِلْمِ الله تعالى . قالوا : والدَّليلُ على صِحَّتِهِ : أنَّ إبليس كان مُكَلَّفاً ، والمُكَلَّفُ لا يجوزُ أن يعلم أنَّ اللَّهَ تعالى أخَّرَ أجَلَهُ إلى الوقت الفُلانِيِّ ، لأنَّ ذلك المُكَلّفَ يعلمُ أنَّهُ متى تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ، وإذا علم أنَّ وقت موته هو الوَقْتُ الفُلانِيُّ أقدم على المعصية بقلب فارغ ، فإذا قَرُبَ وَقْتُ أجَلِهِ ؛ تاب عن تلك المعاصي ، فَثَبَتَ أن تعريف وقت المَوْتِ بعينه يَجْرِي مَجْرَى الإغْرَاءِ بالقَبِيحِ ، وذلك غير جَائزٍ على اللَّهِ تعالى . وأجاب الأوَّلُونَ بأنَّ تَعْرِيفَ اللَّه - تعالى - كَوْنَهُ من المُنْظَرينَ إلى يَوْم القِيَامَةِ لا يقْتَضِي إغْراءً ؛ لأنَّهُ تعالى كَانَ يعلمُ أنَّهُ يمُوتُ على أقْبَح أنْواعِ الكُفْرِ والفِسْقِ ، سواء عَلِمَ وَقْتَ موته ، أوْ لم يعلمْهُ ، فلم يكنْ ذلك الإعلامُ موجِباً إغراءهُ بالقبيح ، ومثاله أنَّهُ تعالى عرَّف أنبياءَهُ أنَّهُم يموتون على الطَّهَارَة والعِصْمَةِ ، ولم يكن ذلك مُوجِباً إغراءهم بالقبيح ؛ لأجل أنه تعالى عَلِمَ مِنْهُم أنَّهُ سواء عرَّفَهُم تلك الحالة ، أم لم يعرِّفْهُمْ تلك الحالة ، فإنَّهُم يَمُوتُونَ على الطَّهارة والعِصْمةِ ، فلمَّا كان حالهم لا يَتَفَاوت بسببِ هذا التَّعْرِيف ، فلا جَرَمَ لم يكن ذلك التعريف إغراء بالقبيحِ فكذلك ههنا . قوله : { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } في هذه " الباء " وجهان : أحدهما : أنَّهَا قسميَّةٌ وهو الظَّاهِرُ أي : بقدرتك عليَّ ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعُدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم الذي يسلكونه إلى الجَنَّةِ بأن أزيِّنَ لهم البَاطِل ، وما يُكْسِبُهُمُ المآثِمَ . ويدلُّ على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة " ص " : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ } [ الآية : 82 ] . والثاني : أنَّها سببيَّةٌ ، وبه بدأ الزَّمَخْشَرِيُّ قال : { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } فبسبب إغوائِكَ إيَّايَ ؛ لأقعدن لهم ، ثم قال : " والمعنى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم حتَّى يَفْسُدُوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم " . فإنْ قُلْتَ : بِمَ تعلَّقَتِ " البَاءُ " ؛ فإنَّ تعلقها بـ " لأقْعَدُنّ " يصدُّ عنه لام القسم لا تقولُ : واللَّه بزيدٍ لأمرنّ ؟ قُلْتُ : تعلَّقتْ بفعل القَسَمِ المَحْذُوف تقديره ، فبما أغْوَيْتَني أقْسِمُ باللَّهِ لأقعدنّ [ أي ] : فبسبب إغوائك أقسم . ويجُوزُ أن تكون " البَاءُ " للقسم أي : فأقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ . قال شهابُ الدِّين . وهذان الوَجْهَانِ سبقه إليهما أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبَارِيِّ ، وذكر عبارةً قريبةً من هذه العِبارَةِ . وقال أبو حيان : " وما ذكره من أنَّ اللاَّمَ تصدُّ عن تعلُّقِ البَاءِ بـ " لأقْعُدَنَّ " ليس حكماً مجتمعاً عليه ، بل في ذلك خِلافٌ " . قال شهابُ الدِّين : أما الخلافُ فنعم ، لكنَّهُ خلافٌ ضعيفٌ لا يعتد به أبُو القَاسِم ، والشَّيْخُ نَفْسُهُ قد قال عند قوله تعالى : { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } [ الأعراف : 18 ] في قراءة من كَسَرَ اللاَّم في " لِمَنْ " : إنَّ ذلك لا يجيزه الجمهورُ ، وسيأتي مبينّاً إن شاء اللَّهُ تعالى . و " مَا " تَحْتَمِلُ ثلاثةَ أوْجُهٍ : أظهرها : أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ أي : فَبِإغوائِكَ إيَّايَ . والثاني : أنَّها استفهاميَّةٌ يعني أنَّهُ اسْتَفْهَمَ عن السَّبب الذي إغواهُ به فقال : فبأيِّ شيءٍ من الأشْيَاءِ أغْوَيْتَنِي ؟ ثم استأنَفَ جُمْلَةً أقْسَمَ فيها بقوله : " لأقْعُدَنَّ " وهذا ضعيفٌ عند بعضهم ، أو ضرورةً عند آخرينَ من حيثُ أنَّ " مَا " الاستفهاميَّة إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفُهَا ، ولا تثبت إلاَّ في شذوذ كقولهم : عمَّا تَسْألُ ؟ أو ضَرُورَةً كقوله : [ الوافر ] @ 2412 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتمُنِي لَئِيمٌ كَخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ @@ والثالث : أنَّها شرطيةٌ ، وهو قول ابن الأنْبَارِيِّ ، ونَصُّهُ قال - رحمه الله - : ويجوز أن يكون " مَا " بتأويل الشَّرْطِ ، و " الباء " من صلة الإغواء ، والفاءُ المضْمَرةُ جوابُ الشَّرْطِ ، والتقديرُ : فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطَكَ ؛ فتُضْمَرُ الفاءُ [ في ] جواب الشَّرْطِ كما تُضْمِرُهَا في قولك : " إلَى مَا أوْمَأتَ أنِّي قَابِلُهُ ، وبما أمرت أني سامعٌ مطيعٌ " . وهذا الذي قاله ضعيف جدّاً ، فإنَّهُ على تقدير صحَّةِ معناهُ يمتنعُ من حيث الصناعةُ ، فإن فاء الجزاءِ لا تُحذف إلاَّ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كقوله : [ البسيط ] @ 2413 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا والشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلانِ @@ أيْ : فالله . وكان المبرد لا يُجَوِّز ذلك ضرورة أيضاً ، وينشد البيت المذكور : [ البسيط ] @ 2414 - مَنْ يَفْعَل الخَيْرَ فالرَّحْمَنُ يَشْكُرُهُ … @@ فعلى قول أبي بكر يكونُ قوله : " لأقْعدنَّ " جواب قسم محذوف ، وذلك القسَمُ المقدَّرُ ، وجوابه جوابُ الشَّرْطِ ، فيقدَّرُ دخول الفَاءِ على نفس جُمْلَةِ القَسَمِ مع جوابها تقديرُهُ : فبما أغْوَيْتَنِي فواللَّهِ لأقْعُدَنَّ . هذا يتمم مذهبه . والإغواء إيقاع الغَيِّ في القَلْبِ أي : بما أوْقَعْتَ في قلبي من الغَيِّ والعِنَاد والاستكبار وقد تقدَّمَ في البَقَرَة . قوله : " صِرَاطكَ " في نَصْبِهِ ثلاثة أوْجُهٍ : أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على إسْقَاطِ الخَافِضِ . قال الزَّجَّاجُ : ولا اختلاف بين النَّحْويين أنَّ " على " محذوفة كقولك : " ضَرَبَ زيد الظَّهْرَ والبطنَ ، أي : على الظَّهْرِ والبَطْن " . إلا أن هذا الذي قاله الزَّجَّاجُ - وإن كان ظاهِرُهُ الإجماع - ضعيف من حيث إنَّ حَرْفَ الجرِّ لا يطَّردُ حَذْفُهُ ، بل هو مخصوص بالضَّرُورَةِ أو الشُّذوذِ ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 2415 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا … @@ [ وقوله ] : [ الطويل ] @ 2416 - … لَوْلاَ الأسَى لقَضَانِي @@ [ وقوله ] : [ الطويل ] @ 2417 - فَبَتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي … @@ والثاني : أنَّهُ مَنصوبٌ على الظَّرفِ ، والتَّقديرُ : لأقْعُدَنَّ لهم في صِرَاطِكَ . وهذا أيضاً ضعيف ؛ لأنَّ " صِرَاطكَ " ظرف مكان مُخْتَصّ ، والظَّرْفُ المكانيُّ المختصُّ ، لا يصل إليه الفِعْلُ بنفسه ، بل بـ " في " تقول : صلَّيْت في المسجد ، ونمت في السُّوقِ . ولا تقول : صليتُ المَسْجِدَ إلا فيما استثني في كُتُبِ النحوِ ، وإنْ وَرَدَ غير ذلك ، كان شاذًّا ؛ كقولهم " رَجَعَ أدْرَاجَهُ " و " ذَهَبْتُ " مع " الشَّام " خاصَّة أو ضرورةً ؛ كقوله : [ الطويل ] @ َ 2418 - جَزَى اللَّهُ بالخَيْرَاتِ مَا فَعَلا بِكُمْ رَفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ @@ أي : قالا في خَيْمتَي ، وجعلُوا نظير الآيةِ في نَصْبِ المكان المختصِّ قول الآخر : [ الكامل ] @ 2419 - لَدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنَهُ فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعْلَبُ @@ وهذا البيتُ أنْشَدَهُ النُّحَاةُ على أنَّهُ ضَرُورةٌ ، وقد شذَّ ابن الطَّرَاوَةِ عن مذهب النُّحَاةِ فجعل " الصِّراط " و " الطَّريقَ " في هذين الموضعين مكانين مُبْهَمَيْن . وهذا قولٌ مردودٌ ؛ لأن المُخْتَصَّ من الأمكنة ما له أقطار تحويه ، وحدود تحصره ، والصِّراطُ والطَّريقُ من هذا القبيل . الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على المفعول به ؛ لأن الفِعْلَ قبله - وإنْ كان قاصراً - فقد ضُمِّن معنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ . والتقديرُ : لألزمن صراطك المستقيمَ بقُعُودي عليه . فصل في معنى إغواء إبليس قول إبليس " فَبِما أغْوَيْتَنِي " يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواءه إلى اللَّه - تعالى - ، وقوله في آية أخرى : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواء العباد إلى نفسه ، فالأول دلَّ على مَذْهَب أهْلِ الجَبْر ، والثَّانِي يدلُّ على مذهب [ أهل ] القدر ، وهذا يدلُّ على أنه كان متحيراً في هذه المسألةِ . وقد يقال : إنَّهُ كان معتقداً بأن الإغواءِ لا يَحْصُلُ إلاَّ بالمغوي فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُغْوِياً لغيره من الغاوين ثمَّ زعم أنَّ المُغوي لهُ هو اللَّهُ - تعالى - قطعاً للتَّسلْسُل . واختلفُوا في تَفْسيرِ هذه الكَلِمَةِ ، فقال أهْلُ السُّنَّةِ : الإغواءُ إيقاع الغيِّ في القَلْبِ ، والغيُّ هو الاعتقادُ البَاطِلُ ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ كان يعتقدُ أنَّ الحقَّ والباطل إنَّمَا يقعُ في القَلْبِ من اللَّهِ . وأمَّا المعتزلةُ فلهم ههنا مقاماتٌ . أحدها : أن يفسِّرُوا الغَيَّ بما ذكرناه ، ويعتذروا عنه بوجوه . منها : أن قالوا : هذا قول إبْليسَ ، فهب أنَّ إبليس اعتقد أنَّ خَالِقَ الغيِّ ، والجهلِ ، والكفرِ هو الله ، إلاَّ أنَّ قول إبليس ليس بحجَّةٍ . ومنها قالوا : إنَّه تعالى لمَّا أمره بالسُّجُود لآدَمَ ؛ فعند ذلك ظهر غيه وكفره ، فجاز أن يضيف ذلك إلى الله - تعالى - لهذا المعنى ، وقد يَقُولُ القائِلُ : لا تحملني على ضَرْبِكَ أي : لا تَفعلْ ما أضربك عِنْدَهُ . ومنها : أن قوله { ربِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي } أي : لعنتني ، والمعنى أنَّكَ لمَّا لَعَنْتَنِي بسبب آدَمَ ؛ فأنَا لأجْلِ هذه العَداوَةِ ؛ ألقي الوساوسَ في قُلُوبهم . المقام الثاني : أنْ يفسِّرُوا الإغْواءَ بالهلاكِ ، ومنه قوله تعالى : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا } [ مريم : 59 ] أي : هلاكاً وويلاً ، ومنهُ أيضاً قولهم : غَوَى الفَصِيلُ يَغْوِي غوًى ؛ إذَا أكثر من اللَّبَنِ حتى يفسدَ جوفه ويُشَارِفَ الهَلاكَ والعَطَبَ . وفسَّروا قوله تعالى : { إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] إن كان اللَّهُ يريدُ أنْ يهلككم بعنادكم للحق . فهذا جميع الوجوه المذكورة . قال ابْنُ الخَطِيبِ : ونحن لا نُبَالغُ في بيان أنَّ المراد من الإغواء في هذه الآية الإضْلالُ ؛ لأن حَاصِلَهُ يرجع إلى قول إبليس ، وإنَّه ليس بحجة إلاَّ أنَّا نقيمُ البرهانَ اليقينيَّ على أنَّ المُغْوِي لإبليس هو اللَّهُ - تعالى - وذلك ؛ لأنَّ الغاوي لا بدَّ لهُ من مُغْوٍ ، والمُغْوِي له إمَّا أن يكون نَفْسَهُ ، أو مخلوقاً آخَرَ ، أو اللَّهَ - تعالى - والأوَّلُ باطِلٌ ؛ لأن العاقلَ لا يختارُ الغوَايَة مع العِلْمِ بكونها غوَايَةً ، والثَّاني أيضاً باطلٌ ، وإلاّ لزم إما التَسَلْسُل وإمَّا الدَّوْرُ ، والثَّالِثُ هو المقصود . فصل في المراد من الإقعاد المراد من قوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أنَّهُ يُواظِبُ على الإفْسَادِ مواظبة لا يَفْتُرُ عنها ، ولهذا المعنى ذكر القُعُود ؛ لأن من أراد المُبَالَغَة في تكميل أمر من الأمُور قعد حتى يصير فارغَ البالِ ، فيمكنه إتمام المقصود . ومواظبته على الإفْسَادِ ، هي مُواظَبَتُهُ على الوَسْوسَةِ بحيثُ لا يَفْترُ عنها . قال المُفَسِّرُونَ : معنى { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } أي : بالصَّدِّ عنه وتزيين البَاطِل ؛ حتَّى يهلكوا كما هَلَكَ ، أو يضلوا كما ضَلَّ ، أو يخيبوا كما خَابَ . فإن قيل : هذه الآيَةُ دَلَّتْ على أنَّ إبليس كان عالماً بالدِّين الحقِّ ؛ لأنه قال { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وصراطُهُ المُستقِيمُ هو دينه الحقُّ ، ودَلَّتْ أيضاً على أن إبليس كان عالماً بأنَّ الذي هو عليه من الاعتقاد هو مَحْضُ الغوايَةِ والضَّلال لأنه لو لم يكن كذلك لما قال : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } [ الحجر : 39 ] ، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أنْ يرضى إبليسُ بذلك المَذْهَب مع علمه بكونه ضلالاً وغوايةً ، وبكونه مضاداً للدِّين الحقِّ ، ومنافياً للصِّراط المستقيم ، فإنَّ المرءَ إنَّمَا يعتقدُ الاعتقادَ الفَاسِدَ إذا غلب على ظَنِّهِ كونه حَقّاً ، فأمَّا من عَلِمَ أنَّهُ باطلٌ وضلالٌ وغوايةٌ يَسْتَحِيلُ أنْ يختاره ، ويرضى به ، ويعتقدهُ . فالجوابُ : أنَّ من النَّاسِ من قال : إنَّ كفر إبليسَ كفْرُ عَناد لا كُفْرَ جَهْلٍ ، ومنهم من قال : كُفْرُهُ كُفْرُ جَهْلٍ . وقوله : { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } ، وقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } يريدُ به في زعم الخَصْمِ ، وفي اعتقاده . فصل في بيان هل على الله رعاية المصالح احتجَّ أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّهُ لا يجب على اللَّه رعاية مصالح العبدِ في دينه ، ولا في دنياه ؛ لأنَّ إبليس استمهل الزَّمَانَ الطويل فأمْهَلَهُ اللَّهُ ، ثمَّ بيَّن أنَّهُ إنَّمَا يستمهله ؛ لأغواء الخلق ، وإضلالهم . والله - تعالى - عَالِمٌ بأنَّ أكثر الخلق يطيعونهُ ، ويقبلون وسْوَسَتَهُ كما قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 20 ] فثبت أنَّ إنْظَارَ إبليس وإمْهَالَهُ هذه المدة الطويلة ؛ يَقْتَضِي حصور المفاسِدِ العظيمة . والكفر العظيم ، فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العبادِ ؛ لامتنع أنْ يمهله ، وأن يمكنه من هذه المفاسد ، فَحَيْثُ أنْظَرَهُ وأمهله ؛ علمنا أنَّهُ لا يجب عليه شيء من رِعَايَةِ المصالحِ أصْلاً ، ومما يقوِّي ذلك أنَّهُ تعالى بَعَثَ الأنبياءَ دعاة إلى الحقِّ ، وعلِمَ من حال إبليس أنَّهُ لا يَدْعُو إلاَّ إلى الكُفْرِِ والضلالِ ، ثم إنَّهُ تعالى أماتَ الأنْبِيَاءِ الذينَ يَدْعُونَ الخلق إلى الحق ، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين يَدْعُونَ إلى الكُفْرِ والبَاطِل ، ومن كان مُرِيداً لمَصَالِحِ العباد ؛ امتنعَ منه أنْ يفعل ذلك . قالت المُعتزلةُ : اختلف شُيُوخُنَا في هذه المسألةِ فقال الجُبَّائِيُّ : إنَّهُ لا يختلفُ الحالُ بسببِ وجودِهِ وعدمِهِ ، ولا يضل بقوله أحَدٌ إلا من لو فَرَضْنَا عدم إبليس ، لكان يضل أيضاً ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ } [ الصافات : 162 ، 163 ] ، ولأنَّهُ لو ضَلَّ به أحَدٌ لكان بقاؤه مفسدة . وقال أبُو هَاشِم : يجوز أنْ يضل به قَوْمٌ ، ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشَّهْوَة ، فإنَّ هذه الزِّيادة من الشهوة لا توجب فِعْلَ القَبيح إلاَّ أنَّ الامْتناعَ منها يصير أشَقَّ ، ولأجْلِ تلك الزِّيَادة من المشقَّةِ ، تحصل الزِّيادةُ في الثَّواب ، فكذا ههنا بسبب بقاءِ إبليس يصير الامتناع من القَبَائِح أشد ، وأشق ، ولكنه لا ينتهي إلى حدِّ الإلجاء والإكْراهِ . والجوابُ : أمَّا قول أبي علي فضعيف ؛ لأنَّ الشَّيْطانَ لا بُدَّ وأن يزيِّن القبائِحَ في قلب الكافر ويحسِّنهَا له ، ويذكره ما في القَبَائِح من أنواع اللَّذَّاتِ ، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حُصُولِ هذا التذكير والتَّزْيين لا يكون مُسَاوِياً لحاله عِنْدَ عدم هذا التذكير والتزيين ، ويدلُّ على ذلك العرف ، فإنَّ الإنسان إذا حصل له جلساءُ يرغبونه في أمر من الأمُور ، ويحسنونه في عينه ويسهِّلُونَ عليه طريقَ الوُصُولِ إليه ، ويواظبون على دعوته إليه ؛ فإنَّهُ لا يكون حاله في الإقدام على ذلك ، كحاله إذا لم يوجد هذا التَّذْكير والتَّحسين والتَّزيين ، والعلم بذلك ضروري . وأمَّا قولُ أبي هاشمٍ فضروريُّ البُطْلانِ ؛ لأنه إذا صار هذا التَّذكير والتَّزيين حاملاً للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعياً في إلقائِهِ في المفسدة ، وما ذكره من خلق الزِّيادةِ في الشَّهْوَةِ فهو حُجَّةٌ أخرى لنا في أنَّ اللَّه تعالى لا يراعي المصلحة ، فكيف يمكنه أن يحتجَّ به ، والذي يقرره غاية التقرير : أنه لسبب حصول تلك الزِّيادة في الشَّهوة يقع في الكفر وعذاب الأبَدِ ، ولو احترزَ عن تلك الشَّهْوَة