Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 11-30)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } ، الواو في قوله : { وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } ، كقوله : " والمُكَذبين " في الوجهين المتقدمين في السورة قبلها . وقوله تعالى : { وَحِيداً } فيه أوجه : أحدها : أنه حال من الياء في " ذَرْنِي " ، أي : ذرني وحدي معه فأنا أكفيك في الانتقام منه . الثاني : أنه حال من التاء في " خَلقْتُ " ، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه . الثالث : أنه حال من " مَن " . الرابع : أنه حال من عائده المحذوف ، أي خلقته وحيداً ، فـ " وَحِيْداً " على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف ، أي : خلقته وحده لا مال له ولا ولد ، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته ؛ قاله مجاهد . الخامس : أن ينتصب على الذَّمِّ ، لأنه يقال : إن وحيداً كان لقباً للوليد بن المغيرة ، ومعنى " وَحِيْداً " ذليلاً . قيل : كان يزعم أنه وحيد في فضله ، وماله ، وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأن هذا لقب له شهر به ، وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به ، وإذا كان لقباً تعين نصبه على الذم . فصل في معنى " ذرني " معنى " ذرني " أي : دعني ، وهي كلمة وعيد وتهديد ، " ومَنْ خَلقْتُ " هذه واو المعية ، أي : دعني والذي خلقته وحيداً . قال المفسرون : هو الوليد بن المغيرة المخزومي ، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه فإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة ، وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يسمى الوحيد في قومه . قال ابن عباس : كان الوليد يقول : أنا الوحيد ابن الوحيد ، ليس لي في العرب نظير ، ولا لأبي المغيرة نظير ، فقال الله تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ } بزعمه " وَحِيْداً " لأن الله تعالى صدقه ، بأنه وحيد . قال ابن الخطيب : ورد هذا القول بعضهم بأنه تعالى لا يصدقه في دعواه بأنه وحيد لا نظير له ، ذكره الواحدي ، والزمخشري ، وهو ضعيف من وجوه : الأول : لأنه قد يكون الوحيد علماً فيزول السؤال ، لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة ، بل هو قائم مقام الإرشاد . الثاني : أن يكون ذلك بحسب ظنه ، واعتقاده ، كقوله - عز وجل - : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . الثالث : أنه وحيد في كفره ، وعناده وخبثه ؛ لأن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف . الرابع : أنه إشارة إلى وحدته عن نفسه . قال أبو سعيد الضرير : الوحيد الذي لا أب له كما تقدم في " زَنِيْمٌ " . قوله تعالى : { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } ، أي : خولته ، وأعطيته مالاً ممدوداً . قال ابن عباس : هو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والنعم والخيول والعبيد والجواري . وقال مجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس - أيضاً - : ألف دينار . وقال قتادة : ستة آلاف دينار . وقال سفيان الثوري : أربعة آلاف دينار . وقال الثوري - أيضاً - : ألف ألف دينار . وقال ابن الخطيب : المال الممدود : هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائماً ، ولذلك فسره عمر - رضي الله عنه - غلة شهر بشهر وقال النعمان : الممدود بالزيادة كالزرع والضرع ، وأنواع التجارات . قال مقاتل : كان له بستان لا ينقطع شتاء ولا صيفاً ، كما في قوله - عز وجل - : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] ، أي : لا ينقطع والذي يظهر أنه المال الكثير ، والتقديرات تحكم . قوله : { وَبَنِينَ شُهُوداً } ، أي : حضوراً لا يغيبون ، ولا يفارقونه - ألبتة - طَيِّبَ القلب بحضورهم . وقيل : معنى كونهم شهوداً ، أي : يشهدون معه المجامعَ والمحافلَ . وقيل : " شهوداً " أي : صاروا مثلهُ في شهود ما كان يشهدُ ، والقيام بما كان يباشره . قال مجاهد وقتادة : كانوا عشرة . وقال السديُّ والضحاكُ : كانوا اثني عشر رجلاً ، وعن الضحاك : سبعة ولدُوا بمكة ، وخمسة بالطائف . وقال مقاتل : كانوا سبعة أسلم منهم ثلاثةٌ : خالد ، وهشام ، والوليد بن الوليد ، قال : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك قال ابن الخطيب كانوا سبعة الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص ، وعبد القيس ، وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة : خالد ، وعمارة ، وهشام . قوله : { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } ، أي : بسطتُ له في العيش بسطاً في الجاه العريض والرياسة في قومه . والتميهدُ عند العرب : التوطئة والتهيئة . ومنه : مهدُ الصبيّ . وقال ابن عباس : { ومَهَّدتُ لهُ تَمْهِيداً } أي : وسعَّتُ له ما بين " اليمن " إلى " الشام " ، وهو قول مجاهدٍ وعن مجاهد أيضاً : أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش . قوله تعالى : { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ } . لفظة " ثُمَّ " - هاهنا - معناها : التعجب كقولك لصاحبك : أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني ، ونظيره : قوله تعالى : { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، فمعنى " ثُمَّ - هاهنا - الإنكارُ والتعجبُ ، أي : ثم الوليد يطمعُ بعد هذا كله أن أزيدهُ في المالِ والولدِ ، وقد كفر بِي ! قاله الكلبي ومقاتل ، ثم قال : " كَلاَّ " ليس يكون ذلك مع كفرهِ بالنعمِ . قال الحسنُ وغيره : أي : ثُمَّ يطمعُ أن أدخلهُ الجنة ، وكان الوليد يقولُ : إنْ كَانَ محمدٌ صادقاً فما خلقتِ الجنة إلا لي ، فقال الله عزَّ وجلَّ رداً عليه وتكذيباً له : " كلاَّ " لستُ أزيدهُ ، فلمْ يزلْ في نقصانٍ بعد قوله : " كلاَّ " حتى افتقر ومات فقيراً . وقيل : أي : ثم يطمع أن أنصره على كفره ، " كَلا " قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة ، فيكون متصلاً بالكلام الأول . وقيل : " كَلاَّ " بمعنى " حقاً " ، ويبتدىء بقوله " إنَّهُ " يعني الوليد { كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } ، أي : معانداً للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به . قال الزمخشريُّ : { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا } استئناف جواب لسائل سأل : لم لا يزداد مالاً ، وما باله ردع عن طبعه ؟ . فأجيب بقوله : { إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً } ، انتهى . فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة : " إنَّها ليْسَتْ بنجسٍ ، إنَّها مِنَ الطوَّافِيْنَ عَليْكُمْ " . والعنيد : المعاند . يقال : عاند فهو عنيد وعانِد ، والمعاند : البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد ، والجمع : عند مثل : " راكع وركع " ، قاله أبو عبيدة ؛ وأنشد قول الحازميِّ : [ الرجز ] @ 4959 - إذَا رَكبتُ فاجْعَلانِي وَسَطا إنَّي كَبِيرٌ لا أطيقُ العُنَّدا @@ وقال أبو صالح : " عنيداً " معناه : مباعداً ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 4960 - أرَانَا على حَالٍ تُفَرِّقُ بَيْنَنا نَوّى غُرْبَةٌ إنَّ الفِراقَ عَنُودُ @@ وقال قتادة : جاحداً . وقال مقاتل : معرضاً . وقيل : إنه المجاهر بعداوته . وعن مجاهد : أنه المجانب للحق . قال الجوهري : ورجل عنود : إذا كان لا يخالط الناس ، والعنيد من التجبر ، وعرق عاند : إذا لم يرقأ دمه ، وجمع العنيد عُنُد مثل رغيف ورغف ، والعنود من الإبل : الذي لا