Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 179-183)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } الآية . اللام في [ قوله ] لجهنَّمَ يجوزُ فيها وجهان : أحدهما : أنَّها لامُ الصيرورة والعاقبة ، وإنَّما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لام العاقبة كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فهذه علةٌ معتبرةٌ محصورة ، فكيف تكون هذه العلة أيضاً ؟ وأورد من ذلك أيضاً قول الشاعر : [ الوافر ] @ 2628 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرابِ … @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 2629 - ألاَ كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْموتِ يُولَدُ ولَسْتُ أرَى حيًّا لِحَيٍّ يُخَلَّدُ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 2630 - فَلِلْمَوتِ تَغْذُو الوَالِداتُ سخَالَهَا كَمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِن @@ الثاني : أنها للعلة ، وذلك أنَّهُم لمَّا كان مآلهم إليها ، جعل ذلك سبباً على طريق المجاز . وقد ردَّ ابنُ عطيَّة على من جعلها لامَ العاقبة ، فقال : وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنَّما تُتَصَوَّرُ إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصَدْ مصيرُ الأمر إليه ، وأمَّا هنا فالفعلُ قُصِد به ما يصير الأمر إليه من سُكْناهم لجهنم واللاَّم على هذا متعلقة بـ ذَرَأنَا ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من كَثِيراً ؛ لأنه في الأصل صفة لها ، لو تأخَّرَ ، ولا حاجة إلى ادِّعاءِ قلب ، وأنَّ الأصل : { ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ لِكثِيرٍ } ؛ لأنَّهُ ضرورةٌ أو قليلٌ ، و " مِنَ الجِنِّ " صفة لـ " كَثِيراً " . فصل ومعنى { ذَرَأْنَا } خلقنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار ، وهم الذينَ حقت عليهم الْكلمة الأزليَّة بالشّقاوة ، ومن خلقه الله لجهنَّمَ ، فلا حيلة له في الخَلاصِ منها . قالت عائشةُ : " أدرك النّبيُّ صلى الله عليه وسلم جنازة صبيٍّ من صبيان الأنْصَار ، فقالت عائشةُ له : طُوبى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الجَنَّةِ . فقال صلى الله عليه وسلم : وما يدريكِ ؟ إنَّ الله خَلَقَ الجَنَّةَ وَخلَقَ لَهَا أَهْلاً وَهُمْ في أصْلابِ آبَائِهِمْ وخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وهُمْ في أَصْلابِ آبائِهِمْ " . فصل هذه الآية أيضاً تَدُلُّ على مسألة خلق الأعمالِ لأنَّهُ تعالى صرَّحَ بأنَّهُ خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان كلام اللَّهِ ، وأيضاً أنه لمَّا أخبر عنهم أنَّهُم من أهل النَّارِ ، فلو لم يكونوا من أهل النَّارِ انقلب علم اللَّهِ جهلاً ، وخبره الصِّدق كذباً ، وكل ذلك محال ومن علم كون الشَّيءِ محالاً امتنع أن يريدهُ ، فامتنع أن الله تعالى يريد أن لا يدخلهم النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم النار ، وذلك هو الذي دَلَّ عليه لفظ الآية ، وأيضاً إنَّ القادرَ على الكُفْرِ إن لم يقدر على الإيمان ، فالذي خلق فيه القدرة على الكُفْرِ فقد أرادَ أن يدخله النار ، وإن كان قادراً على الكفر والإيمان معاً ؛ امتنع رجحان أحد الطَّرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل ، وإن حصل من قبل اللَّهِ تعالى ، فهو المرادُ . فلمَّا كان هو الخالقُ للدَّاعية الموجبة للكفر فقد خلقه للنَّارِ قطعاً ، وأيضاً : لو خلقه اللَّهُ تعالى للجنَّةِ وأعانه على اكتساب ما يوجب دخول الجنَّةِ ، ثم قدرنا أنَّ العبد سعى في تحصيل الكُفْرِ الموجب لدُخُولِ النَّارِ ، فحينئذٍ حصل مُرَادُ العبدِ ، ولم يحصل مرادُ اللَّهِ تعالى فلزمَ كون العبد أقدر وأقوى من اللَّهِ ، وذلك لا يقوله عاقلٌ ، وأيضاً : إنَّ العاقلَ لا يريدُ الكُفْرَ والجهل الموجب لاستحقاق النار ، وإنَّما يريدُ الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الجنَّةِ فلما حصل الكفر ، والجهل على خلاف قصد العبد وضد جدّه واجتهاده ؛ وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد ، بل يجبُ أن يكون حصوله من الله تعالى . فإن قيل : العبْدُ إنَّما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفَاسِد ؛ لأنَّهُ اشتبه عليه الأمر وظن أنه الحقُّ الصَّحيحُ . فنقولُ : فعلى هذا التقدير إنَّما وقع في هذا الجَهْلِ لأجل ذلك الجَهْلِ المتقدِّم ، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السَّابق لجهل آخر سابق ، لزم التسلسل ، وهو محال ، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر ، فقد توجه الإلزام . قالت المعتزلة : لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ، لأن كثيراً من الآيات دلت على أنه تعالى أراد من الكل الطاعة والعبادة . قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [ النساء : 64 ] وقال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } [ الفرقان : 50 ] وقال : { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ الحديد : 9 ] . وقال : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] . وقال { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ إبراهيم : 10 ] . وقال : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] وأمثال هذه الآيات كثيرة . ونحن نعلم بالضَّرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن ، فعلمنا أنَّه لا يُمْكنُ حَمْلُ قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } على ظاهره . الثاني : أنه تعالى قال بعدها : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } ذكر ذلك في معرض الذم لهم ، ولو كانوا مخلوقين للنَّارِ ما كانُوا قادرين على الإيمان ألبتة وعلى هذا : فيقبح ذمُّهُم على تركِ الإيمان . الثالث : أنَّه تعالى لو خلقهم للنَّارِ لما كان له على أحد من الكُفَّارِ نعمة أصلاً ؛ لأنَّ منافع الدُّنيا بالنسبة إلى العذاب الدائم ، كالقطرة في البحر ، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوى مسمومة فإنَّه لا يكون منعماً عليه ، فكذا ههنا ، ولمَّا كان القرآن مملُوءاً من كثرة نعم الله على كل الخَلْق علمنا أنَّ الأمر ليس كما ذكرتم . الرابع : أنَّ المَدْحَ والذَّمَّ ، والثَّواب والعقاب ، والترغيب والترهيب ، يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه . الخامس : لو خلقهم للنَّارِ ، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النَّارِ ؛ لأنَّه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم . السادس : أن قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } متروك الظَّاهر ، لأنَّ جهنَّم اسم للموضع المعين ، ولا يجوز أن يكون الموضع المعيَّن مراداً منه ، فثبت أنه لا بد وأن يقال : إن ما أراد الله لخلقه منهم محذوف . وكأنَّهُ قال : ولقد ذَرَأنَا لكي يكفروا ، فيدخلوا جهنم ، فصارت الآية متروكة الظَّاهر ، فيجب بناؤها على قوله : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ } [ الذاريات : 56 ] لأن ظاهرها يصح بدون حذف . السابع : أنه إذا كان المرادُ أنَّهُ ذرأهم لكي يكفروا ، فيصيروا إلى جهنم ، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللاَّم لام العاقبة ، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنَّهُ لا استحقاق للنَّار ونحن قد تأولناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار . فكان قولنا أولى . فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، فوجب المصير إلى التأويل ، وتقريره : أنه لما كانت عاقبة كثير من الجن والإنس هي دخول النَّارِ . جاز ذكر هذه اللاَّم بمعنى العاقبة . ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشِّعر . أمَّا القرآنُ فقوله تعالى : { وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } [ الأنعام : 105 ] ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك ؛ لكنَّهم لمَّا قالُوا ذلك حسن ورود هذا اللفظ . وقال تعالى : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } [ يونس : 88 ] . وقال : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . ولم يلتقط لهذا الغرض ، إلاَّ أنه لمَّا كانت عاقبة أمرهم ذلك حسن هذا اللفظ . وأما الشعر فقوله : [ الطويل ] @ 2631 - ولِلْمَوْتِ تَغْذُو الوالِدَاتُ سِخَالَهَا كَمَا لِخَرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِنُ @@ وقال : [ البسيط ] @ 2632 - أمْوالُنَا لِذَوي الميراثِ نَجْمَعُهَا ودُورنا لِخرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا @@ وقال : [ الوافر ] @ 2633 - لَه مَلكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ لِدُوا للْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ @@ وقال : [ المتقارب ] @ 2634 - فأُمَّ سِمَاكٍ فلا تَجْزَعِي فَلِلموتِ ما تَلِدُ الوالِدَهْ @@ هذا منتهى كلام المعتزلة . واعلم أنَّ المصير إلى التَّأويل إنَّما يَحْسُنُ إذا ثبت بالدَّليلِ العقليِّ امتناع حمل هذا اللَّفْظِ على ظاهره ، وقد بيَّنَّا بالدليل العقليِّ أن الحقَّ ما دل عليه ظاهر اللفظ ، فصار التَّأويل ههنا عبثاً ، وأمَّ الآياتُ التي تمسكوا بها فمعارضة بالبحار الزاخرة من الآيات الدالة على مذهب أهل السُّنَّةِ ، ومن جملتها ما قبل هذه الآية : { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 178 ] وما بعدها ، وهو قوله : { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ولمَّا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلاَّ ما يُقوي قولنا كان تأويل المعتزلة في هذه الآية ضعيفاً جداً . قوله : " لَهُمْ قُلُوبٌ " جملة في محلِّ نصب إمَّا صفةً لـ " كثيراً " أيضاً ، وإمَّا حالاً من : " كثيراً " وإن كان نكرة لتخَصُّصه بالوصفِ ، أو من الضمير المستكن في مِنَ الجِنِّ ؛ لأنَّهُ تحمل ضميراً ، لوقوعه صفة ، ويجوز أن يكون لَهُمْ على حدته هو الوَصْفُ ، أو الحالُ ، وقُلُوبٌ فاعل به فيكون من باب الوصف بالمفرد ، وهو أولى . وقوله : " لا يَفْقَهُونَ بِهَا " وكذلك الجملةُ المنفيَّة في محلِّ النَّعْتِ لما قبلها ، وهذا الوصفُ يكادُ يكونُ لازماً ، لوروده في غير القرآن ؛ لأنَّهُ لا فائدة بدونه ؛ لو قلت : لزيد قَلْبٌ وله عَيْنٌ ، وسَكَتَّ لم يظهر لذلك كبير فائدة . فصل المعنى : لَهُمْ قلوبٌ لا يعلمون بها الخير والهدى ، ولهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها طريق الحق ، ولهُمْ آذانٌ لا يسمعُون بها مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون . ثم ضرب لهم مثلاً في الجَهْلِ والاقتصار على الأكل والشرب ، فقال : { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي : أنَّ همتهم الأكل والشُّرب والتمتع بالشَّهواتِ { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ؛ لأنَّ الأنعام تُميز بين المضار والمنافع فلا تقدمُ على المضار ، وهؤلاء يقدمون بالشهوات على النَّار معاندةً مع العلم بالهلاك . وقيل : لأنَّ الأنعام مطيعة للَّهِ تعالى والكافر غير مطيع . وقال مقاتلٌ : هم أخطأ طريقاً من الأنعام ؛ لأنَّ الأنعام تعرفُ ربَّها ، وهم لا يعرفون ربُّهم ولا يذكرونه . وقيل : لأنَّها تفر إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها ، والكافِرُ يهرب عن ربِّه الذي أنعم عليه . وقيل : لأنَّهَا تضل إذا لم يكن معها مرشد ، فإن كان معها مرشد فقلما تضلُّ ، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وهم يزدادون في الضلال : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } . فصل دلَّت الآيةُ على أنَّهُ تعالى كلَّفهم مع أن قلوبهم ، وأبصارهم ، وأسماعهم ما كانت صالحةً لذلك ، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصَّد عنه مع الأمر به . قالت المعتزلةُ : لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم ؛ لأن تكليف من لا قُدْرَةَ له على الفعل قبيحٌ لا يليق بالحكيم ؛ فوجب حمل الآية على أنَّ المرادَ منه كثرة الإعراض عن الدَّلائلِ وعدم الالتفات إليها ، فأشْبَهُوا من لا قَلْبَ له فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة . وأجيبُوا بأنَّ الإنسان إذا تأكدت نُفْرتُهُ عن شيء صارت تلك النُّفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدَّال على صحَّة الشيء ، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله وهذه حالة وجدانية ضرورية يجدُها كلُّ أحدٍ من نفسه . ولهذا قالوا في المثل : حُبُّكَ للشَّيءِ يُعْمِي ويُصِمُّ . وإذا ثبت هذا فنقول : إن أقواماً من الكُفَّارِ بلغوا في عداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وفي بغضِهِ وشدَّةِ النُّفرةِ عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأقوى منه والعلمُ الضروريُّ حاصلٌ بأنَّ حصول الحُبِّ والبُغْض في القلب ليس باختيارِ أحدٍ . وإذا ثبت أنَّهُ متى حصلت هذه النُّفرة والعداوةُ في القلب ، فإنَّ الإنسان لا يمكنه مع تلك النُّفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم ، فإذا كان كذلك كان القولُ بالجبر لا محيص عنهُ . فصل وقد أورد الغزالي في الإحياء سؤالاً ، فقال : فإن قيل : إني أجد من نفسي أنَّي إن شئت الفعل فعلت ، وإن شئت الترك تركت ، فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري . قوله : { وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ } قرأ حمزة هنا ، وفي النَّحل ، وحم السجدة يَلْحَدُونَ بفتح الياءِ والحاء من " لَحَدَ " ثلاثياً ، والباقون بضم الياءِ وكسر الحاء ، من " ألحَدَ " . فقيل هما بمعنى واحد وهو : المَيْل والانحراف ، ومنه : لَحْد القبر ؛ لأنَّهُ يُمَال بحفرة إلى جانبه ، بخلاف الضَّريحِ ؛ فإنَّه يُحْفَرُ في وسطه . ومن كلامهم ، ما فعل الواحدُ ؟ قالوا : لَحَدَهُ اللاَّحد ، وإلى كونهما بمعنى واحد ذهب ابنُ السِّكيت وقال : هما العدول عن الحقِّ ، وألحد : أكثر استعمالاً من " لَحَدَ " ؛ قال : [ الرجز ] @ 2636 - لَيْسَ الإمَامُ بالشَّحِيحِ المُلْحِدِ @@ وقال غيره : " لَحَدَ : بمعنى : رَكَنَ وانضوى ، وألْحَدَ ، مالَ وانْحَرَفَ " قاله الكسائي ونُقل عنه أيضاً : ألْحَدَ : أعرضَ ، ولحد : مال . قالوا : ولهذا وافق حمزة في النَّحْلِ إذ معناه : يميلون إليه . وروى أبو عبيدة عن الأصمعي : " ألْحَدَ : مارَى وجادل ، ولحد : حَادَ ومَالَ " . فصل ورُجِّحَت قراءةُ العامَّةُ بالإجماع على قوله : { بِإِلْحَادٍ } [ الحج : 25 ] . وقال الواحديُّ : ولا يكادُ يُسْمع من العرب لاحد ، يعني : فامتناعهم من مجيء اسم فاعل الثلاثي يدلُّ على قلَّته وقد تقدم من كلامهم " لَحَدَهُ اللاَّحِدُ " . ومعنى الإلحاد فيها أن اشتقُّوا منها أسماءً لآلهتهم فيقولون " اللاَّت " من لفظ الله ، و " العزَّى " من لفظ العزيز ، و " مناة " من لفظ المنَّان ، ويجوز أن يراد سمَّوه بما لا يليق بجلاله ، مثل تسميته أباً للمسيح ، وكقول النصارى : أب ، وابن ، وروح القدس . ثم قال : { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وهذا تهديد ووعيدٌ لمن ألحد في أسماء اللَّهِ . قوله تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ } الآية . " مَنْ " يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة ، و " يَهْدُونَ " صفة لـ " أمَّةٌ " . وقال بعضهم : في الكلام حذفٌ تقديره : وممَّن خلقنا للجنَّةِ ، يدلُّ على ذلك ما ثبت لمقابلهم وهو قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } . فصل المرادُ بالأمة العلماء . قال عطاء عن ابن عبَّاسٍ : يريدُ أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وهم