Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 120-122)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ } الآية . لمَّا أوجب عليهم موافقة الرسول في جميع الغزوات والمشاهد ؛ أكد ذلك بالنَّهي في هذه الآية عن التخلف عنه . قال المفسرون : ظاهره خبر ومعناه نهي ، كقوله تعالى { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 53 ] ، { وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ } سكان البوادي : مزينة وجُهينة ، وأشجع وأسلم ، وغفار ، قاله ابنُ عباسٍ . وقيل : يتناولُ جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة ، فإنَّ اللفظ عامٌّ ، والتخصيص تحكم ، وعلى القولين فليس لهم أن يتخلَّفُوا عن رسُولِ الله إذا غزا ، { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أي : لا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدَّعة حال ما يكونُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحرِّ والمشقَّةِ ، والمعنى : ليس لهم أن يكرهُوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول - عليه الصلاة والسلام - لنفسه . يقال : رَغِبْتُ بنفسي عن هذا الأمر ، أي : توقفتُ عنه وتركته ، وأرغب بفلان عن هذا الأمر ، أي : أبخل به عليه ولا أتركه . وظاهر الآية وجوب الجهادِ على الكل ، إلاَّ ما خصَّه الدَّليل من المرضى ، والضعفاء ، والعاجزين . ولمَّا منعهم من التخلف ، بيَّن أنهم لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من المشقة إلاَّ وهو يوجب الثَّواب العظيم عند الله تعالى . وذكر أموراً منها بقوله : " ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ " مبتدأ وخبر ، والإشارة به إلى ما تضمَّنهُ انتفاء التخلف عن وجوب الخروج معه . " لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ " وهو العطشُ ، يقال : ظَمِىءَ يَظْمَأُ ظَمَأ ، فهو ظمآنُ وهي ظَمْأى ، وفيه لغتان : القصر والمد ، وبالمد قرأ عمرو بنُ عبيدٍ ، نحو : سَفِه سَفَاهاً ، والظَّمءُ : ما بين الشَّربتيْنِ . ومنها : قوله : " ولاَ نَصَبٌ " أي : إعياء وتعب . { وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي : مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ، يقال : فلان خميص البطنِ ، ومنها قوله : { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ } . " مَوْطِئاً " مفعل ، مِن : وَطِىءَ ، ويحتملُ أن يكون مصدراً بمعنى : الوطْء وأن يكون مكاناً ، والأوَّلُ أظهر ؛ لأنَّ فاعل " يَغِيظُ " يعودُ عليه من غير تأويل ، بخلاف كونه مكاناً ، فإنَّهُ يعُودُ على المصدر ، وهو الوطْءُ ، الدالُّ عليه مكان المُوطِىءُ . والمعنى : لا يضعُ الإنسان قدمه ، ولا يضع فرسه حافره ، ولا يضع بعيره خفه ، بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار . قوله : " يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ " قال ابنُ الأعرابي : يقال : غَاظَه ، وغيَّظَه ، وأغَاظَه بمعنًى واحدٍ ، أي : أغضبه . وقرأ زيدُ بنُ عليّ " يُغِيظُ " بضمِّ الياءِ . وقوله : { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً } النَّيْلُ : مصدرٌ ؛ فيحتمل أن يكون على بابه ، وأن يكون واقعاً موقع المفعول به ، وليس ياؤه مبدلةً من " واو " كما زعم بعضهم ، بل نالهُ يَنولُه مادةٌ أخرى ، وبمعنى آخر ، وهو " المناولة " ، يقال : نِلْتُه أنوله ، أي : تناولتُه ، ونِلْتُه أنَالُهُ ، أي : أدركتُه . والمعنى : ولا ينالهم من العدو أسراً ، أو قتلاً ، أو هزيمةً قليلاً كان أو كثيراً { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } أي كان ذلك قربة عند الله لهم . قال قتادة : " هذا الحكم من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلَّف عنه إلاَّ بعذر " وقال ابنُ زيدٍ : هذا حين كان المسلمون قلّة فلمَّا كثروا نسخها الله بقوله : { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } . وقال عطيَّة : ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم ، وهذا هو الصحيحُ ؛ لأنَّ إجابة الرَّسُولِ واجبة ، وكذلك غيره من الأئمة . قال الوليدُ بنُ مسلم : سمعتُ الأوزاعيَّ ، وابن المباركِ ، وابن جابرٍ ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : إنَّها لأوّلِ هذه الأمَّةِ وآخرها ، وذلك لأنا لو سوَّغْنَا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعضٌ دون بعض فيؤدي ذلك إلى تعطيل الجهادِ . قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } أي : تمرة فما فوقها ، وعلاقة سوط فما فوقها { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً } قال الزمخشريُّ : " الوَادِي " : كل منفرجٍ بين جبال وآكام يكونُ منفذاً للسبيل ، وهو في الأصل فاعل من : ودَى ، إذا سَالَ ، ومنه " الوَدِيّ " . وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض . وجمع على " أوْدِيَة " ، وليس بقياس ، وكان قياسُه " الأوادي " ، كـ " أواصل " جمع : " واصل " ، والأصلُ : ووَاصل ، قلبت " الواو " الأولى همزة . وهم قد يستثقلون واحده ، حتى قالوا : " أقَيْتُ " في " وَقيْتُ " . وحكى الخليل ، وسيبويه ، في تصغير واصل اسم رجل " أوَيْصِل " ، ولا يقولون غيره قال النَّحَّاسُ " ولا أعرفُ فاعلاً وأفعلة سواهُ " وقد استدركَ هذا عليه ؛ فزادُوا : نَادٍ وأندية ؛ وأنشدوا : [ الطويل ] @ 2859 - وفِيهمْ مقامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ وأنديَةٌ ينْتَابُهَا القوْلُ والفِعْلُ @@ والنَّادي المجلسُ . وقال الفرَّاءُ : إنَّه يجمع على " أوْدَاء " كـ " صاحب وأصحاب " ؛ وأنشد لجرير : [ الوافر ] @ 2860 - عَرَفتْ بِبُرقَةِ الأوْدَاءِ رَسْماً مُحِيلاً طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ @@ وزاد الرَّاغبُ في " فاعل وأفْعِلَة " : " نَاجٍ وأنْجِيَة " فقد كمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظٍ ، في " فاعل وأفْعِلَة " . ويقالُ : أوداه : أي : أهلكه ؛ كأنهم تصَوَّرُوا منه إسالة الدَّم . وسمي الدِّية ديةً ؛ لأنَّها في مقابلة إسالة الدَّم . ومنه " الوَدْيُ " وهو ماءُ الفَحْل عند المداعبة ، وما يخرجُ عند البول ، و " الوَدِيُّ " بكسر الدال وتشديد الياء : صغار النَّحل . قوله : " إلاَّ كُتِبَ " هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " ظَمَأ " وما عطف عليه أي : لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً . وأفرد الضَّمير في " به " ، وإن تقدَّمته أشياء ، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة ، أي : كُتبَ لهم بذلك عملٌ صالحٌ . قال ابنُ عبَّاسٍ : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنةٍ . وقوله : " إِلاَّ كُتِبَ " كنظيره . والمضمرُ : يُحتمل أن يعُود على العمل الصالح المتقدم ، وأن يعود على أحد المصدرين المفهومين من " يُنفقُونَ " و " يقْطَعُونَ " ، أي : إلاَّ كتب لهم الإنفاق أو القطع . وقوله : " ليَجْزيهُم " متعلق بـ " كُتِبَ " وقوله : { أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فيه وجهان : الأول : أنَّ الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح ، واللهُ تعالى يجزيهم على الأحسنِ ، وهو الواجبُ والمندوب دون المباح . والثاني : أن الأحسن صفةٌ للجزاء ، أي : يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل ، وهو الثواب . روى خريم بن فاتك قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " من أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ كتب اللهُ لهُ سبعمائة ضعفٍ " . قوله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } الآية . يمكن أن يقال هذه الآية من بقيَّةِ أحكام الجهادِ ، ويمكن أن يقال إنَّهُ كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهادِ . أمَّا الأول فنقل عن ابن عبَّاسٍ أنَّه عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج إلى الجهاد لم يتخلَّف عنه إلاَّ منافق أو صاحب علة . فلمَّا بالغ الله تعالى في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون : والله لا نتخلَّف عن شيء من الغزوات مع الرسولِ ، ولا عن سرية . فلمَّا قدم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - المدينة ، وأرسل السَّرايَا إلى الكُفَّار ، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحدهُ بالمدينة ؛ فنزلت هذه الآية . والمعنى : لا يجُوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد ، بل يجبُ أن يصيروا طائفتين ، طائفةٌ تبقى في خدمة الرسول ، وطائفة أخرى تنفرُ للجهاد ، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الجهاد ، وأيضاً كانت التَّكاليف والشَّرائع تنزلُ ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - يتعلَّم تلك الشرائع والتكاليف ، ويبلغها للغائبين ، وبهذا الطريق يتمُّ أمرُ الدِّين ، وعلى هذا القول ففيه احتمالان : أحدهما : أن تكون الطَّائفة المقيمة هم الذين يتفقَّهُونَ في الدِّين لملازمتهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ومشاهدتهم التنزيل ؛ فكُلما نزل تكليفٌ وشرع ؛ عرفوه وحفظوه ، فإذا رجعت الطائفةُ النَّافرة من الغزو ؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التَّكاليف والشرائع ، وعلى هذا فلا بد من إضمار ، والتقدير : فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة لتفقه المسلمين في الدين ، ولينذروا قومهم ، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى . والاحتمال الثاني : أنَّ التفقهة صفة للطائفة النافرة قاله الحسنُ . والمعنى : فلولا نفر من كُلِّ فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين ، أي : أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين ، وأنَّ العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين ؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أنَّ الله تعالى خصهم بالنُّصرة ، والتأييد وأنَّ الله تعالي يريد إعلاء دين محمدٍ ، وتقوية شريعته ؛ فإذا رجعوا إلى قومهم من الكُفَّار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر ، والفتح ، والظفر ، لعلهم يحذرون ؛ فيتركوا الكفر والنفاق . وأما الثاني : وهو أن هذا حكم مبتدأ ؛ فتقريره أنَّ الله تعالى ، لمَّا بيَّن في هذه السورة أمر الهجرة ، ثم أمر الجهاد ، وهما عبادتان بالسَّفر ، بيَّن أيضاً عبادة التفقه من جهة الرَّسُول وله تعلق بالسفر ، فقال : { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } إلى حضرة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ليتفقهوا في الدِّين ، بل ذلك غيرُ واجب ، وليس حاله كحال الجهادِ مع الرسول الذي يجبُ أن يخرج فيه كل من لا عُذْرَ لهُ . ثم قال : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ } يعني من الفرق الساكنين في البلاد ، طائفة إلى حضرة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ليتفقهوا في الدِّين ، وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى قومهم ؛ فينذروا ويحذروا قومهم ، لكي يرجعوا عن كفرهم ، وعلى هذا فالمرادُ وجوب الخروج إلى حضرة الرَّسُول للفقه والتعلُّم . فإن قيل : أفتدلُّ الآيةُ على وجوب الخروجِ للتفقه في كُلِّ زمان ؟ فالجواب : متى عجز عن التفقه إلاَّ بالسَّفر ؛ وجب عليه السَّفر ، وفي زمان الرسول - عليه الصلاة السلام - كان الأمر كذلك ؛ لأنَّ الشريعة ما كانت مستقرة ، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد ، وشرع حادث . وأمَّا الآن فقد صارت الشريعة مستقرة ؛ فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يجب السَّفرُ . قوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ } " لولا " تحضيضية ، والمرادُ به الأمر ؛ لأنَّ " لوْلاَ " إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل " هَلاَّ " ؛ لأنَّ " هَلاَّ " كلمتان " هل " وهو استفهام وعرض ؛ لأنك إذا قلت للرَّجُلِ : هل تأكلُ ؟ فكأنَّك عرضت ذلك عليه ، و " لا " وهو جحد ، فـ " هلاَّ " مركب من أمرين : العرض ، والجحد . فإذا قلت : هلا فعلت كذا ؟ فكأنك قلت : هل فعلت . ثم قلت معه " لا " أي : ما فعلت ، ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب ، وهكذا الكلام في " لوْلا " لأنك إذا قلت : لوْلاَ دخلتَ عليَّ ، ولوْلا أكلتَ عِنْدِي ، فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به ، لو فعل ، وهكذا الكلام في " لوما " ومنه قوله : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ } [ الحجر : 7 ] فـ " لَوْلاَ " ، و " هَلاَّ " و " لوْمَا " ألفاظ متقاربة ، والمراد بها : الترغيب والتحضيض . و " مِنْهُم " يجوزُ أن يكون صفةً لـ " فِرْقَةٍ " ، وأن يكون حالاً من " طَائِفَةٌ " ؛ لأنَّها في الأصل صفة لها . وعلى كلا التَّقديرين فيتعلقُ بمحذوف . والذي ينبغي أن يقال : إنَّ " مِن كُلِّ فرقةٍ " حال من " طَائفَةٌ " و " مِنْهُم " صفة لـ " فِرْقَةٍ " . ويجوزُ أن يكون " مِن كُلِّ " متعلقاً بـ " نفر " . وفي الضمير من قوله " ليتفَقَّهُوا " قولان : أحدهما : أنَّهُ للطَّائفة النَّافرة . والثاني : للطائفة القاعدة ، والضَّمير في " رَجَعُوا " عائدٌ على النَّافرة . قال ابنُ العربي ، والقاضي أبو بكرٍ ، والشيخُ أبو الحسن : " إنَّ الطَّائفة ههنا واحد ، ويقضون على وجوب العملِ بخبر الواحد ، وهو صحيح ، لا من جهة أن الطائفة تطلق على الواحد ولكن من جهة أنَّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد ، وأنَّ مقابله وهو التَّواتر لا ينحصر " . قال القرطبي : " أنص ما يستدل به على أنَّ الواحد يقال له : طائفة قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } [ الحجرات : 9 ] أي : نفسين ، بدليل قوله : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ الحجرات : 10 ] فجاء بلفظ التثنية ، وأما الضمير في : " اقْتَتلُوا " وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين " . فصل دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ خبر الواحد حجة ، وأنَّ كلَّ ثلاثة فرقة ، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كلِّ فرقة طائفة ، والخارج من الثلاثة يكون اثنين ، أو واحداً ؛ فوجب أن تكون الطائفة إمَّا اثنين أو واحداً ، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم ، لقوله " وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ " وهو عبارة عن أخبارهم . وقوله " لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ " إيجاب على قومهم أن يعملوا بأخبارهم ، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع . قال القاضي : " لا تدل الآية على وجوب العمل بخبر الواحد ؛ لأنَّ الطائفة قد تكونُ جماعة يقع بخبرها الحجة ؛ ولأنَّ قوله : " وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ " يصحُّ وإن لم يجب القبول ، كما أنَّ الشَّاهدَ الواحد يلزمه الشهادة ، وإن لم يلزم القبول ؛ ولأن الإنذار يتضمَّنُ التخويف ، وهذا العذرُ لا يقتضي وجوب العمل به " . والجوابُ : أنَّا بينَّا أنَّ كل ثلاثة فرقة ، وقد أوجب الله أن يخرج من كل فرقة طائفة ؛ فلزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً ؛ فبطل كون الطائفة جماعة يحصلُ العلم بخبرهم ، فإن قيل : إنَّه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف ، فلعلهم بلغُوا في الكثرة إلى حيث يحصلُ العلم بخبرهم . فالجوابُ : أنه تعالى أوجب على كُلِّ طائفة أن يرجعوا إلى قومهم ، فاقتضى رجوع كل طائفة إلى قوم خاص ، ثم إنَّه تعالى أوجب العمل بقول تلك الطائفة ، وهو المطلوب . وأمَّا قوله : " وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ " يصحُّ وإن لم يجب القبولُ ؛ فالجوابُ : أنَّا لا نتمسَّكُ في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله : " وليُنذِرُوا " بل بقوله : " لعَلَّهُم يَحْذرُون " فإنَّه ترغيبٌ منه تعالى في الحذرِ ، بناءً على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار . فصل الفقه معرفة أحكام الدِّين ، وهو ينقسمُ إلى فرض عين ، وفرض كفاية ، ففرض العين مثل : علم الطهارة والصلاة والصوم ، فعلى كل مكلف معرفته ، قال عليه الصلاة والسلام " طلبُ العِلْمِ فريضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ " وكذلك كل عبادة أوجبها الشَّرع على كل واحد يجب عليه معرفة علمها مثل : علم الزكاة إن كان له مال ، وعلم الحج إن وجب عليه . وأما فرض الكفاية ، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد ؛ فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعاً ، وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين ، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث ، قال عليه الصلاة والسلام : " فَضْلُ العَالم على العَابدِ كفَضْلِي على أدْنَاكُم " ، وقال عليه الصلاة والسلام " فقيهٌ واحدٌ أشَدُّ على الشَّيطانِ من ألْفِ عابدٍ " وتقدم الكلام على حد الفقه في اللغةِ في سورة النساء عند قوله { لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ النساء : 78 ] .