Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 73, Ayat: 5-9)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ، الجملة من قوله : " إنَّا سَنُلقي " مستأنفة . وقال الزمخشريُّ : " وهذه الآية اعتراض " ثم قال : " وأراد بهذا الاعتراض أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن ، لأن الليل وقت السبات ، والراحة ، والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادة لطيفة ، ومجاهدة لنفسه " انتهى . يعني بالاعتراض من حيثُ المعنى ، لا من حيث الصناعة ، وذلك أن قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } مطابق لقوله : " قُمِ الليْل " ، فكأنه شابه الاعتراض من حيث دخوله بين هذين المناسبتين . فصل في معنى الآية المعنى : سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل " قَوْلاً ثَقيْلاً " يثقل حمله ، لأن الليل للمنام فمن أجر بقيام أكثره ، لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس ، ومجاهدة الشيطان فهو أمر يثقل على العبد . وقيل : المعنى سنوحي إليك القرآن وهو ثقيل يثقل العمل بشرائعه قال قتادة : ثقيل - والله - فرائضه وحدوده . وقال مجاهد : حلاله وحرامه . وقال الحسن : العمل به . وقال أبو العالية : ثقيل بالوعد ، والوعيد ، والحلال والحرام . وقال محمد بن كعب : " ثقيل على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم ، ويبطل أديانهم " . وقيل : على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم ، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم . وقال السديُّ : ثقيل بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل عليَّ ، أي يكرم عليّ . وقال الفراءُ : " ثَقِيْلاً " أي : رزيناً . وقال الحسن بن الفضل : ثقيل لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد . وقال ابن زيد : هو ثقيل مبارك في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة . وقيل : ثقيل : أي ثابت كثبوت الثقيل في محله ، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً . [ وقيل : ثقيل : بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ، ومعانيه بالكلية ، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته ، والفقهاء بحثوا في أحكامه ، وكذا أهل اللغة ، والنحو ، وأرباب المعاني ، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاشتغال بحمله ، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله ] . وقيل : هو الوحي ، كما جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض فما تستطيع أن تتحرك ، حتى يُسَرَّى عنه " . وقال القشيري : القول الثقيل هنا : هو قول : " لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ " ، لأنه ورد في الخبر : " لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ خَفيفَةٌ على اللِّسانِ ثَقِيلةٌ في المِيزَانِ " . قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } . في الناشئة أوجه : أحدها : أنها صفة لمحذوف ، أي : النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة ، أي تنهض وترفع من " نشأت السحابة " إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض ، قال : [ الطويل ] @ 4921 - نَشَأنَا إلى خُوصِ بَرَى نيَّهَا السُّرَى وألصَقَ مِنْهَا مُشرِفَاتِ القَماحِدِ @@ الثاني : أنها مصدر بمعنى قيام الليلِ ، على أنها مصدر من " نشأ " إذا قام ونهض ، فيكون كالعافية والعاقبة ، قالهما الزمخشري . الثالث : أنها بلغة الحبشةِ نشأ الرجل ، أي : قام من الليل . قال أبو حيان : فعلى هذا هي جمع ناشىء ، أي : قائم ، يعني : أنها صفة لشيء يفهم الجمع ، أي : طائفة ، أو فرقة نائشة ، وإلا فـ " فاعل " لا يجمع على " فاعلة " . قال القرطبي : " قال ابن مسعود : " الحبشة " [ يقولون : نشأ ، أي قام . فلعله أراد أن الكلمة عربية ، ولكنها شائعة في كلام الحبشة ] غالبة عليهم ، وإلاَّ فليس في القرآن ما ليس من لغة العرب " . الرابع : { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } : ساعاته ، وأوقاته ؛ لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء . قال القرطبيُّ : " لأنها تنشأ أولاً فأولاً ، يقال : نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدأ ، وأقبل شيئاً بعد شيء فهو ناشىء ، وأنشأه اللهُ فنشىء ، فالمعنى : ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم فالتأنيث للفظ الساعة ، لأن كل ساعة تحدث " . وقيدها الحسن وابن عبَّاسٍ : بما كان بعد العشاء ، إن كان قبلها فليس بناشئة ، وخصصتها عائشة رضي الله عنها بأن تكون بعد النوم ، فلو لم يتقدَّمها نوم لم تكن ناشئة . قوله : { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } . قرأ أبو عمرو وابن عامرٍ : بكسر الواو ، وفتح الطاء بعدها ألف ، والباقون : بفتح الواو وسكون الطاء . وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة : " وِطْأً " ، بكسر الواو وسكون الطاء . وظاهر كلام أبي البقاء أنه قرىء بفتح الواو مع المد ، فإنه قال : " وِطْأ " بكسر الواو بمعنى مواطأة " ، وبفتحها اسم للمصدر ، ووطأ على " فعل " وهو مصدر وطىء ، والوطاء : مصدره " وِطَاء " كـ " قِتَال " مصدر " قَاتلَ " ، والمعنى : أنها أشد مُواطأة ، أي : يواطىء قلبها لسانها إن أردت النفس ، ويواطىء قلب النائم فيها لسانه إن أردت القيام ، أو العبادة ، أو الساعات ، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص . والوطء - بالفتح والكسر - : على معنى أشد ثبات قدم ، وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ من صلاة النهار على المصلي من قوله - عليه الصلاة والسلام - : " اللَّهُمَّ اشدُدْ وطْأتكَ على مُضَر " وعلى كل تقدير : فانتصابه على التمييز . قوله : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } . حكى الزمخشريُّ : أن أنساً قرأ : " وأصوب قِيْلاً " فقيل : له : يا أبا حمزة إنما هي " وأقْوَمُ " ، فقال : إن أقوم ، وأصوب وأهيأ ، واحد ، وأنَّ أبا السرار الغنوي كان يقرأ : { فَحَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ } [ الإسراء : 25 ] - بالحاء المهملة - فقيل له : هي بالجيم فقال : جَاسوا وحاسوا واحد . قال شهاب الدين : " وغرضه من هاتين الحكايتين ، جواز قراءة القرآن بالمعنى ، وليس في هذا دليل ؛ لأنه تفسيرُ معنى ، وأيضاً ، فالذي بين أيدينا قرآن متواتر ، وهذه الحكاية آحاد ، وقد تقدم أن أبا الدرداء كان يُقْرِىءُ رجلاً ، { إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأَثِيمِ } [ الدخان : 43 - 44 ] ، فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم ، فلما تبرم منه قال : طعام الفاجر يا هذا ، فاستدل به على ذلك من يرى جوازه ، وليس فيه دليل ، لأن مقصود أبي الدرداء بيان المعنى فجاء بلفط مبين " . قال الأنباري : وذهب بعض الزائغين إلى أن من قال : إن من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآنِ ، فهو مصيب إذا لم يخالف ولم يأت بغير ما أراد الله ، واحتجوا بقول أنس هذا ، وهذا قول لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إلى قائله ، لأنه لو قرىء بألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها ، واشتملت على غايتها لجازأن يقرأ في موضع { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } الشكر للباري ملك المخلوقين ، ويتسع الأمر في هذا ، حتى يبطل لفظ جميع القرآن ، ويكون التالي له مفترياً على الله - تعالى - كاذباً على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود : " نَزلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ ، إنما هو كقول أحدكم : تعلم ، وتعال ، وأقبل " ؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها ، واتفقت معانيها ، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في " هَلُمَّ " ، وتعال ، وأقبل " ، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وتابعوهم ، فإن من أورد حرفاً منه في القرآن بهت ، ومال ، وخرج عن مذهب الصواب ، وحديثهم الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة لا يصححه أهل العلم . انتهى . فصل في فضل صلاة الليل بيَّن تعالى في هذه الآية فضل صلاةِ الليل على صلاة النَّهار ، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر ، وأجلب للثواب ، كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب ، والعشاء ، ويقول : هذه ناشئة الليل . وقال عطاء وعكرمة : هو بدوام الليل . قال في الصحاح : " ناشئة الليل " أول ساعاته . وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل كلهُ ، لأنه ينشأ بعد النهار ، وهو اختيار مالك . قال ابن العربي : " وهو الذي يعطيه اللفظ ويقتضيه اللغة " . وقالت عائشة رضي الله عنها وابن عباس - أيضاً - ومجاهد : إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم ، ومن قال قبل النوم فما قام ناشئة . وقال يمان وابن كيسان : هو القيام من آخر الليل . وأما قوله : { أَشَدُّ وَطْأً } ، أي : أثقل على المصلي من ساعات النهار ، لأن الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل ، فقد تحمل المشقة العظيمة ، هذا على قراءة كسر الواو ، وفتح الطاء ، وأما على قراءة المد : فهو