Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 80, Ayat: 1-10)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } أي : كَلحَ بوجههِ ، يقال : عبَسَ وبَسَر وتولى ، أي : أعرضَ بوجهه . قوله : { أَن جَآءَهُ } . فيه وجهان : أحدهما : أنَّه مفعولٌ من أجله ، وناصبه : إمَّا " تولَّى " وهو قول البصريين ، وإمَّا " عَبَسَ " وهو قول الكوفيين ، والمختار مذهب البصريين لعدم الإضمار في الثاني ، وتقدم تحقيق هذا في مسائل النزاع والتقدير : لأن جَاءهُ الأعْمَى فعل ذلكَ . قال القرطبيُّ : إن من قرأ بالمدِّ على الاستفهام ، فـ " أنْ " متعلقة بمحذوف دلَّ عليه { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } والتقدير : أأن جاءهُ اعرض عنهُ وتولى ؟ فيوقف على هذه القراءة على " تولَّى " ، ولا يوقف عليه على قراءة العامة . فصل في سبب نزول الآية قال المفسرون : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتومٍ ، واسمُ مكتُومٍ عاتكةُ بنتُ عامرٍ بن مخزومٍ ، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم صناديدُ قريش : عُتْبَةُ وشيبةُ ابنا رَبِيعةَ ، وأبُو جَهْلٍ بْنُ هشام ، والعبَّاسُ بنُ عبدِ المُطلبِ ، وأميَّةُ بن خلفٍ ، والوليدُ بنُ المُغيرةِ ، يدعوهم إلى الإسلام رجاءَ أن يسلم بإسلامهم غيرُهم ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : عَلِّمني مما علمك الله ، وكرَّر ذلك عليه ، فكره قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه ، فنزلت هذه الآية . قال ابن العربي : أمَّا قول المفسرين : إنه الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف والعباس ، فهذا كله باطلٌ وجهلٌ ؛ لأن أمية والوليد كانا بـ " مكة " وابن أم مكتوم كان بـ " المدينة " ما حضر معهما ، ولا حضرا معه ، وماتا كافرين ، أحدهما : قبل الهجرة ، والآخر في " بدر " ، ولم يقصد أمية " المدينة " قط ، ولا حضر معه مفرداً ، ولا مع أحدٍ ، وإنَّما أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الإسلام ، وقد طمع في إِسلامهم ، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى ، فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكثر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل بغيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء إنَّما اتْباعُه العُمْيَان والسَّفلة والعبيد ، فعبس وأعرضَ عنه ، فنزلت الآية . قال الثوري : فـ " كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءهُ ، ويقول : " مَرْحَباً بمَنْ عَاتَبنِي فِيهِ ربِّي " ، ويقول : " هَلْ مِنْ حَاجَةٍ " ؟ واستخلفهُ على " المدينة " مرتين في غزوتين غزاهما " . قال أنسٌ رضي الله عنه : فرأيته يوم " القادسيَّة " راكباً وعليه دِرْع ، ومعه رايةٌ سوداءُ . فصل في معاتبة الله تعالى رسوله قال ابن الخطيب : ما فعله ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزَّجْر ، فكيف عاتب الله - تعالى - رسوله على تأديبه ابن أم مكتوم ؟ . وإنما قلنا : إنه كان يستحق التأديب ؛ لأنه وإن كان أعمى لا يرى القوم ، لكنه سمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار ، وكان بسماعه يعرف شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم ، فكان إقدامه على قطع كلام النبي صلى الله عليه وسلم لغرض نفسه قبل تمام غرض النبي صلى الله عليه وسلم معصية عظيمة . وأيضاً : فإنَّ الأهم يقدِّم على المُهِمّ ، وكان قد أسلم ، وتعلَّم ما يحتاج إليه من أمر دينه ، أما أولئك الكفَّار ، فلم يكونوا أسلموا بعد ، وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم ، فكان كلام ابن مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل ، وذلك محرم . وأيضاً : فإنَّ الله - تعالى - ذمّ الذين يناجونه من وراء الحجرات بمجود ندائهم ، فهذا النداء الذي هو كالصَّارف للكفار عن [ قبول ] الإيمانِ أوْلَى أن يكون ذنباً ، فثبت أن الذي فعله ابن أمِّ مكتوم كان ذنباً ومعصية . وأيضاً : فمع هذا الاعتناء بابن أم مكتوم ، فكيف لقب بالأعمى ؟ . وأيضاً : فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يؤدَّب أصحابه بما يراه مصلحة ، والتَّعبيسُ من ذلك القبيل ، ومع الإذن فيه ، كيف يعاتب عليه ؟ . والجواب عن الأول : أنَّ ما فعله ابن أم مكتوم كان من سُوءِ الأدب لو كان عاملاً بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مشغولٌ بغيره ، وأنَّه يرجو إسلامهم ، ولكن الله عاتبه حتى لا تنكسر قلوبُ أهْلِ الصُّفَّةِ ، أو ليعلم أنَّ المؤمن الفقير خيرٌ من الغنى ، وكان النظر إلى المؤمن أولى ، وإن كان فقيراً أصلحُ وأوْلَى من الإقبالِ على الأغنياء طمعاً في إيمانهم ، وإن كان ذلك أيضاً طمعاً في المصلحة ، وعلى هذا يخرج قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ } [ الأنفال : 67 ] الآية . وقيل : إنَّما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنِّي لأعْطِي الرَّجُل وغَيرهُ أحَبُّ إليَّ مِنْهُ مخَافَة أن يكُبَّهُ اللهُ على وجْهِهِ " . وقال ابن زيدِ : إنَّما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم ، وأعرض عنه ؛ لأنَّه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه ، فدفعه ابن أم مكتوم ، وأبى إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه , فكان في هذا نوع جفاءٍ منه ، ومع هذا أنزل الله تعالى في حقه : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } ، بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيماً له ، ولم يقل : عَبْسَتَ وتولَّيت . ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيساً له ، فقال : " ومَا يُدْرِيكَ " أي : يعلمك " لَعلَّهُ " ابنُ أم مكتوم " يَزَّكَّى " بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين ، وإنَّما ذكره بلفظ العمى ليس للتحقير ، بل كأنه قيل : إنه بسبب عماه يستحق مزيد الرفق والرأفة ، فكيف يليق بك يا محمد ، أن تخصَّه بالغلظةِ ، وأمَّا كونه مأذوناً لهُ في تأديب أصحابه ، لكن هنا لمَّا أوهم تقديمَ الأغنياء على الفقراءِ ، وكان ذلك مما يوهمُ ترجيح الدنيا على الدِّين ، فلهذا السبب عوتب . فصل فيمن استدل بالآية على جواز صدور الذنوب من الأنبياء قال ابن الخطيب : تمسَّك القائلون بصدورِ الذنب عن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذه الآية . وقالوا : لمَّا عُوتبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك الفعل دلَّ على أنَّه كان معصية . قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لما ذكرنا في الجواب عن الأول ، وأيضاً : فإن هذا من باب الاحتياط وترك الأفضل . قوله تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } ؛ الظاهر أنه أجرى التَّرجي مجرى الاستفهام ، لما بينهما من معنى الطَّلب في التَّعليق ، لأن المعنى منصب على تسليط الدراية على التَّرجي ، إذ التقدير : لا يدري ما هو مترجّى منه التركيب ، أو التذكر . وقيل : الوقف على " يَدْرِي " ، والابتداء بما بعده على معنى : وما يطلعك على أمره ، وعاقبة حاله ، ثم ابتدأ ، فقال : " لعلَّه يزكَّى " . فصل في تحرير الضمير في قوله : " لعله " قيل : الضمير في " لعلَّهُ " للكافر ، يعني : لعل إذا طمعت في أن يتزكَّى بالإسلام . { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } أي : قبول الحق ، " وما يدريك " أنَّ ما طمعت فيه كائن ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } [ الأنعام : 52 ] . وقوله : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ الكهف : 28 ] . قوله : { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } . قرأ عاصم : " فتنفعه " بالنصب . والباقون : بالرفع . فمن رفع ، فهو نسق على قوله : " أو يذَّكرُ " . ومن نصب ، فعلى جواب التَّرجي كقوله في " المؤمن " : { فَأَطَّلِعَ } [ غافر : 37 ] ، وهو مذهب كوفي وقد تقدم الكلام عليه . وقال ابن عطية : في جواب التمني ؛ لأنَّ قوله تعالى : { أَوْ يَذَّكَّرُ } في حكم قوله : { لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } . قال أبو حيان : " وهذا ليس تمنياً إنما هو ترجٍّ " . قال شهاب الدين : إنما يريد التًّمني المفهوم من الكلام ، ويدلُّ له ما قاله أبو البقاء : " وبالنصب على جواب التمني في المعنى " ، وإلاَّ فالفرق بين التمنِّي والترجِّي لا يجهله ابن عطية . وقال مكي : " من نصبه جعله جواب " لَعلَّ " بالفاء ؛ لأنَّه غير موجب ، فأشبه التَّمني والاستفهام ، وهو غير معروف عند البصريين " وقرأ عاصمٌ في رواية الأعرج : " أو يذْكُر " - بسكون الذال ، وتخفيف الكاف مضمومة - مضارع " ذكر " ، والمعنى : أو يتَّعظ بما يقوله : " فتنفعه الذكرى " أي : العِظَةُ . قوله : { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ } قال عطاء : يريد عن الإيمان ، وقال الكلبي : استغنى عن الله ، وقال بعضهم : استغنى أثرى ؛ وهو فاسد ههنا ؛ لأن إقبال النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى ، فأنت تقبل عليه ، ولأنه قال : { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ وَهُوَ يَخْشَىٰ } ولم يقل وهو فقير معدم ، ومن قال : أما من استغنى بماله فهو صحيح ، لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن بما لَهُ من المال . وقوله تعالى : { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } تقدمت فيه قراءتا التثقيل والتخفيف . قال الزجاج : أي : أنت تقبل عليه وتتعرض له وتميل إليه ، يقال تصدى فلان لفلان ، يتصدّد إذا تعرض له ، والأصل فيه تصدد يتصدّد من الصدد ، وهو ما استقبلك وصار قبالتك فأبدل أحد الأمثال حرف علة مثل : تظنيت وقصيت ، وتقضى البازي قال الشاعر : @ 5107ب - تَصدَّى لِوضَّاح كأنَّ جَبينَه سِرَاجُ الدُّجَى يُجْبَى إليه الأساور @@ وقيل : هو من الصدى ، وهو الصوت المسموع في الأماكن الخالية والأجرام الصلبة . وقيل : من الصدى وهو العطش ، والمعنى على التعرض ، ويتمحّل لذلك إذا قلنا أصله من الصوت أو العطش . وقرأ أبو جعفر " تُصْدي " بضم التاء وتخفيف الصاد . أي يصديك حرصك على إسلامه . يقال : صدى الرجل وصديته ، وقال الزمخشري : وقرئ " تُصدي " بضم التاء أي تعرض ، ومعناه يدعوك إلى داع إلى التصدي له ؛ من الحرص والتهالك على إسلامه . قوله : { أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } مبتدأ خبره " عليك " أي ليس عليك عدم تزكيته . والمعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ ، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم . قوله : { يَسْعَىٰ } حال من فاعل " جاءك " والمعنى أن يسرع في طلب الخير ، كقوله : { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الجمعة : 9 ] . وقوله : { وَهُوَ يَخْشَىٰ } جملة حالية من فاعل " يسعى " فهو حال من حال وجعلها حالاً ثانية معطوفة على الأولى ليس بالقوي وفيها ثلاثة أوجه يخشى الله ويخافه في ألاَّ يهتم بأداء تكاليفه ، أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك ، أو يخشى الكبوة فإنه كان أعمى ، وما كان له قائد . قوله { تَلَهَّىٰ } أصله تتلهى من لهي يلهى بكذا أي اشتغل وليس هو من اللهو في شيء . وقال أبو حيان : ويمكن أن يكون منه لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو تنقلب واوه لانكسار ما قبلها . نحو شقي يشقى . فإن كان مصدره جاء بالياء فيكون من مادة غير مادة اللهو . قال شهاب الدين : الناس إنما لم يجعلوه من اللهو لأجل أنه مسند إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه التفعل من اللهو . بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر منه في بعض الأحيان ، ولا ينبغي أن يعتقد غير هذا وإنما سقط الشيخ وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه " عنهو تلهى " بواو وهي صلة لهاء الكناية ، وتشديد التاء والأصل تتلهى فأدغم ، وجاز الجمع بين ساكنين لوجود حرف علة وإدغام ، وليس لهذه الآية نظير . وهو أنه إذا لقي صلة هاء الكناية ساكن آخر ثبتت الصلة بل يجب الحذف ، وقرأ أبو جعفر " تُلَهَّى " بضم التاء مبنياً للمفعول . أي يلهيك شأن الصناديد ، وقرأ طلحة " تتلهى " بتاءين وهي الأصل ، وعنه بتاء واحدة وسكون اللام . فصل فإن قيل قوله : { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } فأنت عنه تلهى كان فيه اختصاصاً . قلنا نعم ، ومعناه إنكار التصدي والتلهي عنه ، أي مثلك خصوصاً لا ينبغي أن يتصدى للغني ، ويتلهى عن الفقير .