Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 79, Ayat: 1-5)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً } يجوز في " غرقاً " أن يكون مصدراً على حذفِ الزوائد ، بمعنى " إغْرَاقاً " ، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى . وإمَّا على الحال ، أي : ذواتُ إغراقٍ ، يقال : أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل ، وبلغ أقصى غايته ، ومنه أغرق النازع في القوس أي : بلغ غاية المد والاستغراق والاستيعاب . فصل في المراد بالنازعات أقسم الله تعالى بهذه الأسماء الخمسة على أن القيامة حق . و " النَّازعات " قيل : هي الملائكة التي تنزع أرواح الكُفَّار ، قاله علي ، وابن مسعود ، ومسروق ، ومجاهد . قال ابن مسعود : يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم ، من تحت كل شعرة ، ومن تحت الأظافير ، وأصول القدمينِ نزعاً ، كالسَّفُّود ينزع من الصوف الرَّطب ، ثم يغرقُها ، يرجعها إلى أجسادهم ، ثم ينزعها ، فهذا عمله في الكفَّار . وقال سعيد بن جبر : نُزعَتْ أرْواحُهم ، ثم غرقت ، ثم حرقت ، ثم قذف بها في النار . وقيل : يرى الكافر نفسه في وقت النَّزع كأنها تغرق . وقال السدي : " والنَّازِعَات " هي النفوس حين تغرقُ في الصُّدور . وقال مجاهد : هي الموت ينزع النفوس . وقال الحسن وقتادة : هي النَّجوم تنزع من أفق إلى أفق ، أي : تذهب ، من قولهم : نزع إليها أي ذهب ، أو من قولهم : نزعت الخيل ، أي : " جرت " ، " غرقاً " أي أنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر ، وهو قول أبي عبيدة وابن كيسان والأخفش . وقال عطاء وعكرمة : " والنَّازعَاتِ " القسيُّ تنزع بالسهام . " غرقاً " بمعنى : إغراق ، وإغراق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدِّ حتى ينتهي إلى النَّصلِ ، ويقال لقشرة البيضة الدَّاخلة " غِرقئ " . وقيل : هم الغُزَاةُ الرُّماة ، وهو الذي قبله سواء ؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد : النازعون بها تعظيماً لها ، كقوله تعالى : { وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } [ العاديات : 1 ] . وقال يحيى بنُ سلام : هي الوحش تنوزع من الكلأ وتنفر . ومعنى " غرقاً " أي : إبعاداً في النزع . قوله تعالى : { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } . اعلم أن " نَشْطاً ، وسَبْحاً ، وسَبْقاً " كلها مصادر . والنَّشْطُ : الرَّبْطُ ، والإنشاطُ : الحل ، يقال : نَشَطَ البعير : رَبطهُ ، وأنشطهُ : حله . ومنه : " كأنَّما أنشط من عقال " ، فالهمزة للسَّلب ، ونشط : ذهب بسرعةٍ ، ومنه قيل لبقر الوحش : النواشط ؛ وقال هميانُ بنُ قحافةَ : [ الرجز ] @ 5086 - أمْسَتْ هُمومِي تَنْشِطُ المنَاشِطَا الشَّام بِي طَوْراً وطَوْراً واسِطَا @@ ونشط الحبل أنشطه أنشوطة : عقدته ، وأنْشَطْتُه : مددته ، ونشط كـ " أنشط " . قال الأصمعي : بئرٌ أنشاط : أي : قريبةُ القعرِ ، يخرج الدَّلوُ منها بجذبةٍ واحدةٍ ، وبئر نشُوط ، قال : وهي التي لا تخرج الدلو منها حتى تنشط كثيراً . فصل في المراد بالناشطات قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن ، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلَّ عنه . وقيل : يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب الذي يعقب به السَّرج . والنَّشْطُ : الجذبُ بسرعة . ومنه الأُنشوطةُ : عقدة يسهل انحلالُها إذا جذبتْ مثل عقدة التكّة . قال الليث : أنشطه بأنشوطة وأنشوطتين أي : أوثقته ، وأنشطت العقال ، أي : مددت أنشوطته فانحلّت . ويقال : نشط بمعنى أنشط ، لغتان بمعنى . وعن ابن عباس أيضاً : أن الناشطات الملائكة ، لنشاطها تذهب وتجيء بأمر ربها حيثما كان . وقال مجاهدٌ : هو الموت ينشط نفس الإنسان . وقال السدي : هي النفوس حين تَنْشَطُ من القدَميْنِ . وقال قتادةُ ، والحسنُ والأخفشُ : هي النجوم تنشط من أفقٍ إلى أفقٍ ، أي : تذهب . قال الجوهريُّ : يعني النجوم تنشطُ من بُرجٍ إلى برجٍ ، كالثَّور الناشط من بلدٍ إلى بلدٍ . وقيل : " النازعات " للكافرين : و " النَّاشطاتِ " للمؤمنين ، فالملائكةُ يجْذِبُونَ أرواح المؤمنين برفقٍ . والنَّزْعُ : جذبٌ بشدَّةٍ . وقيل : هما جميعاً للكفَّار ، والاثنان بعدهما للمؤمنين . قوله : { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } . قال عليٌّ رضي الله عنه : هي الملائكة تُسبح أرواح المؤمنين . قال الكلبيُّ : كالذي يسبح في الماء ، فأحياناً يَنْغَمِسُ ، وأحياناً يرتفع يسلُّونها سلاًّ رفيقاً بسهولة ، ثم يدعُونهَا حتى تستريح . وقال مجاهدٌ وأبو صالحٍ : هي الملائكة ينزِلُونَ من السماء مُسْرِعينَ لأمر الله تعالى ، كما يقال للفرس الجواد : سابحٌ إذا أسرع في جريه ، وعن مجاهد : السابحات : الموت يسبح في نفوس بني آدم . وقيل : هي الخيل الغزاة . قال عنترةُ : [ مجزوء الكامل ] @ 5087 - والخَيْلُ تَعْلمُ حِينَ تَسْـ ـبَحُ في حِيَاضِ المَوْتِ سَبْحاً @@ وقال قتادة والحسنُ : هي النجوم تسبحُ في أفلاكها ، وكذا الشمس والقمر . قال تعالى : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] . وقال عطاءُ : هي السُّفن تسبحُ في الماءِ . وقال ابن عباسٍ : أرواح المؤمنين تسبحُ شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته حين تخرج . قوله تعالى : { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } . قال عليٌّ رضي الله عنه : هي الملائكة ، تسبقُ الشياطينَ بالوَحْيِ إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وهو قول مسروق ومجاهد . وعن مجاهد - أيضاً - وأبي روق : هي الملائكة سبقت بني آدم إلى العملِ الصَّالحِ ، فتكتبه . وعن مجاهد - أيضاً - الموت يسبقُ الإنسان . وقال مقاتلٌ : هي الملائكة تسبقُ بأرواح المؤمنين إلى الجنَّةِ . وقال ابنُ مسعودٍ : هي أنفس المؤمنين ، تسبقُ إلى الملائكة الذين يقبضونها ، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاءِ الله تعالى . وقال قتادةُ والحسن ومعمر : هي النجوم تسبق بعضها . وقال عطاءٌ : هي الخيلُ التي تسبقُ إلى الجهاد . وقيل : يحتملُ أن تكون " السَّابقات " ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة ، أو نار ؛ حكاه الماورديُّ . قال الجرجانيُّ : وذكر " فالسَّابقَاتِ " بالفاء ؛ لأنها مشتقة من التي قبلها ، أي : واللاتي يَسْبَحْنَ فيسبقن ، قام فذهب ، فهذا يوجبُ أن يكون