مصدر " واطَأتْ وِطاءً ومُواطَأةً " ، أي : وافقت على الأمر من الوفاق ، تقول : فلان مواطىء اسمه اسمي ، أي : موافقه ، فالمعنى أشد موافقة بين القلب ، والبصر ، والسمع واللسان لانقطاع الأصوات ، والحركات ، قاله مجاهد وابن مليكة وغيرهما ، قال تعالى : { ليواطؤوا عدَّةَ ما حرم الله } [ التوبة : 37 ] ، أي : ليوافقوا ، وقيل : أشدّ مهاداً للتصرف في التفكر والتدبر . وقيل : أشد ثباتاً من النهار ، فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله فيكون ذلك أثبت للعمل ، والوطء : الثبات ، تقول : وطئتُ الأرض بقدمي . وقوله : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي : القراءة بالليل أقوم منها بالنهار ، أي : أشد استقامة واستمراراً على الصواب ، لأن الأصوات هادئة ، والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه . وقال قتادة ومجاهد : أصوب للقراءة وأثبت للقول ؛ لأنه زمان التفهم . وقيل : أشد استقامة لفراغ البال بالليل . وقيل : أعجل إجابة للدعاء ، حكاه ابن شجرة . وقال عكرمة : عبادة الليل أتم نشاطاً وأتم إخلاصاً ، وأكثر بركة . قوله : { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } . قرأ العامة : بالحاء المهملة ، وهو مصدر " سَبح " ، وهو استعارة للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء ، وهي البعد فيه . وقال القرطبيُّ : السَّبْحُ " الجري ، والدوران ، ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه ، وفرس سابح " شديد الجري " . قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 4922 - مِسَحٍّ إذَا السَّابحَاتُ عَلى الوَنَى أثَرْنَ غُبَاراً بالكَديدِ المُركَّلِ @@ وقيل : السبح : الفراغ ، أي : إن لك فراغاً للحاجات بالنهار . وعن ابن عباس وعطاء : " سَبْحاً طَويْلاً " يعني فراغاً طويلاً يعني لنومك ، وراحتك فاجعل ناشئة الليل لعبادتك . وقرأ يحيى بن يعمر ، وعكرمة وابن أبي عبلة : " سَبْخاً " بالخاء المعجمة . واختلفوا في تفسيرها : فقال الزمخشريُّ : " استعارة من سبخ الصوف ، وهو نفشه ، ونشر أجزائه لانتشار الهمِّ ، وتفريق القلب بالشواغل " . وقيل : التسبيخ ، التخفيف ، حكى الأصمعيُّ : " سبخ الله عنك الحمى ، أي : خففها عنك " . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 4923 - فَسَبِّخْ عليْكَ الهَمَّ واعْلَمْ بأنَّهُ إذَا قدَّر الرَّحمنُ شَيْئاً فكَائِنُ @@ أي : خفف ، ومنه " قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشةَ ، وقد دعت على سارق ردائها : " لا تُسبِّخِي بدُعَائكِ عليْهِ " أي : لا تخففي إثمه . وقيل : التسبيخ : المد ، يقال : سبخي قُطنكِ ، أي : مديه ، والسبيخة : قطعة من القطن ، والجمع : سبائخ ؛ قال الأخطل يصف صائداً وكلاباً : [ البسيط ] @ 4924 - فَأرْسلُوهُنَّ يُذْرينَ التُّرابَ كمَا يُذْرِي سَبائِخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوْتَارِ @@ وقال أبو الفضل الرازي : " قرأ ابن يعمر وعكرمة : " سَبْخاً " - بالخاء المعجمة - وقالا : معناه نوماً ، أي : ينام بالنهار ؛ ليستعين به على قيام الليل ، وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى ، لكنهما فسراها : فلا تجاوز عنه " . قال شهاب الدين : " في هذا نظرٌ ، لأنهما غاية ما في الباب انهما نقلا هذه القراءة ، وظهر لهما تفسيرها بما ذكر ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يجوز غير ما ذكر من تفسير اللفظة " . وقال ثعلب : السَّبْخُ - بالخاء المعجمة - التردد والاضطراب ، والسبح : السكون " . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الحُمَّى من فَيْحِ جَهنَّمَ فَسبِّحُوهَا بالمَاء " أي فسكِّنُوهَا بالمَاءِ . وقال أبو عمرو : السَّبْخُ : النوم والفراغ ، فعلى هذا يكون من الأضداد ، ويكون بمعنى السبح بالحاء المهملة . قوله : { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ } ، أي : ادعه بأسمائه الحسنى ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة . وقيل : اقصد بعملك وجه ربِّك . وقال سهل : اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتِك توصلك بركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه . وقيل : اذكر اسم ربِّك في وعده ، ووعيده ؛ لتتوفّر على طاعته وتعدل عن معصيته . وقال الكلبي : صلِّ لربِّك ، أي : بالنهار . قال القرطبيُّ : وهذا حسن ، لأنه لما ذكر الليل ذكر النهار ، إذ هو قسيمه ، وقد قال تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } [ الفرقان : 62 ] . قوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } ، هذا مصدر على غير