Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 74, Ayat: 1-7)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } ؛ يا أيها الذي قد دثر ثيابه ، أي : تغشى بها ونام . وقرأ العامة : بتشديد الدال وكسر الثاء ، اسم فاعل من " تدثَّر " وأصله : المتدثر فأدغم كـ " المزمّل " . وفي حرف أبي : " المتدثر " على الأصل المشار إليه . وقرأ عكرمة : بتخفيف الدال ، اسم فاعل من " دثّر " - بالتشديد - ويكون المفعول محذوفاً أي : المدثر نفسه ، كما تقدم . وعنه أيضاً : فتح الثاء . ومعنى " تَدثَّر " لبس الدِّثَار ، وهو الثوب الذي فوق الشِّعار ، " والشِّعَار " : ما يلي الحسد ، وفي الحديث : " الأنْصَارُ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ " . و " سيف دَاثِر " : بعيد العَهْد الصِّقال . ومنه قيل للمنزل الدارس : داثر لذهاب أعلامه وفلان داثرُ المال ، أي : حسن القيام به . قوله : " قُمْ " إما أن يكون من القيام المعهود ، فيكون المعنى : قم من مضجعك ، وإما من " قام " بمعنى الأخذ في القيام ، كقوله : [ الطويل ] @ 4944 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسيْفِهِ … @@ وقوله : [ الوافر ] @ 4945 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ … @@ في أحد القولين ، فيكون المعنى : قيام عزم وتصميم ، والقول الآخر : أن " قام " مزيدة ، وفي جعلها بمعنى الأخذ في القيام نظر ؛ لأنه حينئذ يصير من أخوات " عَسَى " فلا بد له من خبر يكون فعلاً مضارعاً مجرداً . قوله : { فَأَنذِرْ } ، مفعوله محذوف ، أي : أنذر قومك عذاب الله ، والأحسن أن لا يقدر له ، أي : أوقع الإنذار . فصل في معنى الآية المعنى : يا أيها الذي قد دُثِّر ثيابه ، أي : تغشى بها ونام . وقيل : ليس المراد التدثر بالثوب ، فإن قلنا التدثر ، ففيه وجوه : أحدها : أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن . روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كُنْتُ عَلى جَبلِ حِراءَ ، فنُودِيتُ يا مُحَمَّدُ ، إنَّكَ لرَسُولٌ ، فنَظرْتُ عَنْ يَمِينِي ، ويسَارِي ، فَلمْ أرَ أحَداً فنَظرْتُ فَوْقِي فَرأيتُ المَلكَ الذي جَاءَنِي بحِراءَ جَالِساً عَلى كُرسِي بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ ، فَخِفْتُ فَرجَعْتُ إلى خَدِيْجَةَ ، فقلتُ : دَثِّرُوني ، وصبُّوا عليَّ ماءاً بارداً " فأنزلَ اللَّهُ تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } . وثانيها : أن أبا جهل ، وأبا لهب ، وأبا سفيان ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وأميَّة بن خلف ، والعاص بن وائل والمطعم بن عدي ، اجتمعوا وقالوا : إنَّ وفود العرب مجتمعون في أيام الحج ، وهم يسألون عن أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقد اختلفتم في الإخبار عنه ، فمن قائل هو مجنون . وقائل : كاهن . وقائل : ساحر ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد ، فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة ، فسمُّوا محمداً باسم واحد يجتمعون عليه ، وتسميه العرب به فقدم رجل منهم فقال : إنه شاعر ، فقال الوليد : سمعت كلام عبيدة بن الأبرص [ وكلام أمية بن أبي الصلت ، وكلامه ما يشبه كلامهما ، فقالوا : كاهن : فقال : ] الكاهن يصدق ويكذب ، وما كذب محمد صلى الله عليه وسلم قط ، فقال آخر : إنه مجنون ، فقال الوليد : الجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط ، ثم قام الوليد فانصرف إلى بيته ، فقال الناس : صبأ الوليد بن المغيرة ، فدخل عليه أبو جهل فقال : ما لك يا أبا عبد شمس ، هذه قريش تجمع لك شيئاً يعطونكه ، زعموا أنك قد احتجت وصبأت ، فقال الوليد : ما لي إليه حاجة ، ولكني فكرت في محمد ، فقلت : إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين المرأة وزوجها ، فشاع ذلك في الناس ، فصاحوا يقولون : محمد ساحر والناس مجتمعون ، فوقعت الصيحةُ في الناس فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزوناً ، فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } . وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً ، متدثراً بثيابه ، فجاءه جبريل - عليه السلام - وأيقظه - عليه الصلاة والسلام - ، وقال : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } كأنه قال : اترك التدثر بالثياب ، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله تعالى له . وإن قلنا : ليس المراد منه التدثر بالثياب ففيه وجوه : الأول : قال عكرمة : يا أيها المدثر بالنبوة ، والرسالة انْقُلْها ، من قولهم : ألبسه اللَّهُ لباس التقوى وزيَّنَهُ برداء العلم . قال ابن العربي : " وهذا مجاز بعيد ، لأنه لم يكن تنبأ بعد ، وإن قلنا : إنها أول القرآن لم يكن نبياً بعد إلا إن قلنا : إنها ثاني ما نزل " . الثاني : أن المدثر بالثوب يكون كالمتخفي فيه ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان في جبل حراء كالمتخفي من النَّاس ، فكأنه قال : يا أيها المدثِّر بدثار الاختفاء قم بهذا الأبر واخرج من زاوية الخمول ، واشتغل بإنذار الخلق ، والدعوة إلى معرفة الحقِّ . الثالث : أنه تعالى جعله رحمة للعالمين ، فكأنه قيل له : يا أيها المدثِّر بأثواب العلم العظيم ، والخلق الكريم ، والرحمة الكاملة : " قُمْ فأنْذِرْ " عذاب ربّك . فصل في لطف الخطاب في الآية قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته ، ولم يقل : يا محمدُ ، كما تقدم في المزمل . فصل في معنى " فأنذر " ومعنى قوله تعالى : { فَأَنذِرْ } ، أي : خوِّف أهل مكة ، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا . وقيل : الإنذار هنا : إعلامهم بنوته - عليه السلام - لأنها مقدمة الرسالة . وقيل : هو دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود . وقال الفراء : قم فصلِّ ومر بالصلاة . قوله : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } ، قدم المفعول ، وكذا ما بعد ، إيذاناً بالاختصاص عند من يرى ذلك ، أو للاهتمام به . قال الزمخشري : " واختص ربَّك بالتكبير " . ثم قال : " ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : ومهما تكن فلا تدع تكبيره " وقد تقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة عند قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] . قال أبو حيان : " وهو قريب مما قدره النحاة في قولك : " زيداً فاضرب " ، قالوا : تقديره : " تنبَّهْ فاضرب زيداً " فالفاء هي جواب الأمر ، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط ، وإما الشرط محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة " . قال أبو الفتح الموصلي : يقال : " زيداً اضرب ، وعمراً اشكر " وعنده أن الفاء زائدة . وقال الزجاج : ودخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية ، والمعنى : قم فكبِّر ربَّك ، وكذلك ما بعده . فصل في معنى الآية معنى قوله : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } ، أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظمه ، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة ، أو ولد ، وفي الحديث : أنهم قالوا : بم تفتتح الصلاة ؟ فنزلت : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } . أي : صفه بأنه أكبر . قال ابن العربي : وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة فإنه مراد به تكبيره بالتقديس ، والتنزيه بخلع الأنداد ، والأصنام دونه ، ولا تتخذ ولياً غيره ، ولا تعبد سواه ، وروي " أن أبا سفيان قال يوم أحد : " أعْلُ هُبَل " ، فقال : صلى الله عليه وسلم " قُولُواْ اللَّهُ أعْلَى وأجَلُّ " وقد صار هذا القول بعرف الشرع في تكثير العبادات كلها أذاناً ، وصلاة بقوله " اللَّهُ أكبرُ " وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد منها قوله : " تَحْريمُهَا التَّكبيرُ ، وتحْلِيلُهَا التَّسلِيمُ " ، والشَّرعُ يقتضي معرفة ما يقتضي بعمومه ، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح تخليصاً له من الشرك ، وإعلاناً باسمه بالنسك ، وإفراداً لما شرع من أمره بالسفك . والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير في الصلاة هو لفظ " اللَّهُ أكبَرُ " . وقال المفسرون : لما نزل قوله تعالى : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال : اللَّهُ أكبر ، فكبرت خديجة - رضي الله عنها - وعلمت