Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 85, Ayat: 1-9)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } . هذا قسم أقسم الله تعالى به ، وفي البروج أقوال : قيل : والسَّماء ذات النجوم . قاله الحسنُ ومجاهدٌ وقتادةُ والضحاكُ . وقال ابنُ عباسٍ وعكرمةُ ومجاهدٌ : هي قصور في السماء . وقال مجاهد أيضاً : هي البروج الاثنا عشر ، وهو قول أبي عبيدة ويحيى بن سلام . وقيل : هي منازل القمر . قوله : { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } : وهو يوم القيامة ، وهذا قسم آخر ، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه . قال القفال : يحتمل أن يكون المراد : اليوم الموعود لانشقاق السماء وبنائها ، وبطلان بروجها ، وقوله تعالى : " الموعود " أي : الموعود به . وقال مكيٌّ : " الموعود " : نعت لليوم ، وثمَّ ضمير محذوف به تتم الصفة ، تقديره : الموعود به ، ولولا ذلك ما صحَّت الصفة ؛ إذ لا ضمير يعود على الموصوف من صفته . انتهى . وكأنه يعني أن اليوم موعود به غيره من الناس ، فلا بُدَّ من ضمير يرجع إليه ؛ لأنه موعود به ، وهذا لا يحتاج إليه ، إذ يجوز أن يكون قد تجوز بأن اليوم قد وعد بكذا ، فيصح ذلك ، ويكون فيه ضمير عائدٌ عليه . قوله : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } . قال علي ، وابنُ عباسٍ ، وابن عمر ، وأبو هريرة - رضي الله عنهم - : الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة ، وهو قول الحسن ، ورواه أبو هريرة مرفوعاً - عن النبي صلى الله عليه وسلم : " المَوعُودُ : يومُ القيامة ، واليَوْمُ المشهودُ : يَوْمَ عَرفةَ ، والشَّاهِدُ : يَوْمَ الجُمعةِ " خرَّجه الترمذي في " جامعه " . قال القشيري : فيوم الجمعة يشهد على عامله بما يعمل فيه . قال القرطبيُّ : وكذلك سائر الأيام والليالي ، لما روى أبو نعيم الحافظ عن معاوية ابن قرة ، عن معقل بن يسارٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لَيْسَ مِنْ يوْمٍ يَأتِي عَلى العَبْدِ إلا يُنَادي فيه : يا ابْنَ آدمَ أنا خَلقٌ جدِيدٌ ، وأنَا فيمَا تَعْمَلُ علَيْكَ شَهِيدٌ ، فاعْمَلْ فيَّ خيراً أشْهَد لَكَ فيهِ غداً ، فإنِّي لوْ قَدْ مَضيْتُ لَمْ تَرَنِي أبَداً ، ويقُول اللَّيْلُ مِثْلَ ذلِكَ " حديث غريب . وحكى القشيريُّ عن ابن عمر وابن الزُّبيرِ : أن الشاهد يوم الأضحى . وقال سعيد بن المسيب الشاهد يوم التروية ، والمشهود : يوم عرفة . [ وروي عن علي - رضي الله عنه - : الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم النحر ] وعن ابن عباس والحسين بن علي - رضي الله عنهم - : المشهود : يوم القيامة ، لقوله تعالى : { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ هود : 103 ] وعلى هذا فقيل : الشاهد هو الله تعالى ، وهو مروي عن ابن عباسٍ ، والحسن ، وسعيد بن جبير لقوله تعالى : { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } [ النساء : 79 ] وقوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : الشاهد : محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] ، وقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وقوله تعالى : { وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] . وقيل : الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يشهدون على أممهم ؛ لقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] . وقيل : آدم عليه الصلاة والسلام . وقيل : عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - لقوله تعالى : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] والمشهود أمته . وعن ابن عباس ومحمد بن كعب : الشاهد : الإنسان ، لقوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] . وقال الحسين بن الفضل : الشاهد هذه الأمة ، لقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } [ البقرة : 143 ] ، والمشهود بنو آدم . قوله تعالى : { قُتِلَ } . هذا جواب القسم على المختار ، وإنما حذفت اللام ، والأصل : " لقتل " ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 5153 - حَلفْتُ لَهَا باللهِ حَلفَة فَاجرٍ لنَامُوا فمَا إنْ مِنْ حَديثٍ ولا صَالِي @@ وإنما