Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 75, Ayat: 7-15)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } . قرأ نافع وأبان عن عاصم : بَرَق بفتح الراء . والباقون : بالكسر . فقيل : لغتان في التحيُّر والدهشة ، ومعناه لمع بصره من شدَّة شخوصه ، فتراه لا يطرف . وقيل : بَرِق - بالكسر - تحيَّر فزعاً . قال الزمخشري : " وأصله من بَرِق الرجل إذا نظر إلى البرقِ فدُهِش بصرهُ " . قال غيره : كما يقال : أسد وبقر ، إذا رأى أسداً وبقراً كثيراً فتحيّر من ذلك . قال ذو الرمة : [ الطويل ] @ 4986 - وكُنْتُ أرَى في وجْهِ ميَّةَ لمْحعةً فأبْرَقُ مَغْشِياً عَليَّ مَكانِيَا @@ وأنشد الفراء رحمه الله : [ المتقارب ] @ 4987 - فَنفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَنِي ودَاوِ الكُلُومَ ولا تَبْرقِ @@ أي : لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك . و " بَرَق " بالفتح : من البريق ، أي : لمع من شدَّة شُخُوصه . وقال مجاهد وغيره : وهذا عند الموت . وقال الحسن : يوم القيامة ، قال : وفيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان ، كأنه قال : يوم القيامة إذا برق البصر ، وخسف القمر . وقيل : عند رؤية جهنم . قال الفراء والخليل : " برِق " - بالكسر - : فَزِع وبُهِت وتحيّر ، والعرب تقول للإنسان المتحيِّر المبهوت : قد برِق فهو برِقٌ . وقيل : " بَرِق ، يَبْرَقُ " بالفتح : شق عينيه وفتحهما . قاله أبو عبيدة ، وأنشد قول الكلابيِّ : [ الرجز ] @ 4988 - لمَّا أتَانِي ابنُ عُمَيْر راغِباً أعْطيتُه عِيساً صِهَاباً فَبرِقْ @@ أي : فتح عينيه . قرأ أبو السمال : " بَلِق " باللام . قال أهل اللغة إلا الفرّاء : معناه " فُتِح " ، يقال : بَلقْت الباب وأبلقتُه : أي : فتحتُه وفرَّجتُه . وقال الفراء : هو بمعنى أغلقته . قال ثعلب : أخطأ الفراء في ذلك . ثم يجوز أن يكون مادة " بَلَقَ " غير مادة " بَرَقَ " ، ويجوز أن تكون مادةً واحدة بُدِّل فيها حرف من آخر ، وقد جاء إبدال " اللام " من الراء في أحرف ، قالوا : " نثر كنانته ونثلها " وقالوا : " وجل ووجر " فيمكن أن يكون هذا منه ، ويؤيده أن " برق " قد أتى بمعنى شق عينيه وفتحهما ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد [ الرجز ] @ 4989 - لمَّا أتَانِي ابن عُمَيْرٍ @@ البيت المتقدم . أي : ففتح عينيه فهذا مناسب لـ " بلق " . قوله : { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ } . العامةُ : على بنائه للفاعل . وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، ويزيد بن قطيب قال القرطبي : وابن أبي إسحاق وعيسى : " خُسِف " مبنياً للمفعول . وهذا لأن " خسف " يستعمل لازماً ومتعدياً ، يقال : خُسِفَ القمر ، وخسف الله القمر . وقد اشتهر أن الخسوف للقمر والكسوف للشمس . وقال بعضهم : يكونان فيهما ، يقال : خُسِفت الشمس وكسفت ، وخسف القمر وكسف ، وتأيد بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ لا يخسفانِ لمَوْتِ أحدٍ " ، فاستعمل الخسوف فيهما ، وفي هذا نظرٌ لاحتمال التغليب ، وهل هما بمعنى واحد أم لا ؟ فقال أبو عبيد وجماعة : هما بمعنى واحد . وقال ابن أبي أويس : الخسوف ذهاب كل ضوئهما والكسوف ذهاب بعضه . قال القرطبي : الخسوف في الدنيا إلى انجلاء ، بخلاف الآخرة فإنه لا يعود ضوؤه ، ويحتمل أن يكون بمعنى " غاب " ، ومنه قوله تعالى : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } [ القصص : 81 ] . قوله تعالى : { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } لم تلحقه علامة تأنيث ؛ لأن التأنيث مجازي . وقيل : لتغليب التذكير . وفيه نظر ، لو قلت : " قام هند وزيد " لم يجز عند الجمهور من العرب . وقال الكسائي : " جمع " حمل على معنى جرح النيران . وقال الفراء والزجاج : جمع بينهما في ذهاب ضوئيهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه . وقال ابن عباس وابن مسعود : جمع بينهما ، أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوَّرين مظلمين مقرَّنين كأنهما ثوران عقيران . وقال عطاء بن يسار : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى . وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما : يجعلان