أنه وحي من الله تعالى ذكره القشيري . وقال الكلبيُّ : فعظم ربَّك عما يقوله عبدة الأوثان . قال مقاتل : هو أن يقال : الله أكبر . وقيل : المرادُ منه التكبير في الصلاة . فإن قيل : هذه السورة نزلت في أول البعث ، ولم تكن الصلاة واجبة . فالجواب : لا يبعد أنه كانت له - عليه الصلاة والسلام - صلوات تطوع فأمر أن يُكبِّر ربَّه فيها قال ابن الخطيب : وعندي أنه لما قيل له : { قُمْ فَأَنذِرْ } قيل بعد ذلك { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } عن اللغو والرفث . قوله : { وَثَيَابَكَ فَطَهِّرْ } . قيل : المراد الثياب الملبوسة ، فعلى الأول يكون المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد والسديُّ ، وروى منصور عن أبي رزين ، قال : يقول : وعملك فأصلح . وإذا كان الرجل خبيث العمل ، قالوا : إن فلاناً خبيث الثيابِ ، وإذ كان الرجل حسن العمل ، قالوا : إنَّ فلاناً طاهر الثياب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يَحْشرُ المَرءُ فِي ثَوبَيْهِ الَّذي مَاتَ فِيْهِمَا " يعني : عمله الصالح والطالح ، ذكره الماوردي . ومن قال المراد به القلب ، قلبك فطهر ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهما ؛ ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ] @ 4946 - … فَسُلِّي ثِيَابِي مِن ثِيابكِ تَنْسُلِ @@ أي : قلبي من قلبك . قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان : أحدهما : المعنى : وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي قاله ابن عباس وقتادة . الثاني : وقلبك فطهر من القذر ، أي : لا تقذر فتكون دنس الثياب وهو ما يروى عن ابن عباس أيضاً ، واستشهدوا بقوله غيلان بن سلمة الثقفي : [ الطويل ] @ 4947 - فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرةٍ أتقنَّعُ @@ ومن قال : المراد به النفس ، قال : معناه ونفسك فطهر ، أي : من الذنوب ، والعرب تكني عن النفس بالثياب . قاله ابن عباس - رضي الله عنه - ؛ ومنه قول عنترة : [ الكامل ] @ 4948 - فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثِيابَهُ لَيْسَ الكرِيمُ على القَنَا بِمُحَرَّمِ @@ وقول امرىء القيس المتقدم . ومن قال : بأنه الجسم قال : المعنى وجسمك فطهر من المعاصي الظاهرة ، ومنه قول ليلى تصف إبلاً : [ الطويل ] @ 4949 - رَموْهَا بأثْوابٍ خِفافٍ فلا تَرَى لَهَا شَبَهاً إلاَّ النَّعامَ المُنفَّرَا @@ أي : ركبوها فرموها بأنفسهم . ومن قال : المراد به الأهل ، قال : معناه : وأهلك طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب ، والعرب تسمي الأهل ثوباً وإزاراً ولباساً ، قال تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] . قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان : الأول : معناه : ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف . الثاني : الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر في الطهر إلا في الحيض حكاه ابن بحر . قال ابن الخطيب : " وحمل الآية على هذا التأويل يعسر لأنه على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها " . ومن قال المراد به الخلق قال معناه : وخلقك فحسِّنْ قاله الحسن والقرظي ؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 4950 - فَلاَ أبَ وابْناً مِثْلَ مَرْوانَ وابْنِهِ إذَا هُوَ بالمَجْدِ ارتَدَى وتَأزَّرَا @@ والسبب في حسن هذه الكناية وجهان : الأول : أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوا الأثواب كناية عن الإنسان ، فيقال : المجد في ثوبه والعفة في إزاره . الثاني : أنه من طهر باطنه غالباً طهر ظاهره ، ومن قال : المراد به الدين فمعناه : ودينك فطهر . جاء في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ورأيتُ النَّاس وعَلَيْهِمْ ثِيابٌ مِنْهَا ما يَبلغُ الثُّدِيَّ ، ومِنْهَا دونَ ذلِكَ ، ورَأيْتُ عُمر بن الخطَّاب ، وعليْهِ إزارٌ يُجُرُّهُ ، قالوا : يا رسُولَ اللَّهِ فَمَا أوَّلتَ ذلِكَ ؟ قال : الدِّينُ " . وروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في قوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : معناه لا تلبس ثيابك على عذرة ؛ قال ابن أبي كبشة : [ الطويل ] @ 4951 - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارَى نَقيَّةٌ وأوْجُهُهمْ عِنْدَ المُشاهدِ غُرَّانُ @@ يعني بطهارة ثيابهم : سلامتهم عن الدناءات ويعني بعزة وجوههم : تنزيههم عن المحرمات ، أو جمالهم في الخلقة ، أو كليهما . قاله ابن العربي . وقال سفيانُ بن عيينة : لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم ، قاله عكرمة . ومن قال : إن المراد به الثياب الملبوسة ، فلهم أربعة أوجهٍ : الأول : وثيابك فأنق . الثاني : وثيابك فشمِّر ، أي قصِّر ، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة فإذا جُرَّت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها نجاسة ، قاله الزجاج وطاووس . الثالث : وثيابك فطهر من النجاسة بالماء ، قاله محمد ابن سيرين وابن زيد والفقهاء . الرابع : لا تلبس ثيابك إلا من كسبِ الحلال ليكون مطهرة من الحرام . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - لا يكون ثيابك التي تلبس من ملبس غير طاهر . قال ابن العربي : وليس بممتنع أن تحمل الآية على عمومها ، من أن المراد بها الحقيقة ، والمجاز ، وإذا حملناها على الثياب الطاهرةِ المعلومة ، فهي تتناول معنيين : أحدهما : تقصير الأذيال ، فإنها إذا أرسلت تدنست ، ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لغلام من الأنصار ، وقد رأى ذيله مسترخياً : ارفع إزارك ، فإنه أتْقَى ، وأبْقَى ، وأنقى . وقال صلى الله عليه وسلم : " إزْرَةُ المُؤمِن إلى أنْصَافِ سَاقيْهِ ، لا جُناحَ عليْهِ فِيْمَا بَينهُ وبيْنَ الكعْبَيْنِ ومَا كَانَ أسْفل مِنْ ذلِكَ ففِي النَّارِ " فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب ، وتوعد ما تحته بالنار ، فما بال رجال يرسلون أيذالهم ، ويطيلون ثيابهم ، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر ، وقال صلى الله عليه وسلم : " " لا يَنْظرُ اللَّهُ تعالى إلى مَنْ جَرَّ ثَوبَهُ خَيلاء " ، وفي رواية : " منْ جرَّ إزارهُ خُيَلاء لَمْ ينْظُرِ اللَّهُ إليْهِ يَوْمَ القِيامةِ " قال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله إني أجد شِقّ إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَسْتَ ممَّنْ يَصْنعهُ خيلاء " " . والمعنى الثاني : غسلها بالماء من النجاسة ، وهو الظاهر . قال المهدوي : واستدل به بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب ، وليس ذلك يفرض عند مالك وأهل المدينة ، وكذلك طهارة البدن ، للإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار غير غسل . قال ابن الخطيب : إذا حملنا لفظ التطهير على حقيقته ، فنقول : المراد منه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار ، وعلى هذا التقدير ففي الآية ثلاثة احتمالاتٍ : الأول : قال الشافعي - رضي الله عنه - : المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس . وثانيها : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات ، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات . وثالثها : روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلَى شاةٍ ، فشق عليه فرجع إلى بيته حَزيناً وتدثر في ثيابه ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ } ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } على أن لا ينتقم منهم { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } عن تلك النجاسات والقاذورات . قوله : { وَٱلرُّجْزَ } . قرأ حفص ومجاهد وعكرمة وابن محيصن : بضم الراء ، والباقون : بكسرها . فقيل : لغتان بمعنى ، وعن أبي عبيدة : الضم أقيس اللغتين ، وأكثرهما . وقال مجاهدٌ : هو بالضم اسم صنم ، ويعزى للحسن البصري أيضاً ، وبالكسر ويذكر : اسم للعذاب ، وعلى تقدير كونه العذاب ، فلا بد من حذف مضاف ، أي : اهجر أسباب العذاب المؤدية إليه ، أقام السبب مقام المسبب ، وهو مجاز شائع بليغ . وقال السديُّ : " الرَّجْز " ، بنصب الراء : الوعيد . وقال مجاهد وعكرمة : المراد بالرجز : الأوثان ، لقوله تعالى : { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } [ الحج : 10 ] ، وقال