المصدر ، وهو واقع موقع التبتل ، لأن مصدر " تفعَّل " " تفعُّل " نحو " تصرَّف تصرُّفاً ، وتكرَّم تكرُّماً " ، وأما " التفعيل " فمصدر " فعَّل " نحو " صرَّف تصريفاً ؛ كقول الآخر : [ الرجز ] @ 4925 - وقَدْ تَطَوَّيْتَ انْطواءَ الحِضْبِ @@ فأوقع " الانفعال " موقع " التفعل " . قال الزمخشريُّ : لأنَّ معنى " تبتَّل " بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاةً لحق الفواصل . والبَتْلُ : الانقطاع ، ومنه امرأة بتول ، أي : انقطعت من النكاح ، وبتلت الحبل : قطعته . قال الليثُ : التبتل : تمييز الشيء من الشيء ، وقالوا : طَلْقةٌ بَتْلةٌ ، يعنون انقطاعها عن صاحبها ، فالتبتُّل : ترك النكاح والزهد فيه ، ومنه سمي الراهب متبتلاً لانقطاعه عن النكاح ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 4926 - تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعشَاءِ كأنَّها مَنارةُ مُمْسَى رَاهبٍ مُتبتِّلِ @@ ومنه الحديث : أنه نهى عن التبتل ، وقال : " يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ ، من اسْتَطَاعَ مِنْكمُ البَاءَةَ فَليتَزوَّجْ " والمراد به في الآية الكريمة : الانقطاع إلى عبادة الله تعالى دون ترك النكاح . والتبتل في الأصل : الانقطاع عن الناس ، والجماعات ، وقيل : إن أصله عند العرب التفرد . قاله ابن عرفة . قال ابن العربي : " هذا فيما مضي ، وأما اليوم ، وقد مرجت عهود الناس ، وخفت أماناتهم ، واستولى الحرام على الحطام ، فالعزلة خير من الخلطة ، والعُزبة أفضل من التأهل ، ولكن معنى الآية : وانقطع عن الأوثان ، والأصنام ، وعن عبادة غير الله . وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة ، ولم يرد التبتل ، فصار التبتُّلُ مأموراً به في القرآن ، مَنْهِيّاً عنه في السنَّةِ ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان ، وإنما بعث ليبينَ للناس ما نزل إليهم ، والتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص كما قال تعالى : { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [ البينة : 5 ] ، والتبتل المنهي عنه : سلوك مسلك النصارى في ترك النكاحِ ، والترهب في الصوامع ، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلمِ غنماً يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن " . قوله : { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } . قرأ الأخوان وأبو بكر وابن عامرٍ : بجر " ربِّ " على النعت لـ " ربِّك " ، أو البدل منه ، أو البيان له . وقال الزمخشري : وعن ابن عباس : على القسم بإضمار حرف القسمِ ، كقولك : " والله لأفعلنَّ " وجوابه " لا إله إلاَّ هُو " ، كما تقول : " والله لا أحد في الدار سوى زيد " . قال أبو حيَّان : لعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس ، لأن فيه إضمار الجار ، ولا يجيزه البصريون إلاَّ مع لفظ الجلالةِ المعظمة خاصة ، ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فإنما تنفى بـ " مَا " ، وحدها ، فلا تنفى بـ " لا " إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً ، أو بماض في معناه قليلاً . نحو قول الشاعر : [ البسيط ] @ 4927 - رِدُوا فَواللَّهِ لا زُرْنَاكُمُ أبَداً مَا دَامَ في مائنَا وِرْد لِوُرَّادِ @@ والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويزِ ، والتسليم ، والذي ذكره النحويون هو نفيها بـ " مَا " ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 4928 - لَعمْرُكَ ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ ولا نَأنَإٍ يَوْمَ الحِفَاظِ ولا حَصِرْ @@ قال شهاب الدين : " قد أطلق ابن مالك أن الجملة المنفية سواء كانت اسمية ، أم فعليه تنفى بـ " ما " ، أو " لا " ، أو " إن " بمعنى : " ما " ، وهذا هو الظاهر " . وباقي السبعة : ترفعه ، على الابتداء وخبره الجملة من قوله " لا إله إلا الله " ، أو على خبر ابتداء مضمر ، أي : " هُو ربُّ " ، وهذا أحسن لارتباط الكلام بعضه ببعض . وقرأ زيد بن علي : " ربَّ " بالنصب على المدح . وقرأ العامة : " المشْرِق والمَغْرِب " موحدين . وعبد الله وابن عباس : " المشَارِق والمغَارِب " . ويجوز أن ينصب " ربَّ " في قراءة زيد من وجهين : أحدهما : أنه بدل من " اسم ربِّك " ، أو بيان له ، أو نعت له ، قاله أبو البقاء ، وهذا يجيء على أن الاسم هو المسمى . والثاني : أنه منصوب على الاشتغال بفعل مقدر ، أي : فاتخذ ربَّ المشرق فاتخذه ، وما بينهما اعتراض . والمعنى : أن من علم أنه رب المشارق ، والمغارب انقطع بعمله إليه " واتَّخذهُ وَكِيْلاً " ، أي : قائماً وقيل : كفيلاً بما وعدك .