Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 73, Ayat: 1-4)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } ، أصله " المُتزمِّلُ " فأدغمت التاء في الزاي ، يقال : تزمَّل يتزمل تزملاً ، فإذا أريد الإدغام : اجتلبت همزة الوصل ، وبهذا الأصل قرأ أبي بن كعب . وقرأ عكرمة : " المُزمِّل " - بتخفيف الزاي وتشديد الميم - اسم فاعل ، وعلى هذا فيكون فيه وجهان : أحدهما : أن أصله " المُزتمِل " بوزن " مفتعل " فأبدلت التاء ميماً وأدغمت ، قاله أبو البقاء ، وهو ضعيف . والثاني : أنه اسم فاعل من " زمل " مشدداً ، وعلى هذا ، فيكون المفعول محذوفاً ، أي : المزمل جسمه . وقرىء كذلك إلا أنه بفتح الميم اسم مفعول منه أي : " المُلفَّفُ ، والتزمل : التلفف ، يقال : تزمل زيد بكساء ، أي : الفت به ؛ وقال ذو الرُّمَّة : [ الطويل ] @ 4918 - وكَائِنْ تَخطَّت نَاقتِي مِنْ مفَازةٍ ومِنْ نَائِمٍ عَنْ ليْلِهَا مُتزمِّلِ @@ وقال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 4919 - كَأنَّ ثَبِيراً فِي أفَانينِ ودقِهِ كَبِيرُ أنَاسٍ في بجَادٍ مُزمَّلِ @@ وهو كقراءة بعضهم المتقدمة فصل في بيان لمن الخطاب في الآية هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه ثلاثةُ أقوالٍ : الأول : قال عكرمة : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } بالنبوة المتزمل بالرسالة ، وعنه : يا أيها الذي زمل هذا الأمر ، أي : حمله ثم فتر ، وكان يقرأ : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزمَّلُ } - بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها ، على حذف المفعول ، وكذلك : " المدثر " ، والمعنى : المزمل نفسه والمدثر نفسه ، والذي زمله غيره . الثاني : قال ابن عباس : يا أيها المزمل بالقرآن . الثالث : قال قتادة : يا أيها المزمل بثيابه . قال النخعيُّ : كان متزملاً بقطيفة عائشة رضي الله عنها بمرط طوله أربعة عشر ذراعاً نصفه عليّ ، وأنا نائمة ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزاء ولا إبريسم ولا صوفاً ، كان سداه شعراً ولحمته وبراً ، ذكره الثعلبي . قال القرطبيُّ : " وهذا القول من عائشة يدل على أنَّ السورة مدنية ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يبنِ بها إلاَّ بالمدينة ، والقول بأنها مكية لا يصح " . وقال الضحاكُ : تزمل لمنامه . وقيل : بلغه من المشركين سوء قول فيه ، فاشتد عليه فتزمل ، وتدثر ، فنزل : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } . وقيل : كان هذا في ابتداء أمر ما أوحي إليه فإنه لما سمع صوت الملك ، ونظر إليه أخذته الرعدة ، فأتى أهله ، وقال : زمِّلوني ، دثِّرُونِي . روي معناه عن ابن عباس ، قال : أول ما جاءه جبريل خافه ، وظن أن به مساً من الجنِّ ، فناداه ، فرجل من الجبل مرتعداً وقال : زمِّلُوني ، زمِّلُونِي . وقال الكلبيُّ : إنما تزمل النبي بثيابه ليتهيأ للصلاة ، وهو اختيار الفراءِ . وقيل : إنه - عليه الصلاة والسلام - كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجر تلك الحالة ، فقيل له : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } قم واشتغل بالعبودية . وقيل : معناه يا من تحمل أمراً عظيماً ، والزمل : الحمل . قال البغويُّ : قال الحكماء : كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة ، ثم خوطب بعد بالنبي ، والرسول . فصل في نفي كون " المزمل " اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم قال السهيليُّ : ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه بعض الناس ، وعدوه في أسمائه صلى الله عليه وسلم وإنما " المُزمِّلُ " اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب ، وكذلك كان المُدثِّرُ . وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : الملاطفة ، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة ، سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها " لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه - حين غاضب فاطمة - رضي الله عنها - فأتاه وهو نائم وقد لصق جنبه بالتراب ، فقال له : " قُمْ أبَا تُرابٍ " إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه ، وملاطفة له وإشعاراً بترك العتب ، [ وملاطفاً له وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة : قم يا نومان ملاطفة له ، وإشعاراً بترك العتب والتأنيب ] - وكان نائماً - فقول الله تعالى لمحمد - عليه الصلاة والسلام - : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ قُمِ } فيه تأنيس له ، وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه . والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل ، وذكر الله تعالى فيه لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل ، واتصف بتلك الصفة . قوله : { قُمِ ٱلْلَّيْلَ } . العامة : على كسر الميم لالتقاء الساكنين . وأبو السمال : بضمها ، إتباعاً لحركة القاف . وقرىء : بفتحها طلباً للخفة . قال أبو الفتح : الغرض : الهرب من التقاء الساكنين ، فبأيِّ حركة تحرك الأول حصل الغرض . قال شهاب الدين : " إلا أن الأصل : الكسر ، لدليل ذكره النحويون ، و " الليل " ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه ، هذا قول البصريين ، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولاً به " . قال القرطبي : " وهو من الأفعال القاصرة الغير متعدية إلى مفعول ، فأما ظرف المكان والزمان فسائغ فيه ، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة ، لا تقول : " قمت الدار " حتى تقول : " قُمْتُ وسَط الدَّارِ ، وخارج الدارِ " ، وقد قيل هنا : إن " قم " معناه : صل ، عبر به هنا واستعير له حتى صار عرفاً بكثرة الاستعمال " . فصل في حد الليل الليل : حده من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقد تقدم بيانه في البقرة . قال القرطبيُّ : " واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً ؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضاً لأن الندب لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقتٍ " . واختلف هل كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ، أو عليه وعلى أمته ، ثلاثة أقوالٍ : الأول : قول سعيد بن جبيرٍ لتوجه الخطاب إليه . الثاني : قول ابن عباسٍ ، قال : كان قيامُ الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله . الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضاً وهو الصحيح أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته ، لما روى " مسلم " : " أن سعد بن هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ألست تقرأ : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } قلت : بلى ، قالت : فإن الله - عز وجل - افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً ، وأمسك الله - عز وجل - خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء ، حتى أنزل الله - عز وجل - في آخر السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد أن كان فريضة " . وروى وكيع ، ويعلى ابن عباس قال : لما نزلت : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين نزول أولها وآخرها نحو من سنة . وقال سعيد بن جبير : مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزلت بعد عشر سنين { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ } [ المزمل : 20 ] فخفف الله عنهم . وقيل : كان قيام الليل واجباً ، ثم نسخ بالصلوات الخمس . وقيل : عسر عليهم تمييز القدر الواجب فقاموا الليل كلَّه فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله في آخرها { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] وكان بين الوجوب ونسخه سنة . وقيل : نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد ، حتى نسخ بالمدينة . وقيل : لم يجب التهجد قط لقوله { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ، ولأنه لو وجب عليه صلى الله عليه وسلم لوجب على أمته لقوله تعالى { وَٱتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] ، والنسخ على خلاف الأصل ، ولأنه فرض تعيين المقدار أي المكلف وذلك ينافي الوجوب . قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } . للناس في هذا كلام كثير ، واستدلال على جواز استثناء الأكثر ، والنصف ، واعتراضات وأجوبة . قال شهاب الدين : وها أنا أكذر ذلك محرراً له بعون الله تعالى : اعلم أن في هذه الآية ثمانية أوجه : أحدها : أن " نِصْفهُ " بدل من " اللَّيْلِ " بدل بعض من كل ، و " إلاَّ قَليْلاً " استثناء من النصف ، كأنه قيل : [ قُم أقل من نصف الليل ، والضمير في " مِنْهُ " و " عليه " عائد على النصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين : بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ] ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف ، والزيادة عليه ، قاله الزمخشريُّ . وناقشه أبو حيَّان : " بأنه يلزم منه تكرار اللفظ ، ويصير التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل ، قال : وهذا تركيب ينزه القرآن عنه " . قال شهاب الدين : والوجه في إشكال ، لكن لا من هذه الحيثية ، فإن الأمر فيها سهل بل لمعنى آخر - سأذكره إن شاء الله تعالى قريباً - ، وجعل أبو البقاء هذا الوجه مرجوحاً فإنه قال : والثاني : هو بدل من " قليلاً " - يعني النصف - قال : وهو أشبه بظاهر الآية لأنه قال : " أو انقُصْ مِنْهُ " ، " أو زِدْ عليْهِ " ، والهاء فيهما للنصف ، فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً ، أو انقص منه قليلاً ، والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل . قال شهاب الدين : " والجواب عنه : أن بعضهم قد عين هذا القليل ، فعن الكلبي ، ومقاتل : هو الثلث فلم يكن القليل غير مقدر ، ثم إن في قوله تناقضاً فإنه قال : " والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل " ، فأعاد الضمير على القليل ، وفي الأول أعاده على النصف ، ولقائل أن يقول : قد ينقدح هذا الوجه بإشكال قوي ، وهو أنه يلزم منه تكرار المعنى الواحد ، وذلك أن قوله : قُمْ نصف الليل إلا قليلاً ، بمعنى أنقص من نصف الليل ، لأن ذلك القليل ، هو بمعنى النقصان وأنت إذا قلت : " قم نصف الليل إلا القليل من النصف ، وقم نصف الليل ، أو انقص من النصف " وجدتهما بمعنى واحد ، وفيه دقة فتأمله ، ولم يذكر الحوفيُّ غير هذا الوجه المتقدم ، وقد عرف ما فيه ، وممن ذهب إليه أيضاً الزجاجُ فإنه قال : " نِصفَهُ " بدل من " الليل " و " إلاَّ قَلِيلاً " استثناء من النصف ، والضمير في " مِنْهُ " و " عَليْهِ " عائد للنصف ، والمعنى : قُم نصف الليل ، أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث ، أو زد عليه إلى الثلثين ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل ، أو نصفه ، أو ثلثه " . قال شهاب الدين : " والتقديرات التي يبرزونها ظاهرة حسنة إلا أن التركيب لا يساعد عليها لما عرفت من الإشكال المذكور آنفاً " . الثاني : أن يكون " نِصفَهُ " بدلاً من " قَلِيْلاً " وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء ، وابن عطية . قال الزمخشريُّ : " وإن شئت جعلت " نِصفَهُ " بدلاً من " قَلِيْلاً " وكان تخييراً بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ، وإنَّما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل " . وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أشبه من جعله بدلاً من " اللَّيْلِ " كما تقدم . إلا أن أبا حيان اعترض هذا ، فقال : " وإذا كان " نِصفَهُ " بدلاً من " إلاَّ قليلاً " ، فالضميرُ في " نصفهُ " إما أن يعود على المبدل منه ، أو على المستثنى منه ، وهو " الليْل " لا جائزٍ أن يعود على المبدل منه ؛ لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول ، إذ التقدير : إلا قليلاً نصف القليل ، وهذا لا يصح له معنى ألبتَّة ، وإن عاد الضمير إلى " اللَّيْلِ " فلا فائدة في الاستثناء من " الليْلِ " ، إذ كان يكون أخصر ، وأفصح ، وأبعد عن الإلباس : قم الليل نصفه ، وقد أبطلنا قول من قال : " إلاَّ قَليلاً " استثناء من البدل ، وهو " نِصْفَهُ " وأنَّ التقدير : قم الليل نصفه إلا قليلاً منه ، أي من النصف ، وأيضاً ففي دعوى أن " نِصفَهُ " بدل من " إلاَّ قَلِيلاً " ، والضمير في " نِصْفَهُ " عائد على " الليْلِ " ، إطلاق القليل على النصف ، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير : إلا نصفه فلا تقمه ، أو انقص من النصف الذي لا تقومه ، وهذا معنى لا يصلح ، وليس المراد من الآية قطعاً " . قال شهاب الدين : يقول بجواز عوده على كل منهما ، ولا يلزم محذور ، أما ما ذكره من أنه يكون استثناء مجهول من مجهول فممنوع ، بل هو استثناء معلوم من معلوم ، لأنا بينا أن القليل قدر معين وهو الثلث ، والليل ليس بمجهول ، وأيضاً فاستثناء المبهم قد ورد ، قال الله تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] ، وقال تعالى : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] ، وكان حقه أن يقول : لأنه بدل مجهول من مجهول ، وأما ما ذكره من أنه " أخصر منه ، وأوضح " كيت وكيت ، أما الأخصر ، فمسلم وأما أنه يلبس ، فممنوع ، وإنما عدل عن اللفظ الذي ذكره لأنه أبلغ ، وبهذا الوجه استدل من قال : يجوز استثناء النصفِ ، والأكثر ، [ ووجه الدلالة على الأول أنه جعل قليلاً مستثنى من الليل ثم فسَّر ذلك القليل بالنصف ، فكأنه قيل قم الليل إلا نصفه ] ووجه الدلالة على الثاني : أنه عطف " أوْ زِدْ عليْهِ " على " انْقُصْ مِنْهُ " ، فيكون قد استثنى الزائد على النصف ، لأن الضمير في " مِنْهُ " وفي " عَليْهِ " عائد على النصف وهو استدلال ضعيف لأن الكثرة إنَّما جاءت بالعطف ، وهو نظير أن يقول : له عندي عشرةٌ إلا خمسة درهماً درهماً ، فالزيادة على النصف بطريق العطف ، لا بطريق أن الاستثناء أخرج الأكبر بنفسه . الثالث : إن " نِصفَهُ " بدل من " الليل " [ أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأول ، إلا أن الضمير في " مِنْهُ " و " عَليْهِ " عائد على الأقل من النصف ، ] وإليه ذهب الزمشخريُّ ، فإنه قال : " وإن شئت قلت : لما كان معنى { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } إذا أبدلت النصف من الليل يكون المعنى : قم أقل من نصف الليل ، فيرجع الضمير في " مِنْهُ " و " عَليْهِ " ، إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل ، أو قم أنقص من ذلك الأقل ، أو أزيد منه قليلاً ، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث " . الرابع : أن يكون " نِصفَهُ " بدلاً من " قَلِيْلاً " كما تقدم ؛ إلا أنك تجعل القليل الثاني ربع الليلِ ، وقد أوضح الزمخشري هذا أيضاً ، فقال : " ويجوز إذا أبدلت " نِصْفَهُ " من " قَلِيْلاً " وفسرته به أن تجعل " قَلِيلاً " الثاني بمعنى نصف النصف بمعنى الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفه ، وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع ، كأنه قيل : أو زد عليه قليلاً نصفه ، ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون تخييراً بين النصف ، والثلث ، والربع " انتهى . واختار ابن الخطيب هذا الوجه مع الوجه الثاني : فقال : وقد أكثر الناس في هذه الآية ، وفيها وجهان ملخصان : أحدهما : أن القليل في قوله : " إِلاَّ قَليْلاً " ، هو الثلث ، لأن قوله تعالى في آخر السورة : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ } ، يقتضي أن أكثر المقادير الواجبة هو الثلثان ، فيكون قيامُ الثلث جائزاً ، وهو قوله : { إلاَّ قَلِيلاً } فكأنه قيل : قم ثلثي الليل ، ثم قال : " نِصْفَهُ " فمعناه : أو قم نصفه ، من باب قولهم : " جالس الحسن ، أو ابن سيرين " على الإباحة ، فحذف العاطف ، فالتقدير : قم الثلثين ، أو قم النصف ، أو انقص من النصف ، أو زد عليه ، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة ، والثلث أقصى النقصان ، فيكون الواجب هو الثلث ، والزائد عليه مندوباً ، فإن قيل : فيلزم على قراءة الخفض في " نصفه " و " ثلثه " أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك من الواجب الأدنى ، لأنه تعالى قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } فيكون المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين ، وأقل من النصف وأقل من الثلث ، فإذا كان الثلث واجباً كان النبي صلى الله عليه وسلم تاركاً للواجب ؟ قلنا : المقدر للشيء قد ينقص منه لعدم انضباطه لأنه باجتهاد فربما أخطأ ، فهو كقوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّنْ تُحْصُوهُ } [ المزمل : 20 ] . الثاني : أن " نِصْفَهُ " تفسير لـ " قَلِيْلاً " لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل لأن المكلف بالنصف لا يخرج عن العهدة بيقين ، إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً ، فيكون الباقي بعد ذلك أقل من النصف ، فالمعنى : قم نصف الليل ، أو انقص منه نصفه ، وهو الربع ، أو زد عليه نصفه ، وهو الربع ، فيصير المجموع ثلاثة أرباع ، فيكون مخيراً بين أن يقوم تمام النصف ، أو ربع الليل ، أوثلاثة أرباعه ، وحينئذ يزول الإشكال بالكلية ، لأن الربع أقل من الثلث ، وذلك أن قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم ثلثي الليل ، ولا نصفه ولا ثلثه ، لأن الواجب لما كان هو الربع فقط ، لم يلزم ترك قيام الثلث . الوجه الخامس : أن يكون { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء من القيام ، فيجعل " الليْل " اسم جنس ، ثم قال : { إِلاَّ قَلِيلاً } ، أي : إلا الليالي التي تُخِلّ فيها ، أي تترك في قيامها القدر البين ونحوه ، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب ، قاله ابن عطية ، احتمالاً من عنده وهذا خلافُ الظاهرِ ، وهو تأويل بعيد . السادس : قال الأخفش : الأصل قم الليل إلا قليلاً أو نصفه ، قال : كقولك : " أعطه درهماً درهمين ثلاثة " . وهذا ضعيف جداً ، لأن فيه حذف حرف العطفِ ، وهو ممنوعٌ ، لم يردْ منه إلا شيء شاذ ممكن تأويله ، كقولهم : " أكَلتُ لحْماً سَمَكاً تَمْراً " . وقول الآخر : [ الخفيف ] @ 4920 - كَيْفَ أصْبحْتَ كيْفَ أمْسيْتَ ممَّا يَنْزِعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَريمِ @@ أي : " لحماً وسمكاً وتمراً " ، وكذا : كيف أصبحت ، وكيف أمسيت ، وقد خرج الناس هذا على بدل النداء . السابع : قال التبريزي : الأمر بالقيام ، والتخيير في الزيادة ، والنقصان وقع على الثلثين في آخر الليل ، لأن الثلث الأول وقت العتمة ، والاسثتناء وارد على المأمورية ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل إلا قليلاً أي ما دون نصفه " أو زِدْ عليْهِ " ، أي على الثلثين ، فكان التخيير في الزيادة ، والنقصان واقعاً على الثلثين ، وهذا كلام غريب لا يظهر من هذا التركيب . الثامن : أن " نِصْفَهُ " منصوب على إضمار فعل ، أي : قم نصفه ، حكاه مكي عن غيره ، فإنه قال : " نِصْفَهُ " بدل من " الليْلِ " . وقيل : " انتصب على إضمار : قم نصفه " . قال شهاب الدين : " وهذا في التحقيق ، وهو وجه البدل الذي ذكره أولاً ، لأن البدل على نية تكرار العامل " . فصل في نسخ الأمر بقيام الليل اختلفوا في الناسخ للأمر بقيام الليل ، فعن ابن عباس وعائشة : أن الناسخ قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ } إلى آخرها ، وقيل : قوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } وعن ابن عباس أيضاً : أنه منسوخ بقوله { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } ، وعن عائشة أيضاً ، والشافعي وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس ، وقيل : الناسخ قوله تعالى : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } . قال أبو عبد الرحمن السلمي : لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ثم نزل قوله تعالى : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } . قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله كما قال تعالى : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } . قال القرطبيُّ : " والقول الأول يعم جميع هذه الأقوال ، وقد قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } [ البقرة : 43 ] . فدخل فيها قول من قال : إن الناسخِ الصلوات الخمس ، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل كانت فريضة على كلِّ مسلمٍ ، ولو على قدر حلب شاة ، وعن الحسن أيضاً أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة ، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - لما جاء في قيامه من الترغيب ، والفضل في القرآن ، والسنة " . قالت عائشة رضي الله عنها : " كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فلما رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتحنحون ، ويتفلون ، فخرج إليهم فقال : " أيُّهَا النَّاسُ تكلَّفُوا مِن العمل ما تُطيقُونَ ، فإنَّ اللَّه لا يمَلُّ من الثواب حتَّى تَملُّوا من العملِ ، وإنَّ خَيْرَ العمَلِ أدومهُ ، وإنْ قَلَّ " ، فنزلت { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } ، فكتب عليهم ، وأنزل بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل ، فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهرٍ ، فنزل قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ } ، فردهم الله إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل ، إلا ما تطوعوا به . قال القرطبيُّ : ومعنى حديث عائشة رضي الله عنها ثابت في الصحيح ، إلى قوله : " وإنْ قَلَّ " وباقيه يدل على أن قوله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } نزل بالمدينة ، وأنهم مكثوا ثمانية أشهرٍ يقومون ، وقد تقدم عنها في " صحيح مسلم " حولاً . وحكى الماورديُّ عنها قولاً ثالثاً : وهو ستة عشر شهراً لم يذكر غيره عنها ، وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه كان بين أول " المُزمِّل " وآخرها سنة ، قال : فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضاً عليه ، وقيل في نسخه عنه قولان : أحدهما : أنه كان فرضاً عليه إلى أن مات . والثاني : أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته ، وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان : أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين ، يريد قول ابن عباس حولاً ، وقول عائشة ستة عشر شهراً . الثاني : " أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ " . قوله : { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } ، أي : لا تعجل في قراءة القرآنِ بل اقرأه على مهل وهينة ، وبينه تبييناً مع تدبر المعاني . قال المبرد : أصله من قولهم : " ثغر رتل ورتل " بفتح العين وكسرها إذا كان حسن التنضيد ، ورتلت الكلام ترتيلاً ، إذا جملت فيه ، ويقال : ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق قليل . فقوله تعالى : { تَرْتِيلاً } تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنه مما لا بد منه للقارىء . روى الحسن : " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ آية ويبكي ، فقال : " أَمْ تَسمعُوا إلى قولِ اللَّهِ تعالى : { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } ، هذا الترتيل " . وروى " أبو داود " عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُؤتَى بِقَارِىء القُرآنِ يَوْم القِيامةِ ، فيُوقَفُ فِي أول دَرجِ الجنَّةِ ، ويقال له : اقْرَأ وارْقَ ورتلْ كَمَا كُنْتَ تُرتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتك عِنْدَ آخِرِ آية تقرؤها " .