في الحُجُب وقد يجمعان في نار جنهم لأنهما قد عُبِدا من دون الله ولا تكون النار عذاباً لهما لأنهما جماد وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم . وقيل : هذا الجمع إنما يجمعان ويقرَّبان من الناس فيلحقهم العرق لشدَّة الحر فيكون المعنى : يجمع حرهما عليهم . وقيل : يجمع الشمس والقمر ، فلا يكون ثم تعاقبُ ليلٍ ولا نهارٍ . قال ابن الخطيب : وقيل : جمع بينهما في حكم ذهاب الضوء كما يقال : يجمع بين كذا وكذا في حكم كذا ، أي : كل منهما يذهب ضوؤه . فصل في الرد على من طعن في الآية قال ابن الخطيب : طعنت الملاحدة في الآية فقالوا : خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر . والجواب : أن الله - تعالى - قادر على أن يخسف القمر سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس ، أو لم تكن ؛ لأن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات فيقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال . قوله : { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ } . جواب " إذا " من قوله : " فإذا برق " ، و " أيْنَ المفَرُّ " منصوب المحل بالقول ، و " المَفَرّ " مصدر بمعنى " الفرار " وهذه هي القراءة المشهورة . وقرأ الحسنان ابنا علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : بفتح الميم وكسر الفاء ، وهو اسم مكان الفرار ، أي أين مكان الفرار . وجوز الزمخشري أن يكون مصدراً ، قال : " كالمرجع " وقرأ الحسن عكس هكذا : أي بكسر الميم وفتح الفاء ، وهو الرجل الكثير الفرار ؛ كقول امرىء القيس يصف جواده : [ الطويل ] @ 4990 - مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدبِرٍ مَعاً كجُلْمُودِ صَخْرٍ حطَّهُ السَّيلُ من عَلِ @@ وأكثر استعمال هذا الوزن في الآلات . فصل في بيان ما يقوله الإنسان يوم القيامة يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ، أي : يقول ابن آدم ، وقيل : أبو جهل : أين المفر ، أين المهرب ؟ . قال الماوردي : ويحتمل وجهين : أحدهما : أين المفر من الله استحياءً منه . والثاني : أين المفر من جهنم حذراً منها . ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين : أحدهما : أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه . والثاني : أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها . قوله : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } . تقدم الكلام ي " كلاَّ " ، وخبر " لا " محذوف ، أي لا وزر له . أي لا ملجأ من النار . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لا حِصْن . وقال ابن عباس : لا ملجأ وقال الحسن : لا جبل . وقال ابن جبير : لا مَحِيصَ . وهل هذه الجملة محكيّة بقول الإنسان ، فتكون منصوبة المحل ، أو هي مستأنفة من الله - تعالى - بذلك . و " الوزر " : الملجَأ من حصنٍ أو جبلٍ أو سلاح ؛ قال الشاعر : [ المتقارب ] @ 4991 - لَعمْرُكَ ما لِلْفَتَى من وَزَرْ مِنَ المَوْتِ يُدرِكهُ والكِبَرَ @@ قال السديُّ : كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال ، فقال الله لهم : لا وزر يعصمكم يومئذٍ منِّي . قوله تعالى : { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } . أي : المنتهى . [ قاله قتادة ، نظيره : " وأن إلى ربك المنتهى " ] . وقال ابن مسعود : إلى ربك المصير والمرجع ، أي : المستقر في الآخرة حيث يقره الله . و " المُسْتقَرُّ " مبتدأ ، خبره الجار قبله ، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الاستقرار ، وأن يكون مكان الاستقرار ، و " يَوْمئذٍ " منصوب بفعل مقدر ، ولا ينصب بـ " مستقر " لأنه إن كان مصدراً فلتقدمه عليه ، وإن كان مكاناً فلا عمل له ألبتة . قوله : { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ } . أي : يُخبَّر ابن آدم برّاً كان أو فاجراً يوم القيامة { بِمَا قَدَّمَ وَأخَّرَ } أي : بما أسلف من عمل خيراً أو شرّاً ، أو أخَّر من سيِّئة أو صالحة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود . وقال ابن عباس أيضاً : بما قدَّم من المعصية ، وأخَّر من الطاعة ، وهو قول قتادة . وقال ابن زيد : " بِما قدَّمَ " مرة من أمواله لنفسه " وأخَّرَ " خلَّف للورثة . وقال الضحاك : " بِما قدَّم " من فرض " وأخَّرَ " من فرض . وقال مجاهد والنخعيُّ : يُنَبَّأ بأوَّلِ عملٍ وآخره . قال القشيري : وهذا الإيتاء يكون في القيامة عند وزن الأعمال ، ويجوز أن يكون عند الموت . قوله : { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } . يجوز في " بَصِيرة " أوجه : أحدها : أنها خبر عن الإنسان ، و " على نفسه " متعلق بـ " بصيرة " ، والمعنى : بل الإنسان بصيرة على نفسه . وعلى هذا فلأيّ شيء أنَّث الخبر . وقد اختلف النحويون في ذلك ، فقال بعضهم : الهاء فيه للمبالغة . وقال الأخفش : هو كقولك : " فلان عِبْرة وحُجَّة " . وقيل : المراد بالإنسان الجوارح ، فكأنه قال : بل جوارحه بصيرة ، أي شاهدة . والثاني : أنَّها مبتدأ ، و " على نفسه " خبرها ، والجملة خبر عن الإنسان . وعلى هذا ففيها تأويلان : أحدهما : أن تكون " بصيرة " صفة لمحذوف ، أي عين بصيرة . قاله الفراء ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 4992 - كَأنَّ عَلَى ذِي العَقْلِ عَيْناً بَصِيرَةً بِمقْعدِهِ أو مَنْظَرٍ هُو نَاظِرُهْ يُحَاذِرُ حتَّى يَحْسبَ النَّاسُ كُلُّهُم مِنَ الخَوْفِ لا تَخْفَى عليْهِمْ سَرائِرُهْ @@ الثاني : أن المعنى جوارحُ بصيرة . الثالث : أنَّ المعنى ملائكة بصيرة ، وهم الكاتبون ، والتاء على هذا للتَّأنيث . وقال الزمخشري : " بصيرة " : حُجَّة " بينة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] . قال شهاب الدين : " هذا إذا لم تجعل الحُجَّة عبارة عن الإنسان ، أو تجعل دخول التاء للمبالغة أمَّا إذا كانت للمبالغة فنسبة الإبصار إليها حقيقة " . الوجه الثالث : يكون الخبر الجار والمجرور و " بصيرة " فاعل به ، وهو أرجح مما قبله ؛ لأن الأصل في الأخبار الإفراد . فصل في تفسير الآية قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : " بصيرة " : أي : شاهد ، وهو شهود جوارحه عليه : يداه بما يبطش بهما ، ورجلاه بما يمشي عليهما ، وعيناه بما أبصر بهما والبصيرة : الشاهد ، كما أنشد الفراء ، ويدل عليه قوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] . قال الواحدي : هذا يكون من صفات الكفار ، فإنهم ينكرون ما عملوا ، فيُختم على أفواههم ، وتنطق جوارحهم . قوله : { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَه } . هذه الجملة حالية ، وقد تقدم نظيرها مراراً . والمعاذير : جمع معذرة على غير قياس كـ " ملاقيح ومذاكير " جمع لقحة وذكر . وللنحويين في مثل هذا قولان : أحدهما : أنه جمع لملفوظ به وهو لقحة وذكر . والثاني : أنه جمع لغير ملفوظ به بل لمقدَّر ، أي ملقحة ومذكار . وقال الزمخشري : " فإن قلت : أليس قياس " المَعْذِرة " أن تجمع على معاذر لا معاذير ؟ . قلت : " المعاذير " ليست جمع " معذرة " بل اسم جمع لها ، ونحوه : " المناكير " في المُنْكَر " . قال أبو حيان : " وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع ، وإنما هو من أبنية جموع التكسير " انتهى . وقيل : " مَعاذِير " جمع مِعْذار ، وهو السِّتر ، والمعنى : ولو أرخى ستوره ، والمعاذير : الستور بلغة " اليمن " ، قاله الضحاك والسديُّ ، وأنشد : [ الطويل ] @ 4993 - ولكِنَّهَا ضَنَّتْ بمَنْزلِ سَاعةٍ عَليْنَا وأطَّتْ فوْقهَا بالمعَاذِرِ @@ قال الزجاج : المعاذير : الستور ، والواحد : معذار . أي وإن أرخى ستوره يريد أن يخفى عمله فنفسه شاهدة عليه ، وقد حذف الياء من " المعاذر " ضرورة . وقال الزمخشري : " فإن صح - يعني أن المعاذير : الستور - فلأنه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب " . وهذا القول منه يحتمل أن يكون بياناً للمعنى الجامع بين كون المعاذير : الستور والاعتذارات ، وأن يكون بياناً للعلاقة المسوِّغة في التجويز . فصل في معنى الآية قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسديُّ : المعنى : ولو اعتذر وقال : لم أفعل شيئاً لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه ، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه فعليه شاهد يكذِّب عذرهُ " . وقال مقاتل : ولو أدلى بعُذرٍ أو حجة لم ينفعه ذلك ، نظيره قوله تعالى : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] فالمعاذير على هذا مأخوذة من العُذْر .