فغايتُهُ أن يزداد ثوابُهُ بزيَادَةِ تلك المشقَّةِ ، وحصول هذه الزَّيادَة من الثَّوابِ شيءٌ لا حَاجَةَ إليْهِ ألْبَتَّة ، أمَّا دفعُ العِقَاب المؤبَّدِ ، فإليه أعظم الحاجات ، فلو كان إلهُ العالم مُرَاعياً لمصالح العِبادِ لاسْتَحَال أن يهمل الأهم الأكمل الأعظم لأجل زيادةٍ لا حاجةَ إليها ولا ضَرُورةَ . فَثَبَتَ فساد هذه المذاهب ، وأنَّهُ لا يَجِبُ على الله شيء أصلاً . قوله : " ثم لآتينهم " جُمْلَةٌ معطوفةٌ على جوابِ القسم أيضاً وأخبر أنَّهُ بعد أنْ يَقْعُدَ على الصِّراطِ يأتي من هذه الجهات الأربع ، ونوَّع حَرْفَ الجرِّ فَجرَّ الأوَّلَيْن [ بـ " مِنْ " ] والثَّانيين بـ " عَنْ " لنكته ذكرها الزَّمَخْشَرِي . قال - رحمه الله - : " فإن قُلْتَ كَيْفَ قيلَ : مِنْ بين أيْديهمْ ، ومن خلفهم بحرف الابتداء ، وعنْ أيْمَانِهِم ، وعن شَمَائِلِهِمْ بحرف المُجاوَزَةِ ؟ قلت : المفعول فيه عُدِّي إليه الفِعْلُ نحو تعديته إلى المفعُولِ به ، فكما اختلفت حروفُ التَّعْدِيَة في ذلك اختلفت في هذا ، وكانت لغة تُؤخَذُ ولا تُقاسُ ، وإنَّمَا يُفتش عن صِحَّةِ موقعها فقط ، فلما سمعناهم يَقُولُون : جلس عن يمينه ، وعلى يمينه ، وعن شماله ، وعلى شماله قلنا : معنى " عَلَى يَمينِهِ " أنَّهُ تمكَّن من جهة اليمين تمكُّن المُسْتعلِي من المُسْتَعْلَى عليه . ومعنى " عَنْ يَمينِهِ " أنَّهُ جَلَسَ مُتَجافِياً عن صاحب اليمينِ غير مُلاصِق له مُنْحَرِفاً عنه ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى استعمل في المُتَجَافِي وغيره كما ذكرنا في " تعال " . ونحوه من المفعول به قولهم : " رَمَيْتُ على القَوْسِ ، وعن القَوْسِ ، ومن القَوْسِ " لأنَّ السَّهْمَ يَبْعُدُ عنها ، ويستعليها إذا وضع على كَبدهَا للرَّمْي ، ويَبْتَدِىءُ الرَّمْيُ منها ، فلذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى " في " ؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ ويَبْتَدِىءُ الرَّمْيُ منها ، فلذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى " في " ؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ للفعل ، ومِنْ بين يديه ومن خلفه ؛ لأنَّ الفِعْلَ يقع في بعض الجِهَتَيْنِ كما تقُولُ : جِئْتُ من اللَّيْل تريدُ بعض اللَّيل " . قال شهابُ الدِّين : " وهذا كلامُ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمُهُ في فهم كلامِ العرب " . وقال أبُو حيَّان : وهو كلامٌ لا بَأسَ به . فلم يوفِّه حقَّهُ . ثم قال : وأقُولُ : وإنَّما خصَّ بين الأيدي ، والخلف بحرف الابتداءِ الذي هو أمكن في الإتْيَانِ ؛ لأنَّهُمَا أغلب ما يجيءُ العدوُّ منهما فَيَنَال فرصتَهُ ، وقدَّم بين الأيْدِي على الخَلْفِ ؛ لأنَّهَا الجِهَةُ الَّتِي تَدُلُّ على إقدام العَدُوِّ وبسالته في مواجهة قِرْنِه غير خَائِفٍ مِنْهُ ، والخلف جهة غدر ومخاتلة ، وجهالة القِرْن بِمَنْ يغتاله ، ويتطلب غِرَّته وغَفْلَتَه ، وخصَّ الأيمان والشَّمَائِلَ بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة ؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العَدُوّ ، وإنما يجاوز إتْيَانَهُ إلى الجِهَةِ الَّتِي هي أغْلَبُ في ذلِكَ ، وقُدِّمَتِ الأيمان على الشَّمائِلِ ؛ لأنها هي الجِهَةُ القويَّةُ في مُلاقَاةِ العَدُوِّ ، وبالأيمان البَطْشُ والدَّفْعُ ، فالقرن الذي يأتي من جهتها أبْسَلُ وأشْجَعُ إذ جاء من الجهة الَّتي هي أقوى في الدَّفْعِ ، والشَّمَائِل ليست في القُوِّةِ والدَّفْعِ كالأيمان . [ والأيمانُ ] والشَّمَائِلُ جَمْعا يمينٍ وشمالٍ ، وهما الجَارِحَتَانِ وتجمعان في القلَّة على أفْعُلٍ ، قال : [ الرجز ] @ [ 2420 ] - يَأتِي لَهَا مِنْ أيْمُنٍ وأشْمُلِ @@ والشَّمَائِلُ يُعبَّرُ بها عن الأخلاق والشِّيم تقول : له شمائل حسنة ، ويُعبَّر عن الحسنات باليمين ، وعن السَّيِّئَات بالشَّمَال ؛ لأنَّهُمَا منشأ الفعلين : الحسن والسيّىء . ويقولون : اجعلني في يَمينكَ لا في شمالِكَ قال : [ الطويل ] @ 2421 - أَبُثْنَى ، أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتنِي فأفْرَحَ أمْ صَيَّرتني فِي شِمَالِكِ @@ يكنون بذلك عن عِظَمِ المنْزِلَةِ عند الشَّخْصِ وخِسَّتِها ، وقال : [ الطويل ] @ 2422 - رَأيْتُ بَنِي العَلاَّتِ لمَّا تَضَافَرُوا يَجُوْزُوْنَ سَهْمِي بَيْنَهُمْ فِي الشَّمَائِلِ @@ والشَّمائل : جمع شمال بفتح الشِّين وهي الرِّيح . قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 2423 - وَهَبَّتْ لَهُ رِيحٌ بِمُخْتَلِفِ الصُّوَى صَباً وشَمالٌ فِي مَنَازِلِ قُفَّالِ @@ والألف في " الشَّمال " زائدة ، لذا يُزاد فيها الهمزة أيضاً بعد الميم وقبلها فيقولون : شَمْأل وشَأمَل ، يدلُّ على ذلك كلِّه سقوطه في التَّصْرِيفِ قالوا : " أشملت الريح " إذا هبت شمالاً . فصل في معنى " من بين أيديهم " قال عليُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عن ابن عباس : " مِنْ بيْنَ أيدِيهِم أي : من قبل الآخرة فأشككهم فيها ، ومن خَلْفِهِم أرغبهم في دنياهم وعن أيمانهم أشبه عليهم أمر دينهم ، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي " . وروى عطيَّةُ عن ابن عباس : " مِنْ بَيْنِ أيديِهِمْ من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم . ومن خَلْفهمْ : من قبل الآخرة فأقول : لا بَعْثَ ، ولا جَنَّةَ ولا نَارَ ، وعن أيْمَانِهِمْ : من قبل حسناتهم وعن شمائلهم : من قبل سيِّئاتهم " . قال ابن الأنْبَاريِّ : " قول من قال الأيمانُ كِنَايَة عن الحسنات والشَّمائِل كناية عن السيئاتِ قول حسنٌ ؛ لأنَّ العرب تقولُ : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالكَ ، يُريدُ اجعلني من المُقدَّمينَ عِنْدك ، ولا تجعلني من المؤخرين " . وروى أبو عبيدة عن الأصمعي أنه قال : " أنتَ عِنْدَنَا باليمين أي : بمنزلة حسنةٍ ، وإذا خبثت منزلته قال أنت عندي بالشِّمالِ " . وقال الحكم والسُّدِّيُّ : { مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ } : من قبل الدنيا يزيّنها لهم ، ومن خلفهم : من قبل الآخرة يثبِّطُهُم عنها ، وعن أيمانهم من قبل الحقِّ يَصُدُّهُم عنه ، وعن شمائلهم : من قبل الباطل يزينه لهم . وقال قتادَةُ : " أتاهم من بين أيْديِهم فأخبرهم أنَّهُ لا بعث ولا جنَّةَ ، ولا نار ، ومن خلفهم في أمْرِ الدُّنْيَا فزينها لهم ودعاهم إليها ، وعن أيْمَانِهِمْ من قبل حسناتهم بطأهم عنها ، وعن شمائلهم زيَّن لهم السِّيئات والمعاصي ، ودعاهم إليها " . وقال