القام سبباً للذهابِ . قال الواحديُّ : قول صاحب النَّظم غير مطرد في قوله : " فالمُدبِّراتِ أمْراً " ؛ لأنه يبعد ان يجعل السَّبقُ سبباً للتَّدبير . قال ابن الخطيب ويمكن الجواب عن اعتراض الواحديِّ : بأنها لمَّا أمرتْ سبَحتْ ، فسَبقَتْ ، فدَبَّرتْ ما أمِرَتْ بتَدْبِيرِهِ ، فتكون هذه أفعالاً يتَّصِلُ بعضها ببعض ، كقولك : قام زيد ، فذهب ، فضرب عمراً ، أو لمَّا سبقُوا في الطَّاعاتِ يُسَارِعُونَ إليها ، ظهرت أمانَتهُمْ ، ففوَّض إليهم التَّدبيرَ . قوله : { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } . قيل : " أمْراً " مفعول بالمُدبِّراتِ . وقيل : حال ، تُدبِّرهُ مأمورات ، وهو بعيد . قال القشيريُّ : أجمعوا على أن المراد : الملائكة . وقال الماورديُّ : فيه قولان : أحدهما : الملائكةُ ، قاله الجمهور . والقول الثاني : هي الكواكب السبع ، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل . وفي تدبيرها الأمور وجهان : أحدهما : تدبيرُ طُلوعِهَا وأفُولِهَا . والثاني : في تدبير ما قَضى الله - تعالى - فيها من تقليب الأحوال . وحكى هذا القول - أيضاً - القشيري في تفسيره ، وأن الله - تعالى - علَّق كثيراً من تدبير العالم بحركاتِ النُّجُومِ ، فأضيف التدبير إليها ، وإن كان من الله - تعالى - كما يُسمَّى الشيء باسم ما يجاوره . وقال شهاب الدِّين : والمراد بهؤلاء إمَّا طوائفُ الملائكة ، وإمَّا طوائفُ خيل الغزاة ، وإما النجوم ، وإمَّا المنَايَا ، وإمَّا بقرُ الوحشِ وما جرى مجراها لسرعتها ، وإما أرواح المؤمنين يعني المذكورين في جميع القسم . فصل في تدبير الملائكة " تَدْبِيْرُ المَلائِكَة " : نزولها بالحلالِ ، والحرام ، وتفصيله , قال ابن عباس : وقتادة ، وغيرهما إلى الله تعالى ، ولكن لمَّا أنزلت الملائكةُ سُمِّيت بذلك ، كما قال تعالى : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 ، 194 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ } [ النحل : 102 ] يعني : جبريل نزَّلهُ على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى هو الذي أنزلهُ . وروى عطاء عن ابن عباس : " فالمُدبِّراتِ أمْراً " ، هي الملائكة وكلَّت بِتدْبِيْرِ أحوال أهلِ الأرض في الرياح والأمطار ، وغير ذلك . قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ ساباط : تدبير أمر الدنيا إلى أربعة : جِبْرِيلِ ، ومِيْكَائِيلِ ، وملكِ الموتِ واسمه عِزْرَائِيلُ ، وإسْرَافِيْل ، فأمَّا جِبْرِيْل ، فمُوكَّلٌ بالرياح ، والجنود ، وأمَّا مِيْكَائِيْل ، فموكَّلُ بالقَطْرِ والنِّباتِ ، وأمَّا ملكُ الموتِ فمُوكَّلٌ بقبض الأرْواحِ في البرِّ والبَحْرِ ، وأما إسْرَافِيلُ ، فهو ينزلُ بالأمر عليهم ، وليس في الملائكة أقربُ من إسرافيل وبينه وبين العرش خَمْسمائةِ عامٍ . وقيل : وُكِّلُوا بأمُورٍ عَرَّفهمُ اللهُ بِهَا . فإن قيل : لِمَ قَالَ : " أمْراً " ، ولم يَقُلْ : أمُوراً ، فإنهم يدبرون أمُوراً كثيرة ؟ . فالجوابُ : أن المرادَ به الجنسُ ، فهو قائم مقام الجمعِ . واعلم أنَّ هذه الكلمات أقسم الله - تعالى - بها ، ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لنا ذلك .