يخالط الإبل إنما هو في ناحية ، والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير . فصل في بيان فيما كانت المعاندة في الآية إشارة إلى أنه كان يعاند في أمور كثيرة : منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد ، والعدل ، والقدرة ، وصحة النبوة وصحة البعث . ومنها : أن كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه . وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر . ومنها : أن قوله " كان " يدل على أن هذه حرفته من قديم الزمان . ومنها : أن هذه المعاندة ، كانت مختصة منه بآيات الله تعالى . قوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } ، أي : سأكلفه ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : سألجئه ، والإرهاق في كلام العرب : أن يحمل الإنسان الشيء . والصعود : جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ، ثم يهوي به كذلك فيه أبداً . رواه الترمذي . وفي رواية : صخرة في جهنم ، إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت ، فإذا رفعوها عادت . وقيل : هذا مثل لشدة العذاب الشاق الذي لا يطاق ، كقوله : عقبة صعود وكؤود ، أي : شاقة المصعدِ . ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده ، وهو قوله تعالى : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } : يجوز أن يكون استئناف تعليل لقوله تعالى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } ، ويجوز أن يكون بدلاً من { إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً } . يقال : فكر في الأمر ، وتفكر إذا نظر فيه وتدبر ، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاماً وهيأه ، وهو المراد من قوله " وقَدَّرَ " . والعرب تقول : قدرت الشيء إذا هيأته . فصل في معنى الآية معنى الآية : أن الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن لما نزل : { حـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [ غافر : 1 - 3 ] ، سمعه الوليد يقرأها ، فقال : والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجنِّ ، وإنَّ له لحلاوة ، وإنَّ عليه لطلاوة ، وإنَّ أعلاه لمثمر ، وإنَّ أسفله لمغدق وإنه ليعلو ، وما يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر ، فقالت قريش : صبأ الوليد لتصبونَّ قريش كلها ، وكان يقال للوليد : ريحانة قريش ، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق إليه حزيناً ، فقال له : ما لي أراك حزيناً ، فقال : وما لي لا أحزن ، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينوك بها ، ويزعمون أنك زينت كلام محمدٍ ، وتدخل على ابن أبي كبشة ، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما ، فغضب الوليدُ - لعنهُ الله - وتكبَّر ، وقال : أنا أحتاجُ إلى كسرِ محمدٍ وصاحبه ، وأنتم تعلمون قدر مالي ، واللاتِ والعُزَّى ما بي حاجةٌ إلى ذلك وأنتم تزعمُون أن محمداً مجنون ، فهل رأيتموه قط يخنق ؟ . قالوا : لا والله ، قال : وتزعمون أنه كاهنٌ ، فهل رأيتموه تكهن قط ؟ ولقد رأينا للكهنةِ أسجاعاً وتخالجاً ، فهل رأيتموهُ كذلك ؟ . قالوا : لا والله . وقال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط ؟ قالوا : لا والله . قال : وتزعمون أنه كذَّاب ، فهل جريتمْ عليه كذباً قط ؟ . قالوا : لا والله . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسمَّى الصادق والأمين من كثرة صدقه ، فقالت قريش للوليدِ : فما هو ؟ ففكّر في نفسه ثم نظر ثم عبس ، فقال : ما هذا إلا سحرٌّ أما رأيتموه يفرق بين الرجل وولده فذلك قوله تعالى : { إِنَّهُ فَكَّرَ } أي في أمر محمدٍ والقرآن " وقدر " في نفسه ماذا يمكنهُ أن يقول فيهما . قوله : { فَقُتِلَ } ، أي : لعنَ . وقيل : قُهِرَ وغلبَ . وقال الزهري : عذب ، وهو من باب الدعاء . قال ابن الخطيب : وهذا إنما يذكرُ عند التعجب والاستعظام . ومثله قولهم : قتلهُ اللَّهُ ما أشجعهُ ، وأخزاه الله ما أفجره ، ومعناهُ : أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسدهُ بذلك ، وإذا عرف ذلك ، فنقول : هنا يحتملُ وجهين : الأول : أنه تعجب من قوة خاطره ، يعني أنه لا يمكن القدحُ في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم بشبهةٍ أعظم ولا أقوى مما ذكرهُ هذا القائلُ . الثاني : الثناءُ عليه على طريقةِ الاستهزاء ، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط . قوله : { كَيْفَ قَدَّرَ } ، أي : كيف فعل هذا ، كقوله تعالى : { ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ } [ الإسراء : 48 ] ثم قيل : بضرب آخر من العقوبة . " كيف قدَّر " على أيّ حال قدَّر . " ثم نظر " بأي شيء يردّ الحق ويدفعهُ . قال ابن الخطيب : والمعنى أنه أولاً فكّر . وثانياً : قدَّر . وثالثاً : نظر في ذلك المقدرِ ، فالنظر السابق للاستخراج ، والنظر اللاحق لتمام الاحتياطِ ، فهذه المرات الثلاث متعلقة بأحوال ثلاث . قوله تعالى : { ثُمَّ عَبَسَ } ، يقال : عبس يعبس عبساً ، وعبوساً : أي : قطب وجهه . وقال الليث : عبس يعبس فهو عبس إذا قطب ما بين عينيه ، فإذا أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح ، فإن اهتم لذلك ، وفكر فيه قيل : بسر ، فإن غضب مع ذلك قيل بسل . واعلم أنه ذكر صفات جسمه بعد صفات قلبه ، وهذا يدل على عناده ، لأن من فكر في أمر حسن يظهر عليه الفرح لا العبوس ، والعبس أيضاً : ما يبس في أذناب الإبل من البعر ، والبول ؛ قال أبو النجم : [ الرجز ] @ 4961 - كَأنَّ في أذْنابِهنَّ الشُّوَّلِ مِنْ عبسِ الصَّيفِ قُرونَ الأُيَّلِ @@ فصل في معنى الآية معنى الآية : قطب وجهه في وجوه المؤمنين ، وذلك أنه لما قال لقريش محمداً ساحر مرَّ على جماعة من المسلمين ، فدعوه إلى الإسلام ، فعبس في وجوههم . وقيل : عبس على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه ، والعبس : مصدر " عبس " مخففاً " ، كما تقدم . قوله : " وَبَسَرَ " ، يقال : بَسَر يَبسُرُ بسراً وبُسُوراً " إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه ، يقال : وجه باسر ، أي منقبض مسود كالح متغير اللون ، قاله قتادة والسدي ؛ ومنه قول بشير بن الحارث : [ المتقارب ] @ 4962 - صَبَحْنَا تَمِيماً غَداةَ الجِفارِ بِشهْبَاءَ ملمُومةٍ بَاسِرَهْ @@ وأهل اليمن يقولون : بسر المركب بسراً ، أي : وقف لا يتقدم ، ولا يتأخر ، وقد أبسرنا : أي صرنا إلى البسور . وقال الراغب : البسر استعجال الشيء قبل أوانه ، نحو : بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها ، وماء بسر متناول من غديره قبل سكونه ، ومنه قيل للذي لم يدرك من التمر : بسر ، وقوله تعالى : { عَبَسَ وَبَسَرَ } ، أي : أظهر العبوس قبل أوانه ، وقبل وقته . قال : فإن قيل : فقوله تعالى : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [ القيامة : 24 ] ، ليس يفعلون ذلك قبل الموت ، وقد قلت : إن ذلك يكون فيما يقع قبل وقته . قيل : أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار ، فخص لفظ البسر تنبيهاً على أن ذلك مع ما ينالهم من بعد ، يجري مجرى التكلف ، ومجرى ما يفعل قبل وقته ، ويدل على ذلك { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 25 ] . وقد عطف في هذه الجمل بحروف مختلفة ، ولكل منها مناسبة ، أما ما عطف بـ " ثُمَّ " فلأن بين الأفعال مهلة ، وثانياً : لأن بين النظر ، والعبوس ، وبين العبوس ، والإدبار تراخياً . قال الزمخشريُّ : و " ثمّ نظر " عطف على " فكَّر " و " قدَّر " ، والدعاء اعتراض بينهما ، يعني بالدعاء قوله : " فَقُتِل " ، ثم قال : فإن قلت : ما معنى " ثُمَّ " الداخلة على تكرير الدعاء ؟ . قلت : الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ؛ ونحوه قوله : [ الطويل ] @ 4963 - ألاَ يَا اسْلمِي ثُمَّ اسْلمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي … @@ فإن قلت : ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها ؟ . قلت : للدلالة على أنه تأنَّى في التأمل ، والتمهل ، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخٍ ، وتباعد ، فإن قلت : فلم قال : " فَقالَ " - بالفاء - بعد عطف ما قبله بـ " ثُمَّ " ؟ . قلت : لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث ، فإن قلت : فلم لم يتوسط حرف العطف بين الجملتين ؟ . قلت : لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التأكيد من المؤكد . قوله تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ } ، أي : ولى وأعرض ذاهباً عن سائر الناس إلى أهله . { وَٱسْتَكْبَرَ } حين دعي إلى الإيمان ، أي : تعظم . { إن هذا } أي : ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } ، أي : تأثره عن غيره . والسحر : الخديعة . وقيل : السحر إظهار الباطل في صورة الحق . والأثر : مصدر قولك : أثرت الحديث آثره ، إذا ذكرته عن غيرك ؛ ومنه قيل : حديث مأثور ، أي : ينقله خلف عن سلف ؛ قال الأعشى : [ السريع ] @ 4964 - إنَّ الَّذي فيه تَمَاريْتُمَا بُيِّنَ للسَّامِع والآثِرِ @@ قال ابن الخطيب : فيه وجهان : الأول : أنه من قولهم : أثرت الحديث آثره ، أَثراً ، إذا حدثت به عن قوم في آثارهم ، أي : بعدما ماتوا ، هذا هو الأصل ، ثم صار بمعنى الرواية عما كان . والثاني : يؤثر على جميع السحر ، وهذا يكون من الإيثارِ . وقال أبو سعيد الضرير : يؤثر ، أي : يُورَثُ . قوله تعالى : { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } ، أي : هذا إلا كلام المخلوقين تختدع به القلوب كما يخدع بالسحر . قال ابن الخطيب : ولو كان الأمر كذلك لتمكنوا من معارضته إذا طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة . قال السديُّ : يعني أنه من قول سيَّار عبد لبني الحضرمي ، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك . وقيل : إنه أراد أنه تلقنه ممن ادعى النبوة قبله ، فنسج على منوالهم . قال ابن الخطيب وهذا الكلام يدل على أن الوليد كان يقولُ هذا الكلام عناداً ، لما روي في الحديث المتقدم : " أنه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم " حم " ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لقد سمعتُ من محمدٍ كلاماً ، ليس من كلام الجنِّ ، ولا من كلام الإنس " الحديث ، فلمَّا أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن قوله - هاهنا - : { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } ، إنَّما ذكره عناداً ، أو تمرداً لا اعتقاداً . قوله تعالى : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } هذا بدل من قوله تعالى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } . قاله الزمخشري . فإن كان المراد بالصعود : المشقة ، فالبدل واضح ، وإن كان المراد : صخرة في جهنم - كما جاء في التفسير - فيعسر البدل ، ويكون فيه شبه من بدل الاشتمال ، لأن جهنم مشتملة على تلك الصخرة . فصل في معنى الآية المعنى : سأدخله سقر كي يصلى حرها ، وإنما سميت " سَقَرَ " من سقرته الشمس : إذا أذابته ولوحته ، وأحرقت جلدة وجهه ، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث قال ابن عباس : " سقر " اسم للطبقة السادسة من " جهنم " . { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } . هذا مبالغة في وصفها ، أي : وما أعلمك أي شيء هي ؟ . وهي كلمة تعظيم ، وتهويل ، ثم فسر حالها ، فقال - جل ذكره - : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } أي : لا تترك لهم لحماً ، ولا عظماً ، ولا دماً إلا أحرقته . قوله : { لاَ تُبْقِي } ، فيها وجهان : أحدهما : أنها في محل نصب على الحال ، والعامل فيها معنى التعظيم ، قاله أبو البقاء . يعني أن الاستفهام في قوله : " مَا سَقَرُ " للتعظيم ، والمعنى : استعظموا سقر في هذه الحال . ومفعول " تُبْقِي " ، وتَذرُ " محذوف أي لا تبقي ما ألقي فيها ، ولا تذره ، بل تهلكه . وقيل : تقديره لا تُبْقِي على من ألقي فيها ، ولا تذر غاية العذاب إلا وصلته إليه . والثاني : أنها مستأنفة . قال ابن الخطيب : واختلفوا في قوله : { لا تبقي ولا تذر } . فقيل : هما لفظان مترادفان بمعنى واحد ، كرر للتأكيد والمبالغة ، كقولك صدَّ عني وأعرض عني ، بل بينهما فرق ، وفيه وجوه : الأول : لا تبقي من اللحم ، والعظم ، والدم شيئاً ، ثم يعادون خالقاً جديداً ، " ولا تَذرُ " أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت ، وهكذا أبداً ، رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقال مجاهد : لا تبقي فيها حياً ولا تذره ميتاً بل تحرقهم كلما جُدِّدوا . وقال السديّ : لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً . وقيل : لا تبقي من المعذبين ، ولا تذر من فوقها شيئاً ، إلا تستعمل تلك القوة في تعذيبهم . قوله تعالى : { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } ، قرأ العامة : بالرفع ، خبر مبتدأ مضمر ، أي هي لواحة ، وهذه مقوية للاستئناف في " لا تُبقِي " . وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة وزيد بن علي وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر : بنصبهما على الحال ، وفيها ثلاثة أوجه : أحدها : أنها حال من " سَقرُ " ، والعامل معنى التعظيم كما تقدم . والثاني : أنها حال من " لا تُبْقِي " . والثالث : من " لا تَذرُ " . وجعل الزمخشري : نصبها على الاختصاص للتهويل . وجعلها أبو حيان حالاً مؤكدة . قال : " لأن النار التي لا تبقي ولا تذر ، لا تكون إلاَّ مُغيرة للأبشار " . و " لوَّاحةٌ " هنا مبالغة ، وفيها معنيان : أحدهما : من لاح يلوح ، أي : ظهر ، أي : أنها تظهر للبشر ، [ وهم الناس ، وإليه ذهب الحسن وابن كيسان ، فقال : " لوَّاحةٌ " أي : تلوح للبشر ] من مسيرة خمسمائة عام ، وقال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً ، ونظيره : { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } [ النازعات : 36 ] . والثاني : وإليه ذهب جمهور الناس ، أنها من لوّحه أي : غيَّرهُ ، وسوَّدهُ . قال الشاعر : [ الرجز ] @ 4965 - تقُولُ : ما لاحَكَ يا مُسَافِرُ يَا بْنَةَ عَمِّي لاحَنِي الهَواجِرُ @@ وقال رؤبة بن العجَّاج : [ الرجز ] @ 4966 - لُوِّحَ مِنْهُ بَعْدَ بُدْنٍ وسَنَقْ تَلْويحكَ الضَّامرَ يُطْوى للسَّبَقْ @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 4967 - وتَعْجَبُ هِنْدٌ إنْ رأتْنِي شَاحِباً تقُولُ لشَيءٍ لوَّحتهُ السَّمائمُ @@ ويقال : لاحَهُ يلُوحُه : إذا غير حليته . قال أبو رزين : تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل ، قال تعالى : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [ المؤمنون : 104 ] . وطعن القائلون بالأول في هذا القول ، فقالوا : لا يجوز أن يصفهم بتسويد الوجوهِ ، مع قوله : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } . وقيل : اللوح شدة العطش ، يقال : لاحه العطش ولوحه : أي غيره ، قال الأخفش : والمعنى أنها معطشة للبشر ، أي : لأهلها ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 4968 - سَقَتْنِي على لَوْحِ من المَاءِ شَرْبةً