حسُن حذفها للطول كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] . وقيل : تقديره ، لقد قتل ، فحذف " اللام وقد " ، وعلى هذا فقوله " قُتِلَ " خبر ، لا دعاء . وقيل : هي دعاءٌ ، فلا يكون جواباً . وفي الجواب حينئذ أوجه : أحدها : أنه قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ } [ البروج : 10 ] . الثاني : قوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] قاله المبرد . الثالث : أنه مقدر ، فقال الزمخشري ولم يذكر غيره : هو محذوف يدل عليه قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } كأنَّه قيل : أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون ، كما لعن أصحاب الأخدود ثم قال : " قُتِلَ " دعاءٌ عليهم كقوله تعالى : { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] . وقيل : التقدير : لتبعثن . وقيل : فيه تقديم وتأخير ، قتل أصحاب الأخدود والسَّماء ذات البروج ، قاله أبو حاتم . قال ابن الأنباري : وهذا غلط ؛ لأنه لا يجوز لقائل أن يقول : والله قام زيد ، على معنى : قام زيد والله . وقرأ الحسن وابن مقسم : " قُتِّل " بتشديد التاء مبالغة أو تكثيراً . قوله : { أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } ، أي : لعن أصحاب الأخدود . قال ابن عباس : كل شيء في القرآن " قُتِلَ " فهو : لُعِنَ ، والأخدود الشقُّ العظيم المستطيل الغائص في الأرض . قال الزمخشريُّ : والأخدود : الخدُّ في الأرض وهو : الشق ، ونحوهما بناء ومعنى : الخق والأخقوق ، ومنه : " فَسَاخَتْ قوائمه في أخاقيق جرذان " انتهى . فالخَدُّ : في الأصل مصدر ، وقد يقع على المفعول ، وهو الشق نفسه ، وأمَّا الأخدود فاسم له فقط . وقال الراغب : الخد والأخدود : شق في الأرض مستطيل غائص ، وأصل ذلك من خَدَّي الإنسان ، وهما ما اكتنفا الأنف عن اليمين والشمال ، فالخَدُّ : يستعار للأرض ونحوها كاستعارة الوجه ، وتخدد اللحم بزواله عن وجه الجسم ، ثم يعبر بالمخدود عن المهزول والخداد : وسم في الخد . وقال غيره : سمي الخدُّ خدَّا ؛ لأن الدموع تخُد فيه أخاديدَ ، أي : مجاري ، وجمع الأخدود : أخاديد ، والمخدَّة ؛ لأن الخد يوضع عليها ، ويقال : تخدَّد وجه [ الرجل ] إذا صارت فيه أخاديد من جراحٍ . فصل في نزول السورة هذه السورة نزلت في تثبيت المؤمنين ، وتصبيرهم على أذى المشركين ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ، فيعلموا أنَّ كفارهم عند الله - تعالى - بمنزلة الأمم السابقة . وكان من حديث أصحاب الأخدود : أنه كان لبعض الملوك ساحرٌ ، فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهبٌ ، فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب ، ثم رأى في طريقه ذات يوم حيَّة قد حبست الناس ، فقال : اللَّهم إن كان هذا الراهب أحبَّ إليك من الساحر فقوّني على قتل هذه الحيَّة ، وأخذ حجراً فرماها به فقتلها ، فأعرض الغلام عن تعلم السحر ، واشتغل بطريقة الراهب ، ثم صار إلى حيث يبرئُ الأكمه والأبرص ، ويشفي من الأذى ، فاتفق أن عميَ جليس الملك ، وأتاه بهدايا كثيرة ، وقال له : إن أنت شفيتني ، فهي لك أجمع ، فقال الغلام : إني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله - تعالى - دعوته شفاك ، فآمن بالله ، فشفاه الله ، فأبرأه فلما رآه الملك ، قال : من ردَّ عليك بصرك ؟ قال : ربَّي ، فغضب الملك وقال : هل لك ربٌّ غيري ؟ قال : ربِّي وربُّك الله ، فعذبه حتى دلَّ على الغلام ، فجيء بالغلام ، فقال له الملك : يا بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص ، وتفعل وتفعل ؟ فقال : إني لا أشفي أحداً ، إنَّما يشفي الله تعالى ، فأخذه ، فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب ، فجئ بالراهب ، فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقَّه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبلِ كذا وكذا ، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه من ذُروتهِ ، فذهبوا به ، وصعدوا به الجبل ، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فزَحَفَ بهم الجبلُ ، فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه ، وقال : احملوه في سفينة وتوغّلوا به في البحر ، فإن رجع عن دينه وإلاَّ فأغرقوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ، ونجا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، وقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ ، وتصلبني على جذعِ نخلةٍ ، ثم تأخذ سهماً من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبدِ القوس ، ثم قل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارم به واضرب ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ ، وصلبه على جذعٍ ، ثم أخذ سهماً من كنانته ، فوضعه في القوسِ ، ثم قال : بسم الله رب الغلام ، ورماه به فوقع السهم على صدغه ، فمات ، فقال الناس : آمنَّا برب الغلام ، فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك أوقدتْ فيها النيران ، وقال : من لم يرجع منهم طرحته فيها ، حتى جاءت امرأة ومعها صبي ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الصبي : يا أمَّاه ، اصبري ، فإنَّك على الحق ، فصبرت على ذلك . وفي رواية : أنَّ الدابة التي حبست الناس كانت أسداً ، وأن الغلام دفن ، قيل : إنه خرج في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن النار ارتفعت من الأخدود ، فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعاً فأحرقتهم . وقال الضحاكُ : هم قوم من النصارى باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، أخذهم يوسفُ بن شراحيل بن تبع الحميري ، وكانوا نيِّفاً وثمانين رجلاً ، وحفر لهم أخدوداً ، وأحرقهم فيه . حكاه الماورديُّ . وروي غير ذلك . قال مقاتلٌ : أصحاب الأخدود ثلاثة : واحدٌ بنجران ، والآخر : بالشَّام ، والآخر : بفارس ، أما الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي ، وأما الذي بفارس فبختنصّر ، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس ، فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآناً ، وأنزل قرآناً في الذي كان بنجران . قال الكلبي : هم نصارى نجران ، أخذوا بها قوماً مؤمنين ، فخذوا لهم سبعة أخاديد ، كل أخدود أربعون ذراعاً ، وعرضه اثنا عشر ذراعاً ، ثم طرحوا فيه النفط ، والحطب ، ثم عرضوهم عليها فمن أبى قذفوه فيها . فصل في المراد بأصحاب الأخدود قال ابن الخطيب : يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود : القاتلين ، ويمكن أن يكون المراد بهم : المقتولين ، والمشهور أنَّ المقتولين هم : المؤمنون . وروي أن المقتولين هم الجبابرة ، روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفَّار فأحرقتهم ، ونجَّى الله - تعالى - المؤمنين منها سالمين ، وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنسٍ ، والواحدي ، وتأولوا قوله تعالى : { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } [ البروج : 10 ] أي : في الآخرة ، { وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } [ البروج : 10 ] في الدنيا ، فإن فسَّرنا أصحاب الأخدود بالقاتلين ، فيكون قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } دعاءٌ عليهم , أي : لعن أصحاب الأخدود , كقوله تعالى : { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] ، { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } [ الذاريات : 10 ] . أو يكون المعنى : قتلوا بالنار كما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم . وإن فسَّرنا أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار ، فيكون ذلك خبراً لا دعاء . فصل في المقصود من هذه الآية المقصود من هذ الآية : تثبيت قلوب المؤمنين بإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد ، وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار ، ليتأسَّوا بهذا الغلام في صده على الأذى والصلب وبذله نفسه في إظهار دعوته ، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه ، وكذلك صبر الراهب على التمسُّك بالحق حتى نشر بالمنشار ، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى . قوله : { ٱلنَّارِ } . العامة : على جرها ، وفيها أوجه : أحدها : أنه بدل من " الأخدود " بدل اشتمال ؛ لأن " الأخدود " مشتمل عليها ، وحينئذ فلا بد من الضمير . فقال البصريون : مقدرٌ ، تقديره : النار . وقال الكوفيون : " أل " قائمةٌ مقام الضمير ، تقديره : ناره ، ثم حذف الضمير ، وعوِّض عنه " أل " [ وتقدم البحث معه في ذلك ] . الثاني : أنَّه بدل من كل ، ولا بد حينئذ من حذف مضاف ، تقديره : أخدود النار . الثالث : أن التقدير : ذي النَّار ؛ لأنَّ الأخدود هو الشق في الأرض ، حكاه أبو البقاء . وهذا يفهم أنَّ النَّار خفض بالإضافة لتلك الصفة المحذوفة ، فما حذف المضاف قام المضاف إليه مقامه في الإعراب ، واتفق أن المحذوف كان مجروراً ، وقوله : إن الأخدود هو الشق ، تعليل بصحة كونه صاحب نار . الرابع : أن النار خفض على الجوار ، نقله مكيٌّ عن الكوفيين . وهذا يقتضي أن النار كانت مستحقة لغير الجر ، فعدل عنه إلى الجر للجوار ، والذي يقتضي الحال أنه عدل عن الرفع ، ويدل على ذلك أنه قد قرئ في الشاذ : " النَّارُ " رفعاً ، والرفع على أنه خبر ابتداء مضمر ، تقديره : هي النار وقيل : بل هي مرفوعة على الفاعلية تقديره قتلهم : أي : أحرقتهم ، والمراد حينئذ بأصحاب الأخدود : المؤمنون . وقرأ العامة : " الوَقُودِ " بفتح الواو ، والحسنُ ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة ، وعيسى : بضمها ، وتقدمت القراءتان في أول " البقرة " . قوله تعالى : { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } . العامل في " إذ " إما : " قُتِلَ أصحاب " ، أي : قتلوا في هذا الوقت . وقيل : اذكر ، مقدراً ، فيكون مفعولاً به ، ومعنى قعودهم عليها أي : على ما يقرب منها كحافتها ؛ ومنه قول الأعشى : [ الطويل ] @ 5154 - تُشَبُّ لِمقْرُورَيْنِ يَصْطلِيانِهَا وبَاتَ على النَّارِ النَّدَى والمُحلقُ @@ وقال القرطبيُّ : ومعنى " عليها " أي : " عندها " و " على " بمعنى : " عند " ، والضمير في " هم " يجوز أن يكون للمؤمنين ، وأن يكون للكافرين . قوله : { وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } . أي : حضور ، يعني : الكفَّار كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين ، فمن أبي ألقوهُ في النار . وقيل : " على " بمعنى : " مع " أي : وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود . قال ابن الخطيب : و " على " بمعنى : " عند " كقوله تعالى : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ } [ الشعراء : 14 ] أي : عندي . [ وقوله : " شهودٌ " إما حضور قاسية قلوبهم لا يرقون على المؤمنين ، أو هم مجدون في ذلك لا يخطر لهم أنه حق . أو يكون المراد وصف المؤمنين بالتصلُّب في دينهم ، والثبات عليه ، وإن لم يؤثر فيهم حضور هؤلاء ، ولا استحيوا من مخالطتهم . وإما أن يكون المراد بشهودهم شهادة الدعوة ؛ أي : يشهد بعضهم لبعض عند الملك بما فعلوا بالمؤمنين . وإما أنهم متثبّتون في فعلهم متبصرون فيه كما يفعل الشهود ، ثم لا يرحمونهم مع ذلك ] . قوله : { وَمَا نَقَمُواْ } ، العامة ، على فتح القاف . وزيدُ بن عليٍّ ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : بكسرها ، والفصيح : الفتح . وقد تقدم ذلك في سورة " المائدة " و " براءة " . والمعنى : ما نقم الملك وأصحابه من الذين حرَّقوهم { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } إلاَّ أن صدقوا بالله ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 5155 - ولا عَيْبَ فِيهَا غَيْرَ شُكلةِ عَيْنهَا كَذاكَ عِتاقُ الطَّيْرِ شُكلٌ عُيونُهَا @@ وكقول ابن الرقيَّات : [ المنسرح ] @ 5156 - ما نَقَمُوا من بَنِي أميَّة إلـْ ـلا أنَّهُم يَحْلمُونَ إنْ غَضِبُوا @@ يعني أنهم جعلوا أحسن الأشياء قبيحاً وتقدم الكلام على محل " أن " أيضاً في سورة " المائدة " . وقوله تعالى : { أَن يُؤْمِنُواْ } أتى بالفعل المستقبل تنبيهاً على أنَّ التعذيب إنما كان لأجل إيمانهم في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى من الإيمان ، فكأنه قيل : أن يدوموا على إيمانهم ، و " العَزِيز " هو الغالب المنيع ، " الحميد " : المحمود في كل حال . { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } : لا شريك له فيهما . { وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : عالم بأعمال خلقه لا يخفى عليه خافية ، وهذا وعد عظيم للمطيعين ، ووعيد للمجرمين .