Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 184-186)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ } . يجوزُ في " ما " أوجه : أحدها : أن تكون استفهامية في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبرُ " بصَاحبهم " أي : أيُّ شيء استقرَّ بصاحبهم من الجُنُونِ ؟ فـ : الجِنَّة : مصدرٌ يراد بها الهيئة ، كـ : الرِّكْبَةِ ، والجلسة . وقيل : المراد بالجِنَّة : الجِنُّ ، كقوله { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [ الناس : 6 ] ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضافٍ . أي : مَسِّ جنة ، أو تخبيط جنَّة . والثاني : أنَّ " ما " نافية ، أي : ليس بصاحبهم جنون ، ولا مسُّ جِنّ . وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية ، فيهما وجهان : أظهرهما : أنَّهما في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض ؛ لأنَّهُمَا علَّقا " التَّفكُّر " ؛ لأنَّهُ من أفعال القلوب . والثاني : أنَّ الكلام تمَّ عند قوله : { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ } ، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر ، إمَّا استفهام إنكار ، وإمَّا نفياً . وقال الحوفيُّ إنَّ " مَا بِصَاحبِهِم " معلقةٌ لفعلٍ محذوف ، دلَّ عليه الكلامُ ، والتقديرُ : أو لم يتفكروا فيعلمُوا ما بصاحبهم . قال : و " تفكَّر " لا يعلَّقُ ؛ لأنَّهُ لم يدخل على جملة . وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أن فعل القَلْبِ المتعدِّي بحرف جرٍّ أو إلى واحد إذا عُلِّقَ هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنينِ ؟ الثالث : أن تكون " مَا " موصولة بمعنى " الذي " ، تقديره : أو لم يتفكَّرُوا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم ، وعلى قولنا : إنَّهَا نافيةٌ يكونُ " مِن جِنَّةٍ " مبتدأ ، ومِنْ مزيدةٌ فيه ، وبِصَاحِبِهم خبره ، أي : مَا جِنَّةٌ بِصَاحِبِهم . فصل دخول " مِنْ " في قوله من جنَّةٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون . قال الحسنُ وقتادةُ : إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام ليلةً على الصَّفَا يدعو قريشاً فخذاً فخذاً ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، يُحذرُهم بأسَ الله وعقابه . فقال قَائِلُهُمْ : إنَّ صاحبكم هذا المجنون ، بات يُصوِّت إلى الصَّباحِ ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية . وقيل : إنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام كان يَغْشَاهُ حالة عجيبة عند نزولِ الوحي فيتغيَّر وجهه ويصفر لونه ، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي ، والجهال كانوا يقولون : إنَّهُ جُنُونٌ ، فبيَّنَ اللَّهُ تعالى في هذه الآية أنَّه ليس بمجنون إنَّمَا هُو نذير مبينٌ من ربِّ العالمين . قوله : { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية . لمَّا كانَ النَّظرُ في أمر النُّبُوَّةِ مفرعاً على تقرير دلائل التَّوحيد ، لا جرم ذكر عقيبهُ ما يدلُّ على التَّوحيد ، فقال : { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } واعلم أنَّ دلائل ملكوت السَّمواتِ والأرض على وجود الصَّانع الحكيم كثيرة وقد تقدَّمت . ثم قال : { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } أي : أن الدَّلائل على التَّوحيد غير مقصورةٍ على السَّموات والأرض ، بل كلُّ ذرَّة من ذرات العالم ، فهي برهان قاهرٌ على التَّوحيد ، وتقريره أن الشَّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرَّات ، فيفرض الكلامُ في ذرَّةٍ واحدةٍ من تلك الذرات . فنقول : إنَّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية ؛ لأنَّها مختصة بحيِّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له ، فكلُّ حَيِّزٍ من تلك الأحياز الغيرِ متناهية فرضنا وقوع تلك الذَّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيِّز من الممكنات والجائزات ، والممكن لا بدَّ له من مُخَصّص ومرجح ، وذلك المخصص إن كان جسماً عادَ السُّؤالُ فيه ، وإن لم يكن جسماً كان هو اللَّهُ تعالى . وأيضاً فتلك الذَّرَّةُ لا تخلو من الحركةِ والسُّكُونِ ، وكلُّ ما كان كذلك فهو محدثٌ ، وكل محدث فإنَّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصًّا بوقتٍ معيَّنٍ مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه ، لا بُد وأن يكون بتخصيص مخصصٍ قديم ثمَّ إن كان ذلك المُخَصِّص جسماً عاد السُّؤالُ فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى وأيضاً فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميَّة ، ومخالفة لها في اللَّون والشَّكل والطبع والطعم وسائر الصِّفاتِ ، فاختصاصها بكلِّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام ، لا بد وأن يكون من الجائزات ، والجائزُ لا بد له من مرجح ، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البَحْثُ الأوَّلُ فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى ، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصَّانع من جهات تتناهى ، واعتبارات غير متناهية ، وكذا القولُ في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركَّباته ، وعند هذا ظهر صدْقُ القائل : [ المتقارب ] . @ 2638 - وَفِي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدٌ @@ ولمَّا نبَّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله : { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } أردفه بما يوجب التَّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكُّر فقال : " وأنْ عَسَى " ، و " أنْ " فيها وجهان : أصحهما : أنَّهَا المخففةُ من الثقيلة ، واسمُها ضمير الأمر والشأن ، والمعنى : لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيرُوا إلى النَّارِ ، وإذا كان هذا الاحتمالُ قائماً ؛ وجب على العاقل المُسارعة إلى هذا الفكر ، ليسعى في تخليص نصفه من هذا الخوف الشَّديد ، و " عسى " وما حيَّزها في محلِّ الرفع خبراً لها ، ولم يفصل بَيْنَ " أنْ " والخبر وإن كان فعلاً ؛ لأنَّ الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبهُ الأسماء ، ومثله { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [ النجم : 39 ] { وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] في قراءة نافع لأنَّهُ دعاء . فصل وقد وقع خبرُ " أنْ " جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين ، فإنَّ عَسَى للإنشاء و " غَضَبَ اللَّه " دعاء . والثاني : أنَّها المصدرية ؛ قاله أبُو البقاءِ ، يعني التي تنصب المضارع ، الثنائية الوضع ، وهذا ليس بجيِّدٍ ؛ لأنَّ النُّحاة نَصُّوا على أنَّ المصدرية لا تُوصَل إلاَّ بالفعل المتصرف مطلقاً ، أي : ماضٍ ، ومضارع وأمر ، و " عَسَى " لا يتصرف فكيف يقع صلة لها ؟ وأنْ على كلا الوجهين في محل جر نسقاً على " ملكوت " ، أي : أو لم ينظروا في أنَّ الأمر والشأن عسى أن يكون ، و " أن يكُون " فاعل " عَسَى " وهي حينئذٍ تامَّةٌ ؛ لأنَّها متى رفعت " أنْ " وما في حيَّزها كانت تامةً ، ومثلها في ذلك : أوشك ، واخلولق . وفي اسم : " يَكُون " قولان : أحدهما : هو ضميرُ الشَّأنِ ، ويكونُ : { قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } خبراً لها . والثاني : أنه : " أجْلُهُمْ " ، و " قَدِ اقتربَ " جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير " أجَلُهُم " ولكن قدَّم الخبر وهو جملة فعليَّة على اسمها . وقد تقدَّم أن ابن مالك يجيزه وابن عصفور يمنعه عند قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] . قوله : " فَبِأيِّ " مُتعلّق بـ " يُؤمِنُونَ " وهي جملةٌ استفهامية سيقتْ للتَّعجب ، أي : إذَا لم يُؤمِنُوا بهذا الحديث فكيف يُؤمِنُونَ بغيره ؟ والهاءُ في : " بَعْدَهُ " تحتملُ العَوْدَ على القرآن وأن تعُود على الرَّسُولِ ، ويكون الكلامُ على حذف مضافٍ ، أي : بعد خبره وقصته ، وأن تعود على : " أجَلُهُمْ " ، أي : إنَّهم إذا ماتوا وانقضى أجلهم ؛ فكيف يُؤمنُون بعد انقضاءِ أجلهم ؟ قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم تُعلِّق قوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ قلت : بقوله : { عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } ؛ كأنه قيل : لعلَّ أجلهم قد اقترب فما لهُم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الموت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقِّ ؟ وبأيَّ حديثٍ أحقُّ منه يرون أن يؤمنوا ؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح . قوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } الآية . لمَّا ذكر إعراضهُم عن الإيمان ، بيَّن ههنا علَّة إعراضهم . فقال : { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } وهذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ الهُدى والضلال من الله تعالى كما سبق في الآيةِ المُتقدمة وتأويلات المعتزلة والأجوبة عنها . قوله : " ويَذَرْهُمْ " قرأ الأخوان بالياء وجزم الفعل ، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً ، ورفع الفعل ، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنُّون ورفع الفعل أيضاً ، وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع ، وأبي عمرو في الشواذ . فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ ، وهو الاستئناف ، أي : وهو يذرهم ، ونحن نذرهم ، على حسب القراءتين ، وأمَّا السُّكونُ فيحتمل وجهين : أحدهما : أنه جزم نسقاً على محلِّ قوله : { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } ؛ لأنَّ الجملةَ المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزم فعطف على محلِّها وهو كقوله تعالى : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ } [ البقرة : 271 ] بجزم " يُكَفّر " ؛ وكقول الشاعر : [ الكامل ] @ 2639 - أنَّى سَلَكْتَ فإنَّنِي لَكَ كَاشِحٌ وعَلى انتقِاصِكَ في الحياةِ وأزْدَدِ @@ وأنشد الواحديُّ أيضاً قول الآخر : [ الوافر ] @ 2640 - فأبْلُونِي بَلِيَّتَكُمْ لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ وأستدرج نَوَيَّا @@ قال : حمل " أسْتَدرِجْ " على موضع الفاء المحذوفة ، من قوله : لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ . والثاني : أنه سكونُ تخفيف ، كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] و { يُشْعِرْكُمْ } [ الأنعام : 109 ] ونحوه ، وأمَّا الغيبة فجرياً على اسم الله تعالى ، والتَّكلم على الالتفات من الغيبة إلى التَّكلم تعظيماً ويَعْمَهُونَ مترددون متحيرون .