Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 83, Ayat: 1-6)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } . " ويلٌ " : ابتداء ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء ، ولو نصب لجاز . وقال مكيٌّ : والمختار في " وَيْل " وشبهه إذا كان غير مضاف الرَّفع ، ويجوز النصب ، فإن كان مضافاً ، أو معرفاً كان الاختيار فيه النَّصب نحو : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ } [ طه : 61 ] ، و " للمُطففِينَ " خبره . والمُطفِّف : المُنْقِص ، وحقيقته : الأخذُ في كيل أو وزنٍ شيئاً طفيفاً ، أي : نزراً حقيراً ، ومنه قولهم : دُون التَّطفيف ، أي : الشيء التافه لقلته . قال الزجاجُ : إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفِّف ؛ لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلاَّ الشيء اليسير الطفيف . فصل في تعلق هذه السورة بما قبلها قال ابن الخطيب : اتصال أوَّل هذه السورة بالمتقدمة أنَّه تعالى بيَّن في آخر تلك السورة أنَّ من صفة يوم القيامة أنه لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً ، والأمر يومئذٍ لله ، وذلك يقتضي تهديداً عظيماً للعصاة ، فلهذا أتبعه بقوله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } والمراد منه الزجر على التطفيف ، وهو البَخْس في المكيال والميزان على سبيل الخفية . واعلم أن الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء ، يقال : ويل لك ، وويل عليك ، وفي اشتقاق لفظ التطفيف قولان : الأول : قول الزجاج المتقدم . والثاني : أنَّ طف الشيء ، هو جانبه وحرفه يقال : طفَّ الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ، ولم يمتلئ ، فهو طفافه وطففه ، يقال : هذا طف المكيال وطفافه إذا قارب ملأه ، لكنه بعدُ لم يمتلئ ، ولهذا قيل للذي " ينقص " الكيل ولا يوفيه مطفف . لأنه إنما يبلغ الطفاف . فصل في نزول الآية روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم " المدينة " ، كانوا من أبْخَس النَّاس كيلاً ، فأنزل الله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } ، فاجتنبوا الكيل ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم ، وقال : " خَمْسٌ بِخمْسٍ ، ما نقص قومٌ العَهْدَ إلاَّ سلَّط اللهُ عليهم عدُوَّهُم ، ولا حكمُوا بغيرِ مَا أنْزَلَ اللهُ إلاَّ فَشَا فِيِهمُ الفقرُ ، ولا ظَهَرَ فِيهمُ الفَاحِشَةُ إلاَّ ظَهَرَ فِيهمُ المَوْتُ ، ولا طَفَّفُوا المِكْيَالَ إلاَّ مُنِعُوا النَّباتَ وأخذُوا بالسِّنينَ ، ولا مَنَعُوا الزَّكاةَ إلاَّ حُبِسَ عَنْهُم المَطرُ " " . وقال السديُّ : قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم " المدينة " ، وبها رجل يقال له : أبو جهينة ، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ، ويكيل بالآخر فأنزل الله تعالى هذه الآية . وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : المطفف الرجل الذي يستأجر المكيال ، وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزن عليه . قوله : { عَلَى ٱلنَّاسِ } . فيه أوجه : أحدها : أنَّه متعلق بـ " اكتالوا " ، و " على " و " من " " يتعاقبان " هنا . قال الفراء : يقال : اكتلتُ على النَّاسِ : اسْتوفَيْتُ مِنهُمْ ، واكْتلتُ مِنهُمْ : أخذتُ مَا عَليْهِمْ . وقيل : " على " بمعنى اكتل على ومنه بمعنى ، والأول أوضح . وقيل : " على " يتعلق بـ " يستوفون " . قال الزمخشري " لما كان اكتيالهم لا يضرهم ، ويتحامل فيه عليهم أبدل " على " مكان " من " للدلالة على ذلك ، ويجوز أن يتعلق بـ " يستوفون " وقدَّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية ، أي : يستوفون على الناس خاصَّة ، فأمَّا أنفسهم فيستوفون لها . وهو حسن . قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } . رُسمتَا في المصحف بغير ألف بعد الواو في الفعلين ، فمن ثم اختلف الناس في " هم " على وجهين . أحدهما : هو ضمير نصب فيكون مفعولاً به ، ويعود على الناس ، أي : وإذا كالوا الناس أو وزنوا الناس ، وعلى هذا فالأصل في هذين الفعلين التعدي لاثنين : لأحدهما بنفسه بلا خلاف وللآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه . وهل كل منهما أصل بنفسه ، أو أحدهما أصل للآخر ؟ فيه خلاف ، والتقدير : وإذا كالوا لهم طعاماً ، أو وزنوه لهم ، فحذف الحرف والمفعول ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 5127 - ولقَدْ جَنيتُكَ أكَمُؤاً وعَساقِلاً ولقَدْ نَهيتُكَ عَن بَناتِ الأوبَرِ @@ أي : جنيت لك . والثاني : أنَّه ضمير رفع مؤكد للواو ، والضمير عائد على " المطففين " ، ويكون على هذا قد حذف المكيل والمكيل له ، والموزون والموزون له . إلا أن الزمخشري رد هذا فقال : " ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً " للمطففين " ، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس ، ، استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا ، وإن جعلت الضمير " للمطففين " انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإن تولوا الكيل ، أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر ؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر " . قال أبو حيان : ولا تنافر فيه بوجه ، ولا رق بين أن يؤكد الضمير ، وألاَّ يؤكد ، والحديث واقع في الفعل ، غاية ما في هذا أن متعلِّق الاستيفاء ، وهو " على الناس " مذكور ، وهو في " كالوهم أو وزنوهم " محذوف للعلم به ؛ لأنَّه من المعلوم أنهم لا يخسرُون ذلك لأنفسهم . قال شهابُ الدين : الزمخشري يريد أن يحافظ على أنَّ المعنى مرتبط بشيئين : إذا أخذوا من غيرهم ، وإذا أعطوا غيرهم ، وهذا إنَّما فهم على تقدير أن يكون الضمير منصوباً عائداً على الناس ، لا على كونه ضمير رفع عائداً على الناس ، لا على كونه رفع عائداً على " المطففين " ، ولا شك أن هذا المعنى الذي ذكره الزمخشري وأراده أتم وأحسن من المعنى الثاني ، ورجَّح الأول سقوط الألف بعد الواو ؛ لأنه دال على اتصال الضمير . إلاَّ أن الزمخشري استدرك فقال : " والتعلق في إبطاله بخط المصحف ، وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ركيك ؛ لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة ، لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعاً ؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع ، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك : " هم لم يدعوا ، وهو يدعو " ، فمن لم يثبتها قال : المعنى كافٍ في التفرقة بينهما ، وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يرتكبان ذلك ، أي : يجعلان الضميرين " للمطففين " ، ويقفان عند الواوين وقيفة ، يبينان بها ما أرادوا " . ولم يذكر فعل الوزن أوَّلاً ، بل اقتصر على الكيل ، فقال : " إذا اكتالوا " ، ولم يقل : إذا اتزنوا ، كما قال ثانياً : " أوْ وزَنُوهُمْ " . قال ابن الخطيب : لأن الكيل والوزن بهما البيع والشراء ، فأحدهما يدل على الآخر . وقال الزمخشري : " كأنَّ المطففين كانوا لا يؤخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين ، لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً " . قوله : " يُخْسِرُونَ " جوابُ " إذا " ، وهو يتعدَّى بالهمزة ، يقال : خسر الرجل وأخسرته أنا ، فمفعوله محذوف ، أي : يخسرون الناس متاعهم . قال المؤرج : يخسرون أي ينقصون بلغة " قريش " . فصل في تفسير الآية قال الزجاج : المعنى : إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل والوزن . أي : إذا استوفوا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن ، " وإذَا كَالُوهُمْ أو وزَنُوهُمْ " أي : كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ، أي : للناس ، ولمَّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً فيه إضرارٌ بهم ، وتحاملٌ عليهم أقيمَ " على " مقام " من " للدلالة على ذلك . وقال الكسائيُّ والفراءُ : حذف الجار وأوصل الفعل ، وهذا من كلام أهل الحجاز ، ومن جاورهم ، يقال : وزنتك حقك ، وكلتك طعامك أي : وزنت لك ، وكلتُ لك ، كما يقال : نصحتك ، ونصحت لك ، وكسيتك ، وكسيت لك . وقال الفراء : المراد اكتالوا من الناس ، و " على " و " من " يتعاقبان ؛ لأنه حق عليه فإذا فلت : اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قلت : اكتلت منك فهو كقولك : استوفيت منك . وقيل : على حذف مضاف ، أي : إذا كالوا مكيلهم ، أو وزنوا لهم موزونهم . قوله : { أَلا يَظُنُّ } : الظَّاهر أنَّها " ألا " التحضيضية ، حضهم على ذلك ، ويكون الظنُّ بمعنى : اليقين . وقيل : هي " لا " النافية دخلت عليها همزة الاستفهام . ومعنى الآية : ألا يستيقن أولئك الذي يفعلون ذلك بأنهم مبعوثون ليوم عظيم ، وهو يوم القيامة ، وفي الظن هنا قولان : أحدهما : أنَّ المراد به : العلمُ ، وعلى هذا التقدير يحتملُ أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدِّقين بالبعث ، ويحتمل ألاَّ يكونوا كذلك لتمكُّنهم من الاستدلال عليه بالفعل . الثاني : أنَّ المراد بالظن هنا : هو الظن نفسه ، لا العلم ، ويكون المعنى : هؤلاء المطففون هَبْ أنهم لا يجزمون بالبعث ، ولكن لا أقل من الظن لوضوح أدلَّته ، فإنَّ الأليق بحكمة الله - تعالى - ورحمته ، ورعايته مصالح خلقه ألاَّ يهمل أمرهم بعد الموت ، وأن يكون لهم نشر وحشر ، وأن هذا الظَّن كافٍ في حصول الخوف . قوله : { يَوْمَ } : يجوز نصبه بـ " مبعوثون " . قال الزمخشريُّ : أو بـ " يبعثون " مقدراً ، أو على البدل من محل اليوم ، أو بإضمار " أعني " ، أو هو مرفوع المحل لإضافته لفعل وإن كان مضارعاً ، كما هو رأيُ الكوفيين ، ويدل على صحة هذين الوجهين ، قراءة زيد بن عليٍّ : " يَوْمَ يقُومُ " بالرفع ، وما حكاه أبو معاذ القارئ : " يومِ " بالجر على ما تقدَّم . فصل في المراد بقيام الناس لرب العالمين قيام الناس لرب العالمين إمَّا للحساب ، وإمَّا قيامهم من القبور . وقال أبُو مسلم : قيامهم له عبارة عن طاعتهم له وانقيادهم ، كقوله تعالى : { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] ، وفي الحديث : " إنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ مِقدارَ ثَلاثِمائةِ سَنَة لا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بأمْرٍ " . وعن ابن عباس : وهو في حقِّ المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة . وفي هذه الآيات مبالغات ، منها أنَّ الويل إنما يذكر عند شدة البلاء ، ومنها الإنكار بقوله تعالى : { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } ، ومنها استعظامه - تعالى - لليومِ ، ومنها تأكيده بما بعده ، وما يوهم ذلك ، وما يقتضيه من خضوعهم وذلتهم ، وفي هذا نكتة ، وهي كأن قائلاً يقول : هذا التشديد العظيم ، والوعيد البليغ ، كيف يكون على التطفيف مع نزارته ، وزهادته ، وكرم المولى وإحسانه ؟ . فأشار بقوله : { لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } إلى أنَّه مُربيهم ومسئول عن أمورهم ، فلا يليق أن يهمل من أمورهم شيئاً . فصل في الكلام على لفظ " المطفف " قال القشيري : لفظ المطفِّف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب ، وإخفائه ؛ وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ويقال : من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه ، فليس بمنصف ، والمباشرة والصحبة من هذه المادة ، والذي يرى عيب الناس ، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة ، ومن طلب حقَّ نفسه من الناس ، ولا يعطيهم حقوقهم ، كما يتطلبه .