ابن عباس أيضاً : والمأثم فاهجر ، أي فاترك ، وكذلك روى مغيرة عن إبراهيم النخعي ، قال : الرجز : الإثم . وقال قتادة : الرجز إساف ، ونائلة . وأصل " الرُّجْز " : العذابُ ، قال تعالى : { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } [ الأعراف : 134 ] . وقال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الأعراف : 163 ] . قوله : { وَلاَ تَمْنُن } ، العامة : على فك الإدغام والحسن وأبو السمال والأشهب العقيلي : بالإدغام . وقد تقدم أن المجزوم ، والموقوف من هذا النوع يجوز فيهما الوجهان ، وتقدم تحقيقه في " المائدة " ، عند قوله تعالى : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] . والمشهور أنه من المنّ ، وهو الاعتداد على المعطى بما أعطاه ، وقيل : معناه " ولا تضعف " من قولهم : حبل متين ، أي : ضعيف . قوله : { تَسْتَكْثِرُ } ، العامة على رفعه ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه في موضع الحال ، أي : لا تمنن مستكثراً ما أعطيت . وقيل : معناه لا تأخذ أكثر مما أعطيت . الثاني : على حذف " أن " يعني أن الأصل ولا تمنن أن تستكثر ، فلما حذفت " أن " ارتفع الفعل ، كقوله : [ الطويل ] @ 4952 - ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِري أحْضُرُ الوغَى … @@ في إحدى الروايتين . قاله الزمخشريُّ . ولم يبين ما محل " أن " وما في خبرها . وفيه وجهان : أظهرهما - وهو الذي يريده - هو أنها إما في محل نصب ، أو جر على الخلاف فيها ؛ حذف حرف الجر وهو هنا لام العلة ، تقديره : ولا تمنن لأن تستكثر . والثاني : أنها في محل نصب فقط مفعولاً بها ، أي : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، قاله مكي . وقد تقدم أن " تَمْنُنْ " بمعنى تضعف ، وهو قول مجاهد . إلا إنَّ أبا حيان قال - بعد كلام الزمخشريِّ - : " وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحته معنى " . والكوفيون يجيزون ذلك ، وأيضاً : فقد قرأ الحسن والأعمش : " تَسْتكثِرَ " أيضاً على إضمار " أن " ، كقولهم : " مُرْهُ يحفرها " . وأبلغ من ذلك التصريح بأن في قراء عبد الله : " ولا تمنن أن تستكثر " . وقرأ الحسن - أيضاً - وابن أبي عبلة تستكثرْ جزماً ، وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون بدلاً من الفعل قبله . كقوله : { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } [ الفرقان : 68 - 69 ] فـ " يُضَاعَفُ " بدلاً من " يَلْقَ " ؛ وكقوله : [ الطويل ] @ 4953 - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا في دِيَارنَا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَأجَّجَا @@ ويكون من المنِّ الذي في قوله تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [ البقرة : 264 ] . الثاني : أن يشبه " ثرو " بعضد فيسكن تخفيفاً . قاله الزمخشري . يعني : أنه يأخذ من مجموع " تستكثر " [ ومن الكلمة التي بعده وهو الواو ما يكون فيه شبهاً بعضد ، ألا ترى أنه قال : أن يشبه ثرو ، فأخذ بعض " تستكثر " ] وهو الثاء ، والراء وحرف العطف من قوله : { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } ؛ وهذا كما قالوا في قول امرىء القيس : [ السريع ] @ 4954 - فالْيَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتحقِبٍ إثْماً من اللَّهِ ولا واغِلِ @@ بتسكين " أشْرَبْ " - أنهم أخذوا من الكلمتين رَبْغَ كـ " عضد " ثم سكن . وقد تقدم في سورة " يوسف " في قراءة قُنبل : " من يَتّقي " ، بثبوت الياء ، أن " مَنْ " موصولة ، فاعترض بجزم " يَصْبِر " ؟ . فأجيب بأنه شبه بـ " رف " ، أخذوا الباء والراء من " يَصْبِر " والفاء من " فإنَّه " ، وهذه نظير تيك سواء . الوجه الثالث : أن يعتبر حال الوقف ، ويجرى الوصل مجراه ، قاله الزمخشري ، أيضاً . يعني أنه مرفوع ، وإنما سكن تخفيفاً ، أو أجري الوصل مُجْرَى الوقفِ . قال أبو حيان : " وهذان لا يجوز أن يحمل عليهما مع وجود أرجح منهما ، وهو البدل معنى وصناعة " . فصل في تعلق الآية بما قبلها في اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء : إنذار القوم ، وتكبير الرب ، وتطهير الثياب ، وهجر الرجز ، ثم قال - جلَّ ذكره - : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } ، أي : لا تمن على ربِّك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربِّك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه . قال الحسن - رحمه الله - : بحسناتك ، فتستكثرها . وقال ابن عباس وقتادة وعكرمةُ : ولا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها . وقيل : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثراً بذلك الإنعام ، فإنَّما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى ، فلا منة لك عليهم ، ولهذا قال تعالى : { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } . وقيل : لا تمنن عليهم بنبوتك ، أي : لتستكثر ، أي : لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك . وقال مجاهدٌ : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولك : حبل منين ، إذا كان ضعيفاً ، ودليله قراءة ابن مسعود : ولا تمنن تستكثر من الخير وعن مجاهد أيضاً ، والربيع : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله عليك . وقال ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك ، إنما عملك منه من الله عليك ، إذ جعل الله لك سبيلاً إلى عبادته . وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربِّك ، لا تقل : دعوت فلم يستجب لي . وقيل : لا تفعل الخير لترائي به الناس . فإن قيل هذا النهي مختص بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يتناول الأمة ؟ . فالجوابُ : أن ظاهر اللفظ قرينة الحال لا تفيد العموم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة ، وهذا المعنى غير موجود في الأمة . وقيل : المعنى في حقِّ الأمة هو الرياءُ ، واللَّهُ تعالى منع الكل من ذلك . فإن قيل : هل هذا نهي تحريم أو تنزيه ؟ فالجواب : أن ظاهر النهي التحريم . فصل في المقصود من الآية قال القفال : يحتمل أن يكون المقصود من الآية أن يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي أحداً شيئاً لطلب عوض سواء كان العوض زائداً أو ناقصاً ، أو مساوياً ، ويكون معنى قوله تعالى { تَسْتَكْثِرُ } ، أي : طالباً للكثرة كارهاً أن ينتقص المال بسبب العطاءِ ، فيكون الاستكثار - هاهنا - عبارة عن طلب العوض كيف كان ، وإنما حسنت هذه العبارةُ ، لأن الغالب أن الثواب زائد على العطاء ، فسمى طلب الثواب استكثاراً ، حملاً للشيء على أغلب أحواله ، كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ، ولها ولد للحاجة إلى من يربي أغلب أن المرأة إنما تتزوج ، ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها ، فسمي الولد ربيباً ، ثم اتسع الأمر ، وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً ، ومن ذهب إلى هذا القول قال : السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض ، والتفات النفس إليه فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى . قال القرطبي - رحمه الله - : " أظهر الأقوال قول ابن عباس " لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال " يقال : مننت فلاناً كذا ، أي : أعطيته ، ويقال للعطية : المنة فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله ، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها ، لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجمع للدنيا ، ولهذا قال : " مَا لي ممَّا أفَاء اللَّهُ عليَّ إلا الخُمْسَ ، والخمس مَردُودٌ عَليْكُمْ " وكان ما يفضل عن نفقة عياله مصروفاً إلى مصالح المسلمين ، ولهذا لم يورث " . قوله : { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } التقديم على ما تقدم . وحسنه كونه رأس فاصلة موافياً لما تقدم . { وَلِرَبِّكَ } يجوز فيه وجهان : أحدهما : أن تكون لام العلة ، أي : لوجه ربِّك فاصبر ، أي : على أذى الكفار وعلى عبادة ربك ، وعلى كل شيء مما لا يليق فترك المصبور عليه ، والمصبور عنه للعلم بهما . والأحسن أن لا يقدر شيء خاص بل شيء عام . والثاني : ان يضمن " صبر " معنى : " أذعن " ، أي : أذعن لربِّك ، وسلم له أمرك صابراً ، لقوله تعالى : { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } [ القلم : 48 ] .