المهاجرون والأنصار والتَّابعون لهم بإحسان . وقال قتادة : " بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : " هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها " { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] . وقال معاوية : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تزالُ مِنْ أمَّتِي أمَّةٌ قائمةٌ بأمْرِ الله لا يَضُرُّهمْ من خذلَهُمْ ولا من خالفَهُمْ حتَّى يأتيَ أمْرُ اللَّهِ وهُمْ على ذلِكَ " . قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ } الآية . والذين فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مبتدأ ، وخبره الجملة الاستقبالية بعده . والثاني : أنَّه منصوب على الاشتغال بفعلٍ مقدَّرٍ تقديره : سنستدرج الذين كذَّبُوا ، والاستدراج التقريبُ منزلةً منزلةً ، والأخذ قليلاً قليلاً من الدَّرج ؛ لأنَّ الصَّاعد يَرْقَى درجة درجة وكذلك النَّازل . وقيل : هو مأخوذٌ من الدَّرْج وهو الطيُّ ، ومنه دَرَجَ الثَّوب ، طَوَاهُ ، ودرج الميِّت مثله ، والمعنى : تُطوى آجَالهُمْ . وقرأ النخعي وابنُ وثَّابٍ : سَيَسْتدْرِجُهُم بالياءِ ، فيحتملُ أن يكون الفاعلُ الباري تعالى وهو التفاتٌ من المتكلم إلى الغيبة ، وأن يكون الفاعلُ ضمير التكذيب المفهوم من قوله : " كَذَّبوا " ؛ وقال الأعشى في الاستدراج : [ الطويل ] @ 2637 - فَلَوْ كُنْتَ فِي جُبٍّ ثمانينَ قَامَةً ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّم لَيَسْتَدْرِجَنْكَ القَوْلُ حتَّى تَهِرَّهُ وتَعْلَمَ أنِّي عَنْكُمُ غَيْرُ مُفْحَمِ @@ فصل ويقال : درج الصَّبيُّ : إذا قارب بين خطاه ، ودرج القومُ : مات بعضهم إثْرَ بعض . فصل لمَّا ذكر حال الأمة الهادية العادلة ، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى فقال : { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } وهذا يعمُّ كل مكذب ، وعن ابنِ عبَّاسٍ : المرادُ أهل مكة ، وهو بعيد . وقال عطاءٌ : سنمكر بهم ، وقيل : نأتيهم من مأمنهم كقوله : { فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } [ الحشر : 2 ] . وقال الكلبيُّ : نُزين لهم أعمالهم لتهلكهم . وقال الضَّحَّاكُ كُلَّما جَدَّدُوا معصيةً جَدَّدْنَا نعمة . وقال سُفيانُ الثَّوري : نُسْبغُ عليهم النِّعم ثم نَسْلُبُهُم الشُّكْرَ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلمُون ما يراد بهم ، ثمَّ يأخذهم اللَّهُ دفعة واحدة على غرَّتِهِمْ أغفل ما يكون ولهذا قال عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - لمَّا حُمِلَ إليه كنوز كسرى اللَّهُمَّ إني أعوذ بك أن أكُونَ مستدرجاً ، فإني سمعتك تقولُ : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } . قوله : { وَأُمْلِي لَهُمْ } جوَّز أبُو البقاءِ فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : وأنَا أمْلِي وأن يكونا مستأنفاً ، وأن يكون معطوفاً على سَنَسْتَدْرجُ ، وفيه نظر : إذ كان من الفصاحة لو كان كذا لكان ونُمْلِي بنون العظمة . ويجوزُ أن يكون هذا قريباً من الالتفات والإملاء : الإمهالُ والتطويل ، والمتين : القويُّ ، ومنه المَتْنُ وهو الوسط ؛ لأنَّه أقْوَى ما في الحيوان ، وقد مَتُنَ يَمْتُنُ مَتَانَةً أي : قَوِيَ . وقرأ العامَّةُ إنَّ كَيْدِي بالكسر على الاسئناف المُشْعر بالعليَّة . وقرأ ابنُ عامرٍ في رواية عبد الحميد أنَّ كَيْدِي بفتح الهمزةِ على العلَّةِ . والمَلِيُّ : زمان طويل من الدَّهْرِ ، ومنه قوله : { وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } [ مريم : 46 ] أي : طويلاً والمعنى : أطيل لهم مدة أعمارهم ليتمادوا في المعاصي ، ولا أعاجلهم في العقوبة ، ليقلعوا عن المعصية بالتَّوبةِ . وقوله : { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } قال ابنُ عباسٍ : يريد : إنَّ مكري شديدٌ .