مُجَاهِدٌ : " مِنْ بَيْنِ أيديهم ، وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خَلْفِهِم ، وعن شمائلهم من حيث لا يُبْصِرُونَ " . قال ابن جريج : معنى قوله : " حَيْثُ يبصرون أي : يخطئون ، وحيث لا يُبْصِرُون أي : لا يعلمون أنَّهم يخطئون " . وقيل : من بَيْنِ أيْدِيهِمْ في تكذيب الأنْبِياءِ والرُّسُلِ الذين يكونون حاضرين ، ومن خلفهم في تَكْذِيب من تقدَّمَ من الأنبياء والرُّسُلِ ، وعن أَيمانهم في الكُفْرِ والبِدْعَةِ ، وعن شمائلهم في أنواع المعاصي . وقال حُكَمَاء الإسْلامِ : إنَّ في البدن قُوًى أربعاً ؛ هي الموجبة لِقُوَّاتِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ ، فالقوة الأولى الخياليَّةُ التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها ، وهي موضوعة في البطن المقدَّم من الدِّماغِ ، وصور المحسوسات إنَّمَا تَرِدُ عليها من مقدمها . وإليه الإشارة بقوله : { مِنْ بَيْنِ أيْدِيِهِمْ } . وَالقُوَّةُ الثَّانِيَةُ : الوهمِيَّةُ التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ، وهي موْضُوعَةٌ في البَطْنِ المؤخر من الدِّماغِ ، وإليه الإشَارَةُ بقوله : " وَمِنْ خَلْفِهِم " . والقُوَّةُ الثَّالِثَةُ : الشَّهْوَةُ ، وهي موضوعة في الكبدِ ، وهي من يمين البدن ، وإليه الإشارة بقوله : " وعَنْ أيْمَانِهِم " . والقُوَّة الرَّابِعَةُ : الغَضَبُ ، وهي موضوعةٌ في البطن الأيسر من القلب ، وإليه الإشارة بقوله : " وَعَنْ شَمَائِلِهمْ " . فهذه القُوَى الأرْبَعُ التي تَتَولَّدُ عنها أحْوالٌ تُوجِبُ زوال السَّعاداتِ الرُّوحانيَّة ، والشَّياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوَسْوسَةِ ، فهذا هو السَّبَبُ في تعيين هذه الجهات الأربع . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ الشَّيطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدْمَ بِطَرِيْقِ الإِسْلامِ فقَالَ : اتَّبِعْ دِيْنَ آبَائِكَ فَعَصَاهُ فأسْلَمَ ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيْقِ الهِجْرةِ فقالَ لَهُ : تَدَعُ دِيَارَكَ وتَتَغَرَّبُ ! فَعَصَاهُ وهَاجَرَ ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيق الجِهَادِ فقال له : تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فيقُسمُ مَالُكَ وتُنْكَحُ امْرَأتُكَ فَعَصَاهُ فقاتَلَ " فهذا الخَبَرُ يدلُّ على أنَّ الشَّيطان لا يترك جهة من جهات الوسْوسَةِ إلاَّ ويلقيها في القَلْبِ . فإن قيل : فلم [ لم ] يذكر من الجهات الأربع " مِنْ فَوْقِهِم ومِنْ تَحْتِهِم ؟ " فالجوابُ أنَّا ذكرنا أنَّ القُوَى التي يتولَّدُ منها ما يُوجِبُ تفويتَ السَّعادات الرُّوحانية فهي موضوعةٌ في هذه الجوانب الأربعة من البدنِ . وأمّا في الظَّاهر فيروى أنَّ الشَّيْطانَ لمَّا قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا ، كيف يتخلَّصُ الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأرْبَعِ ؟ فأوحى اللَّهُ تعالى إليهم : " أنه بَقِيَ للإنسان جهتان : الفَوْقُ والتَّحْتُ ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدُّعَاءِ على سبيل الخضوع ، أو وضع جبهته على الأرْضِ على سبيل الخُشُوع غفرت له ذَنْبَ سبعينَ سَنَةً " .