Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 77, Ayat: 1-7)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } في " عرفاً " ثلاثة أوجه : أحدها : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل العرف ، وهو ضد النُّكْر ، فإن الملائكة إن كانوا بعثُوا للرحمة ، فالمعنى فيه ظاهر ، وإن كانوا بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين ، والمراد بالمرسلات ، إما الملائكة ، وإما الأنبياء ، وإما الرياح ، أي : والملائكة المرسلات ، أو والأنبياء المرسلات ، أو والرياح المرسلات . و " العرف " المعروف ، والإحسان ، قال : [ البسيط ] @ 5054 - مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ لا يَعْدمْ جَوازِيَهُ لا يَذهبُ العُرْفُ بيْنَ اللهِ والنَّاسِ @@ وقد يقال : كيف جمع صفة المذكر العاقل بالألف والتاء ، وحقه أن يجمع بالواو والنون , نقول : الأنبياء المرسلون , ولا نقول : المرسلات ؟ . والجواب : أن المرسلات جمع مرسلة , ومرسلة : صفة لجماعة من الأنبياء ، والمرسلات : جمع مرسلة الواقعة صفة لجماعة ، لا جمع مرسل مفرد . والثاني : أن ينتصب على الحال بمعنى متتابعة ، من قولهم : جاءوا كعرف الفرس ، وهم على فلان كعرف الضبع ، إذا تألبُّوا عليه . قال ابن الخطيب : يكون مصدراً ، كأنه قيل : والمرسلات إرسالاً ، أي متتابعة . الثالث : أن ينتصب على إسقاط الخافض ، أي : المرسلات بالعرف ، وفيه ضعف ، وقد تقدم الكلام على العرف في الأعراف . والعامة : على تسكين رائه ، وعيسى : بضمها ، وهو على تثقيل المخفف ، نحو : " بكّر " في " بكَر " ، ويحتمل أن يكون هو الأصل ، والمشهور مخففة منه ، ويحتمل أن يكونا وزنين مستقلين . فصل في المراد بالمرسلات جمهور المفسرين على أن " المرسلات " هي الرياح . وروى مسروق عن عبد الله قال : هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله ونهيه والخبر والوحي ، وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله . وقال أبو صالحٍ : الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات . وعن ابن عباس وابن مسعود : أنها الرياح ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ } [ الحجر : 22 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ } [ الأعراف : 57 ] ، ومعنى " عُرْفاً " أي : يتبع بعضها بعضاً كعرف الفرس ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات : السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه . وقيل : إنها الزَّواجر والمواعظ ، و " عُرْفاً " على هذا التأويل : متتابعات كعرف الفرس ، قاله ابن عبَّاس . وقيل : جاريات ، قاله الحسن ، يعني في القلوب . وقيل : معروفات في العقول . قوله تعالى : { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } . هذا المصدر مؤكد لاسم الفاعل . والمراد بالعَاصفاتِ : الرياح . قاله المهدوي . وقال ابن عباسٍ : هي الرياح العواصف تأتي بالعصف ، وهو ورق الزرع وحطامه . وقال : العاصفات الملائكة شبهت بسرعة جريها في أمر الله - تعالى - بالرياح ، وكذلك " نَشْراً ، وفَرْقاً " انتصابهما على المصدر . وقيل : الملائكة تعصف برُوح الكَافرِ ، يقال : عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه ، وناقة عصوف ، أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريحٌ في السرعة ، وعصفت الحرب بالقوم ، أي : ذهبت بهم . وقيل : يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخوف . قوله تعالى : { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } . هي الملائكة المُوكَّلُون بالسحاب ينشرونها . وقال ابن مسعود ومجاهد : هي الرياح يرسلها الله تعالى نشراً بين يدي رحمته ينشر السحاب للغيث ، وهو مروي عن أبي صالح . وعنه أيضاً : هي الأمطار لأنها تنشر النبات ، فالنَّشر بمعنى الإحياء ، يقال : نشر الله الميت وأنشره ، بمعنى أحياهُ ، قال تعالى : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 22 ] . وروي عن السديِّ : أنها الملائكة تنشر كتب الله تعالى ، وروى الضحاك عن ابن عباس قال : يريد ما ينشر من الكتب ، وأعمال بني آدم ، وروى الضحاك : أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد . وقال الربيع : إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح . وقال تعالى : { وٱلنَّاشِرَاتِ } - بالواو - لأنه استئنافُ قسم آخر . قوله : { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } : هي الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل . قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح . وروى الضحاك عن ابن عباس ، قال : ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال ، وروى أنس عن مجاهد قال : " الفارقات " الرياح تفرق بين السحاب وتبدده . وروى سعيد عن قتادة قال : { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } ، الفرقان فرق الله بين الحق والباطل والحلال والحرام ، وهو قول الحسن وابن كيسان . وقيل : هم الرسل فرقوا بين ما أمر الله - تعالى - به ، ونهى عنه ؛ أي بينوا ذلك . وقيل : السحابات الماطرة تشبيهاً بالنَّاقة الفارقة ، وهي الحامل التي تخرج وتندّ في الأرض حين تضع ، ونوق فوارق وفُرَّق . قوله تعالى : { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } . هي الملائكة ، أي : تلقي كتب الله إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قاله المهدوي . وقيل : هو جبريل - عليه الصلاة والسلام - وسمي باسم الجمع تعظيماً لأنه كان ينزل بها وقيل : المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم . قاله قطرب . وقوله تعالى : { ذِكْراً } مفعول به , ناصبه " المُلْقِيَاتِ " . وقرأ العامة : " فالملقيات " - بسكون اللام وتخفيف القاف - اسم فاعل . وقرأ ابن عباس : بفتح اللام وتشديد القاف ، اسم مفعول من التلقية ، وهي إيصال الكلام إلى المخاطب . وروى عنه المهدوي أيضاً : فتح القاف ، أي : يلقيه من قِبَل الله تعالى ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ } [ النمل : 6 ] . قوله : { عُذْراً أَوْ نُذْراً } . فيهما أوجه : أحدها : أنهما بدلان من " ذِكْراً " . الثاني : أنهما منصوبان به على المفعولية ، وإعمال المصدر المنون جائز ، ومنه { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] . الثالث : أنهما مفعولان من أجلهما ، والعامل فيهما ، إما " المُلقيَات " ، وإما " ذِكراً " ؛ لأن كُلاًّ منهما يصلح أن يكون معلولاً بأحدهما . وحينئذ يجوز في " عُذْراً " ، ونذراً " وجهان : أحدهما : أن يكونا مصدرين - بسكون العين - كالشُّكْر والكُفْر . والثاني : أن يكونا جمع عذير ، ونذير ، المراد بهما المصدر ، بمعنى الإعذار والإنذار ، كالنكير بمعنى الإنكار . الثالث : أنهما منصوبان على الحال من " الملقيات " أو من الضمير فيها ، وحينئذ يجوز أن يكونا مصدرين واقعين موقع الحال ، بالتأويل المعروف في أمثاله ، وأن يكونا جمع " عذير ونذير " مراداً بهما المصدر ، أو مراداً بهما اسم الفاعل بمعنى المعذر والمنذر ، أي : معذرين ، أو منذرين . وقرأ العامة : بسكون الذَّال من { عُذْراً أَوْ نُذْراً } . وقرأ زيد بن ثابت ، وابن خارجة ، وطلح : بضمها . والحرميَّان ، وابن عامر ، وأبو بكر ، بسكونها في " عُذْراًَ " وضمها في " نُذْراً " ، والسكون والضم - كما تقدم - في أنه يجوز أن يكون كل منهما أصلاً للآخر ، وأن يكونا أصلين ، ويجوز في كل من المثقّل والمخفّف أن يكون مصدراً ، وأن يكون جمعاً سكنت عينه تخفيفاً . وقرأ إبراهيم التيمي : " عُذْراً ونُذْراً " بواو العطف موضع " أو " ، وهي تدل على أن " أو " بمعنى الواو . فصل في معنى الآية والمعنى : يلقي الوحي إعذاراً من الله تعالى وإنذاراً إلى خلقه من عذابه . قاله الفراء . وروي عن أبي صالحٍ قال : يعني الرسل يعذرون وينذرون . وروى سعيد عن قتادة : " عُذْراً " قال : عذراً لله - تعالى - إلى خلقه ، ونذراً للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به ، وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " عُذْراً " أي : ما يقبله الله - تعالى - من معاذير أوليائه ، وهي التوبة " أو نُذْراً " ينذر أعداءه . فصل في المراد بهذه الكلمات الخمس قال ابن الخطيب : اعلم أن هذه الكلمات الخمس ، إما أن يكون المراد منها جنساً واحداً ، أو أجناساً مختلفة ، فالأول فيه وجوه : أحدها : أن المراد بها الملائكة والمرسلات هي الملائكة الذين أرسلهم الله - تعالى - إما لإيصال النِّعمة إلى قوم أو لإيصال النقمة إلى آخرين ، وقوله تعالى : " عُرْفاً " إما أن يكون العُرْف هو الذي ضد النُّكر ، فإن كانوا الملائكة المبعوثين للرحمة ، فالمعنى فيهم ظاهر وإن بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفَّار فإنه معروف للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والمؤمنين ، أو يكون العرف التَّتابع ، وقوله تعالى : { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } فمعناه أن الملائكة عصفوا في طيرانهم كعصف الرياح ، أو يعصفون بروح الكافرِ ، يقال : عصف بالشيء إذا أباده ، وقوله تعالى : { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } أي : أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض ، أو نشروا الرحمة والعذاب ، أو المراد الملائكة الذي ينشرون الكتب التي فيها أعمال بني آدم يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً ، وقوله تعالى : { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } أي : أنهم يفرقون بين الحق والباطل ، وقوله : { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } أي أنهم يلقون الذِّكرَ إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . والمراد بالذكر إما العلم والحكمة أو القرآن ، لقوله تعالى : { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [ القمر : 25 ] ، وهذا المُلْقي وإن كان جبريل وحده إلا أنه سمِّي باسم الجمع تعظيماً له . واعلم أن الملائكة أقسام : قسمٌ يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء ، وقسمٌ يرسل لكتابة اعمل بني آدم ، وقسم يرسل لقبض الأرواح ، وقسم يرسل بالوحي من سماءٍ إلى سماءٍ . الوجه الثاني : أن المراد بهذه الكلمات الخمس : الرياح ، أقسم الله - تعالى - بالرياح عند إرسالها عُرْفاً ، أي : متتابعة ، كشعر العرف ، ثم إنها تشتدّ حتى تصير عواصف ورياح رحمة تنشر السحاب في الجو ، قال الله تعالى : { يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] ، وهو المراد بقوله تعالى : { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } أي : أنها تنشر السحاب ، أو أنها تلقح الأشجار والنبات ، فتكون ناشرة ، وقوله تعالى : { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } أي : أنها تفرق بين أجزاء السحاب ، أو أنها تخرب بعض القرى ، وذلك يصير سبباً لظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه ، أو أنها عند هبوبها تفرّق الخلق فمن مقرّ خاضع ، ومن منكر جاحد . وقوله تعالى : { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } أي : أن العاقل إذا شاهد هبوب تلك الرياح التي تقلع القِلاَع وتهدم الصخور والجبال ، وترفع أمواج البحار تمسَّك بذكر الله - تعالى - والتجأ إلى إعانة الله - تعالى - فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذِّكر والإيمان والعبودية في القلب . الوجه الثالث : قال ابن الخطيب : من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمس على القرآن ، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن ، فقوله تعالى : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } المراد منه الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { عُرْفاً } أي هذه الآيات نزلت بكل عرف وخير ، كيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة الموصلة إلى مجامع الخيرات ، والمراد بـ " العاصفات عصفاً " أن دولة الإسلام والقرآن إن كانت ضعيفةً في أولها ، ثم عظُمت وقهرت سائر الملل والأديان ، فكأن دولة القرآن عصفت سائر الدُّول والملل والأديان وقهرتها ، وجعلتها باطلة دائرة . والمراد بـ " النَّاشِرات نَشْراً " ، أن آيات القرآن نشرت الحِكَم والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً . والمراد بـ " الفارقات فرقاً " أن آيات القرآن نشرت الحِكَم والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً . والمراد بـ " الفارقات فرقاً " أن آيات القرآن فرَّقت بين الحقِّ والباطل ، ولذلك سمِّي القرآن فرقاناً ، والمراد بـ " الملقيات ذكراً " أن القرآن ذكر ، قال تعالى : { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ ص : 1 ] { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] { وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ الحاقة : 48 ] . الوجه الرابع : قاله ابن الخطيب : ويمكن حملها أيضاً على بعثة الرُّسل ، فالمراد بـ " المرسلات عرفاً " هم المُرسَلُون بالوَحْي المشتمل على كُلِّ خير ومعروف ، { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } أن كل أمر لكل رسول يكون في أول أمره حقيراً ضعيفاً ، ثم يشتدّ ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } انتشار دينهم ، { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } أنهم يفرقون بين الحق والباطل ، { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } أنهم يأمرونهم بالذكر ويحثُّونهم عليه . الاحتمال الثاني : وهو ألاَّ يكون المراد من هذه الكلمات الخمس شيئاً واحداً ، وفيه وجوه : أحدها : قال الزجاج ، واختاره القاضي : أن الثلاثة الأول هي الرياح ، فقوله تعالى : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } هي الرياح التي تتصل على العرف المعتاد ، والعاصفات : ما اشتدّ عنها ، والنَّاشرات : ما ينشر السحاب ، وقوله تعالى : { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } هم الملائكة الذي يُفرِّقُون بين الحقِّ والباطل والحلال والحرام بما يتحمَّلونه من القرآن والوحي ، وكذا قوله : { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } أنها الملائكة المتحمِّلون للذِّكر الذي يلقونه إلى الرسل . فإن قيل : ما المجانسة بين الريح وبين الملائكة حتى جمع بينهما في القسمِ ؟ . قلت : الملائكة روحانيّون فهم سبب طاقاتهم وسرعة حركاتهم كالرياح . وثانيها : أن الآيتين الأوليين هما الرياح ، والثلاثة الباقية منهم الملائكة ؛ لأنها تنشر الوحي والدين ، ثم لذلك الوحي أثران : الأول : حصول الفرق بين المحق والمبطل . والثاني : ظهر الله في القلوب والألسنة ، ويؤكد هذا أنه قال : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } ، ثم عطف الثاني على الأول بحرف الواو ، فقال : " والنَّاشِرَاتِ " وعطف الاثنين الباقيين عليه بحرف الفاء ، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة . قال ابن الخطيب : ويمكن أن يكون المراد بالأولين الملائمكة ، فقوله تعالى : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } ملائكة الرَّحمة ، وقوله تعالى : { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } ملائكة العذاب ، والثلاثة الباقية آيات القرآن ؛ لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح ، وتفرّق بين الحق والباطل ، وتلقي الذكر في القلوب والألسنة . فصل في وجه دخول الفاء والواو في جواب القسم قال القفالُ : الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم ، والواو في بعض مبنيّ على أصل ، وهو أن عند أهل اللغة أن الفاء تقتضي الوصل والتعلُّق ، فإذا قيل : قام زيد فذهب ، فالمعنى : أنه قام ليذهب ، فكان قيامه سبباً لذهابه ومتصلاً به ، فإذا قيل : قام وذهب ، فهما خبران ، وكل واحد منهما قائم بنفسه ، لا يتعلق بالآخر . ثم إن القفال رحمه الله لما مهد هذا الأصل ، فرع عليه الكلام في هذه الآية بوجوه . قال ابن الخطيب : وتلك الوجوه لا يميل القلب إليها ، وأنا أنوع على هذا الأصل فأقول : أما من جعل الأولين صفة لشيءٍ ، والثلاثة الأخيرة صفاتٍ لشيء واحدٍ ، فنقول : إن حملناها على الملائكة فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعاً ، وذلك الطيران هو العصف ، فالعصف مرتب على الإرسال ، فإن الملائكة أول ما يلقون الوحي إلا الرُّسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهوراً منتشراً ، بل الخلق يردون الأنبياء في أول الأمر فيكذبونهم وينسبونهم إلى السحر والجنون ، فلا جرم أن يذكر الفاء التي تفيد التعقيب ، بل ذكر الواو ، وإذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذلك الحق على الألسنة فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء ، فكأنه - والله أعلم - قال : يا محمد ، أنا أرسلت إليك الملك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة وخير ، ولكن لا تطمع في أن ينتشر ذلك الأمر في الحال ، ولكن لا بد من الصَّبر وتحمل المشقة ، ثم إذا جاء وقت النصرة اجعل دينك ظاهراً منتشراً في شرق العالم وغربه ، وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق ، فتصير الأديان باطلة ، ضعيفة ، ساقطة ، ودينك الحق ظاهراً عالياً ، وهنالك يظهر ذكر الله على الألسنة ، وفي المحاريب وعلى المنابر ، ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر مناسبة سائر الوجوه . قوله : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } . هذا جوابُ القسم ، وقوله : " والمُرسَلاتِ " وما بعده معطوف عليه ، وليس قسماً مستقلاً ، لما تقدم في أول الكتاب ، لوقوع الفاء هنا عاطفة ؛ لأنها لا تكون للقسم ، و " ما " موصولة بمعنى " الذي " هي اسم إن و " تُوعَدُون " صلتها ، والعائد محذوف ، أي إن الذي توعدونه ، و " لواقع " خبرها ، وكان من حق " إن " أن تكون منفصلة عن " ما " الموصولة ، ولكنهم كتبوها متصلة بها . فصل في الموعود به إنما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم ثم لذكره علامات القيامة بعده . وقال الكلبي : المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشَّر لواقع بكم .