Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 27-31)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } . توبيخ وتقريع والمراد أهل " مكة " ، والعاجلة ، الدنيا . واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بالتعظيم والأمر والنهي ، عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين ، فقال تعالى : { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } ، ومعناه : إن الذي حمل هؤلاء على الكفر والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ، هو محبتهم اللذات العاجلة والراحات الدنيوية البدنية . قوله : { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ } ، أي : بين أيديهم ، وقال : " وَرَاءَهُم " ولم يقل : قُدَّامهم لأمور : أحدها : أنهم لما أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم . وثانيها : المراد : يذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل ، أي عسير ، فأسقط المضاف . وثالثها : أن " وراء " يستعمل بمعنى " قُدّام " ، كقوله تعالى : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } [ الكهف : 79 ] . وقال مكي : سمّي " وراء " لتواريه عنك ، فظاهر هذا أنه حقيقة ، والصحيح أنه استعير لـ " قُدّام " . قوله : " يَوْماً " . مفعول بـ " يَذَرُونَ " لا ظرف ، وصفه بالثقل على المجاز ؛ لأنه من صفات الأعيان لا المعاني . وقيل : معناه يتركون الإيمان بيوم القيامة . وقيل : نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته ، وحبُّهم العاجلة : أخذهم الرّشا ما كتموه ، وقيل : أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا ، والآية تعُمّ ، واليوم الثقيل : يوم القيامة ، وسمي ثقيلاً لشدائده وأهواله وقيل : للقضاء فيه بين العباد . قوله تعالى : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ } أي من طين ، { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } أي : خلقهم . قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم ، والأسر : الخلق . قال أبو عبيد : يقال : فرس شديد الأسر ، أي : الخلق ، ويقال : أسره الله ، إذا شدد خلقه ؛ قال لبيدٌ [ الرمل ] @ 5051 - سَاهِمُ الوجْهِ شَدِيدٌ أسْرهُ مُشْرِفُ الحَارِكِ مَحْبُوكُ الكَتِدْ @@ وقال الأخطل : [ الكامل ] @ 5052 - مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَديدٍ أسْرهُ سَلِسُ القِيَادِ تخَالهُ مُخْتَالاً @@ وقال أبو هريرة والحسن والربيع رضي الله عنهم : شَددْنَا مفَاصِلهُمْ . قال أهل اللغة : الأسر : الرَّبْط ، ومنه : أسِرَ الرجُل ، إذا أوثق بالقيد ، وفرس مأسورة الخلق وفرس مأسورة بالعقب ، والإسار : هو القيد الذي يشد به الأقتاب ، تقول : أسرت القتب أسراً ، أي : شددته وربطته . فصل في معنى الأسر قال ابن زيد : الأسر القوة ، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية ، أي : سويت خلقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي . قال ابن لخطيب : وهذا الكلام يوجب عليهم طاعة الله تعالى من حيث الترغيب والترهيب ؛ أما الترغيب فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة ، وخلق لهم جميع ما يمكن الانتفاع به ، فإذا أحبوا اللذات العاجلة ، وتلك اللذات لا تحصل إلا بالمنتفع والمنتفع به ، وهما لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده ، وهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرُّد . وأما الترهيب فإنه قادرٌ على أن يميتهم وأن يسلُب النعم عنهم ، وأن يلقي بهم في كل محنة وبلية ، فلأجل الخوف من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرّد ، فكأنه قيل : هبْ أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة حسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله - تعالى - والانقياد له ، فلم توسلتم به إلى الكفر بالله - تعالى - والإعراض عن حكمه . قوله تعالى : { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطْوَعَ لله منهم . وقال ابن الخطيب : معناه : إذا شئنا أهلكناهم ، وأتينا بأشباههم ، فجعلناهم بدلاً منهم كقوله تعالى : { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } [ الواقعة : 61 ] ، والغرض منه : بيان الاستغناء التام عنهم ، كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة ، وبتقدير إن ثبتت الحاجة ، فلا حاجة بنا إلى هؤلاء الأقوام ؛ فإنا قادرون على إبدالهم وإيجاد أمثالهم ، ونظيره قوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ إبراهيم : 19 ] ، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] . وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهم - معناه : لغيرنا محاسنهم إلى أقبح الصور . وقيل : أمثالهم في الكفر . فصل في نظم الآية قال الزمخشري في قوله تعالى : { وَإِذَا شِئْنَا } : وحقه أن يجيء بـ " إن " لا بـ " إذا " ، كقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] ، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يعني : أنَّ " إذا " للمحقَّق ، و " إن " للمحتمل ، وهو تعالى لم يشأ ذلك ، وجوابه أن " إذا " قد تقع موقع " إن " كالعكس . قال ابن الخطيب : فكأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف ، لأن كل واحد من " إن " و " إذا " حرف شرط ، إلا أن حرف " إن " لا يستعمل فيما هو معلوم الوقوع ، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك . أما حرف " إذا " فإنه يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع تقول ابتداء : إذا طلعت الشمس - فهاهنا - لما كان الله تعالى عالماً أنه سيجيء وقت يبدل الله تعالى فيه أولئك الكفرة بأمقالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف " إذا " . قوله تعالى : { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } . أي : هذه السورة موعظة ، { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } أي : طريقاً موصِّلاً إلى طاعته . وقيل : " سبيلاً " أي وسيلة . وقيل : وجهة وطريقة إلى الخير والمعنى : أنّ هذه السورة لما فيها من الترتيب العجيب ، والوعد الوعيد ، والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمتبصرين . فصل في قول الجبرية قال ابن الخطيب : متى ضمت هذه الآية إلى الآية بعدها خرج منهما صريح مذهب الجبر ، لأن قوله تعالى : { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } الآية يقتضي أن مشيئة العبد متى كانت خالصة ، فإنها تكون مستلزمة للفعل ، وقوله تعالى بعد ذلك : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } يقتضي كون مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ، ومستلزم المستلزم مستلزم ، فإن مشيئة الله - تعالى - مستلزمة لفعل العبد ، وذلك هو الجبر ، وكذا الاستدلال على الجبر بقوله تعالى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] ، لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ، ثم التقدير ما تقدم . قال القاضي : المذكور هاهنا اتخاذ السبيل إلى الله - تعالى - وهو أمر قد شاءه ؛ لأنه أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه ، وهذا لا يقضي أن يقال : العبد لا يشاء إلاَّ ما قد شاء الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أن الله تعالى أراده وشاءه . وهذا الكلام لا تعلق له بالاستدلال الذي ذكرناه ، فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص العام بالصُّور المتقدمة ، وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث تعمّ تلك الصورة وغيرها . قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } فيه وجهان : أحدهما : أنه حال ، أي إلاَّ في حال مشيئة الله تعالى . قاله أبو البقاء . وفيه نظر : لأن هذا مقدر بالمعرفة إى أن يريد تفسير المعنى . والثاني : أنه ظرف . قال الزمخشري : " فإن قلت : ما محل أن يشاء الله ؟ . قلت : النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله تعالى ، وكذلك قرأ ابن مسعود : إلا ما يشاء الله ، لأن " ما " مع الفعل كـ " إن " معه " . وردّ أبو حيان : بأنه لا يقوم مقام الظرف إلاَّ المصدر الصريح ، لو قلت : أجيئك أن يصيح الديك ، أو ما يصيح ، لم يجز . قال شهاب الدين : قد تقدم الكلام في ذلك مراراً . وقرأ نافع والكوفيون : " تشاءون " خطاباً لسائر الخلق ، أو على الالفتات من الغيبة في قوله تعالى : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ } ، والباقون : بالغيبة جرياً على قوله : " خلقناهم " وما بعده . قوله : { وَمَا تَشَآءُونَ } أي الطاعة والاستقامة ، واتخاذ السبيل إلى الله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ، وليس لهم ، وأنه لا ينفذ مشيئة أحد ، ولا تقدّم إلا تقدّم مشيئة الله تعالى ، قيل : إن الآية الأولى منسوخة بالثانية . قال القرطبي : والأشبه أنه ليس بنسخ ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته . قال الفراء : " ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أن يَشاءَ اللهُ " جواب لقوله تعالى : { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم ، فقال : " ومَا تَشَاءُونَ " ذلك السبيل " إلاَّ أن يشَاءَ اللهُ " لكم ، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً } بأعمالكم " حَكِيماً " في أمره ونهيه لكم . قوله تعالى : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } . أي : يدخله الجنة راحماً له . قال ابن الخطيب : إن فسرنا الرحمة بالإيمان فالآية صريحة في أن الإيمان من الله تعالى وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئته بسبب مشيئة الله تعالى وفضله ، وإحسانه لا بسبب الاستحقاق ؛ لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجَهْل أو الحاجة ، وهما محالان على الله تعالى ، والمفضي إلى المحال محال ، فتركه محال ، فوجوده واجبٌ عقلاً ، وعدمه ممتنعٌ عقلاً ، وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة . قوله : { وَٱلظَّالِمِينَ } ، أي : ويعذّب الظالمين ، وهو منصوب على الاشتغال بفعل يفسره " أعَدَّ لَهُمْ " من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، تقديره : وعذب الظالمين ، ونحوه : " زيداً مررت به " أي : جاوزت ولابست . وكان النصب هنا مختاراً لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها ، وهو قوله " يُدْخِلُ " . قال الزجاج : نصب " الظَّالمينَ " لأن قبله منصوباً ، أي : يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين ، أي : المشركين ، ويكون " أعَدَّ لَهُمْ " تفسيراً لهذا المضمر ؛ قال الشاعر : [ المنسرح ] @ 5053 - أصْبَحتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا أمْلِكُ رَأسَ البَعيرِ إنْ نَفَرَا والذِّئْـب أخْشَـاهُ إنْ مَـررْتُ بِـهِ وحْدِي وأخْشَـى الرِّيَـاحَ والمَطَـرَا @@ أي : أخشى الذئب أخشاه . قال الزجاج : والاختيار النصب . وإن جاز الرفع . وقوله تعالى في " حَم عَسق " : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمُونَ } [ الشورى : 8 ] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فنصب في المعنى ، فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء ، وهاهنا قوله : { أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً } يدل على " ويُعَذِّبُ " فجاز النصب . وقرأ الزبير ، وأبان بن عثمان ، وابن أبي عبلة : " والظَّالمُونَ " رفعاً على الابتداء ، وما بعده الخبر ، وهو أمر مرجوح لعدم المناسبة . وقرأ ابن مسعود : " ولِلظَّالِمينَ " بلام الجر ، وفيه وجهان : أظهرهما : أن يكون " للظَّالمين " متعلقاً بـ " أعَدَّ " بعده ، ويكون " لَهُمْ " تأكيداً . والثاني : وهو ضعيف ، أن يكون من باب الاشتغال ، على أن يقدر فعلاً مثل الظاهر ، ويجر الاسم بحرف الجر ، فتقول : " بزيد مررت به " أي : مررت بزيد مررت به ، والمعروف في لغة العرب مذهب الجمهور ، وهو إضمار فعل ناصب موافق لفعل الظاهر في المعنى ، فإن ورد نحو " بزيد مررت به " عُدَّ من التوكيد لا من الاشتغال . والأليم : المؤلم . روى الثَّعلبيّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَة { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ } كَانَ جَزَاؤهُ عَلى اللهِ تَعَالى جَنَّةً وحَرِيراً " .