سَقَاهَا بِه اللَّهُ الرِّهامَ الغَوادِيَا @@ يعني باللوح : شدة العطش . والرهام جمع رهمة - بالكسر - وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة : أتت بالرهام . واللُّوح - بالضم - الهواء بين السماء والأرض ، والبشر : إما جمع بشرة ، أي : مغيرة للجلود . قاله مجاهد وقتادة ، وجمع البشر : أبشار ، وإما المراد به الإنس من أهل النار ، وهو قول الجمهور . واللام في " البشر " : مقوية ، كهي في { لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] . وقراءة النصب في " لوَّاحَةً " مقوية ، لكون " لا تُبْقِي " في محل الحال . قوله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } ، هذه الجملة فيها الوجهان : أعني : الحالية ، والاستئناف وفي هذه الكلمة قراءات شاذة ، وتوجيهات مشكلة . فقرأ أبو جعفر وطلحة : " تِسعَة عْشرَ " - بسكون العين من " عشر " ؛ تخفيفاً ؛ لتوالي خمس حركات من جنس واحد ، وهذه كقراءة { أَحَدَ عَشْرَ كَوْكباً } [ يوسف : 4 ] وقد تقدمت . وقرأ أنس وابن عباس رضي الله عنهما " تِسعَةُ عشَر " بضم التاء ، " عَشَر " بالفتح . وهذه حركة بناء ، لا يجوز أن يتوهم كونها إعراباً ، إذ لو كانت للإعراب لجعلت في الاسم الأخير لتنزل الكلمتين منزلة الكلمة الواحدة ، وإنما عدل إلى التسكين كراهة توالي خمس حركات . وعن المهدوي : " من قرأ : " تِسْعَةُ عَشَرْ " فكأنه من التداخل ، كأنه أراد العطف ، فترك التركيب ، ورفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء ، وأسكن " انتهى . فجعل الحركة للإعراب ، ويعني بقوله : أسكن راء " عَشَرْ " فإنه في هذه القراءة كذلك . وعن أنس - رضي الله عنه - أيضاً : " تِسْعَةُ أعْشُرٍ " بضم " تِسْعَة " و " أعْشُر " بهمزة مفتوحة ، ثم عين ساكنة ، ثم شين مضمومة ، وفيها وجهان : قال أبو الفضل : يجوز أن يكون جمع " العشيرة " على " أعْشُر " ، ثم أجراه مجرى " تِسْعَة عشر " . وقال الزمخشريُّ : جمع " عَشِير " مثل : يَمِين وأيْمُن . وعن أنس - أيضاً - : " تِسْعَةُ وعْشُرْ " بضم التاء وسكون العين وضم الشين وواو مفتوحة بدل الهمزة . وتخريجها كتخريج ما قبلها ، إلا أنه قلب الهمزة واواً مبالغة في التخفيف ، والضمة - كما تقدم - للبناء لا للإعراب . ونقل المهدوي : أنه قرىء : " تِسْعَةٌ وعَشْرْ " ، قال : " فجاء به على الأصل قبل التركيب وعطف " عَشْر " على " تِسْعَة " ، وحذف التنوين ، لكثرة الاستعمال ، وسكون الراء من " عشر " على نية الوقف " . وقرأ سليمان بن قتة : بضم التاء وهمزة مفتوحة ، وسكون العين ، وضم الشين وجر الراء من " أعْشُرٍ " . والضمة على هذا ضمة إعراب ، لأنه أضاف الاسم لها بعده فأعربهما إعراب المتضايفين وهي لغة لبعض العرب يفكون تركيب الأعداد ، ويعربونها كالمتضايفين ؛ كقوله : [ الرجز ] @ 4969 - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوتِهْ بِنْتَ ثَمانِي عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ @@ قال أبوالفضل : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ : " أعشر " مبنياً ، أو معرباً من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذي هم على " سَقَر " تسعون ملكاً . فصل في معنى الآية معنى الآية : أنه يلي أمر تلك النار تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها . قيل : هم خزنة النار ، مالك وثمانية عشر ملكاً . وقيل : التسعة عشر نقيباً ، وقال أكثر المفسرين : تسعة عشر ملكاً بأعيانهم . قال القرطبي : وذكر ابن المبارك عن رجل من بني تميم ، قال كنا عند أبي العوام . فقرأ هذه الآية ، فقال : ما تسعة عشر تسعة عشر ألف ملك أو تسعة عشر ملكاً ؟ قال : قلت : لا بل تسعة عشر ملكاً ، قال : وأنى تعلم ذلك ؟ فقلت : لقول الله - عز وجل - : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المدثر : 31 ] قال : صدقت ، هم تسعة عشر ملكاً . قال ابنُ جريج : نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعْينُهُمْ كالبَرْقِ ، وأنْيابُهمْ كالصَّيَاصي ، وأشْعارُهمْ تَمَسُّ أقْدامَهُمْ يَخرجُ لهَبُ النَّارِ مِنَ أفْواهِهِمْ " ، الحديث . قال ابن الأثير : " الصَّياصِي : قرون البقر " . وروى الترمذي عن عبد الله قال : " قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قالوا : لا ندري حتى نسأله فجاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم ، فقال : وبماذا غلبوا ؟ . قال : سألهم يهود ، هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ . قال : فماذا قالوا ؟ قال : فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم : أيغلب قومٌ سئلوا عما لا يعلمون ، فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، عليّ بأعداء الله ، إني سائلهم عن تربة الجنة ، وهي الدرمك ، فلما جاءوا ، قالوا : يا أبا القاسم ، كم عدد خزنة جهنم ؟ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هَكذَا ، وهَكذَا " ، في مرة عشرة ، وفي مرة تسعة ، قالوا : نعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تُربَةُ الجنَّةِ " ؟ فسكتوا ، ثم قالوا : أخبرنا يا أبا القاسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الخُبْزُ مِنَ الدَّرْمكِ " . قال ابن الأثير : الدرمك : هو الدقيق الحوارى . قال القرطبيُّ : الصحيح - إن شاء الله - أن هؤلاء التسعة عشر ، هم الرؤساء ، والنقباء ، وأما جملتهم فكما قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] ، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُؤتَى بجَهنَّم يَومئِذٍ ، لها سبعُونَ ألفَ زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجُرُّونهَا " . وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : لما نزل قوله - عز وجل - { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمعُ ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم : " تسعة عشر " وأنتم الدهماء - أي العدد العظيم - والشجعان ، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم . قال السدي : فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة ، ثم تمرون إلى الجنة ، يقولها مستهزءاً . وفي رواية : أن الحارث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين ، فلما قال أبو الأسود ذلك ، قال المسلمون : ويحكم ، لا يقاس الملائكة بالحدادين ، فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا تساوي بينهما ، ومعناه : لا يقاس الملائكة بالسجّانين ، والحداد : السجان . فصل في تقدير عدد الملائكة ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً : منها ما قاله أرباب الحكمةِ : أنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية ، هو القوى الحيوانية والطبيعية ، فالقوى الحيوانية : فهي الخمسة الظاهرة ، والخمسة الباطنة ، والشَّهوة ، والغضب فهذه اثنا عشر ، وأما القوى الطبيعية : فهي الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة والعادية ، والنافية ، والمولدة ، فالجموع تسعة عشر ، فلما كانت هذه منشآت الآفات لا جرم كان عدد الزبانية هكذا . ومنها : أن أبو جهنم سبعة ، فستة منها للكفار وواحد للفسَّاق ، ثم إنَّ الكفَّار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد ، وترك الإقرار ، وترك العمل ، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة ، فالمجموع : ثمانية عشر . وأما باب الفساق : فليس هناك إلا ترك العمل ، فالمجموع : تسعة عشر مشغولة بغير العبادة ، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر .