Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 117-119)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ } الآية . لمَّا شرح أحوال غزوة تبوك ، وأحوال المتخلِّفين عنها ، عاد إلى شرح ما بقي من أحكامها فقال : { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ } الآية . تاب الله : تجاوز وصفح ، ومعنى توبته على النبيِّ : مؤاخذته بإذنه للمنافقين في التخلُّف ، فقال : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلُّفِ عنه . وقيل : توبةُ الله عليهم استنقاذهم من شدَّةِ العسرةِ . وقيل : خلاصهم من نكايةِ العدوِّ وعبَّر عن ذلك بالتوبة - وإن خرج عن عرفها - لوجود معنى التَّوبة فيه ، وهو الرُّجُوع إلى الحالة الأولى . وقيل : افتتح الكلام به ؛ لأنَّه كان سبب توبتهم ، فذكره معهم ، كقوله تعالى : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] . وقيل : لا يبعدُ أن يكون صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي ، إلاَّ أنَّه تعالى تاب عليهم ، وعفا عنهم ، لأجْلِ تحملهم مشاق السفر في شدة الحر للجهاد ، ثم إنَّه تعالى ضمَّ ذكر الرسول إلى ذكرهم ، تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدِّين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول - عليه الصلاة والسلام - إليهم في قبول التوبة . قوله : " … ٱتَّبَعُوهُ " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ اتباعٌ حقيقي ، ويكون عليه الصلاة والسلام خرج أولاً ، وتبعه أصحابه . وأن يكون مجازاً ، أي : اتبعوا أمرهُ ونهيهُ . وساعةُ العُسْرة عبارةُ عن وقتِ الخروج إلى الغزوِ ، وليس المرادُ حقيقة السَّاعة ، بل كقولهم " يَوْم الكُلاَب " ، و : [ الطويل ] @ 2853 - … عَشِيَّة قَارعْنَا جُذَامَ وحمْيَرا @@ فاستعيرت " السَّاعة " لذلك ؛ كما استعير " الغداة " و " العَشيَّة " في قوله : [ الطويل ] @ 2854 - غَداةَ طفَتْ عَلماءِ بكرُ بنُ وَائِلٍ … @@ وقوله : [ الطويل ] @ 2855 - إذَا جَاءَ يَوْماً وارثي يبتَغِي الغِنَى … @@ فصل في المراد بساعة العسرةِ قولان : الأول : أنها غزوةُ تبوك ، والمرادُ منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدّاً في ذلك السَّفرِ . والعسرة : تعذر الأمر وصعوبته . قال جابِر " حصلت عسرة الظهر ، وعسرة الماءِ ، وعسرة الزَّادِ " . أمَّا عُسرةُ الظهرِ ؛ فقال الحسنُ : كان العشرةُ من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم . وأمَّا عسرة الزَّادِ ، فريما مصَّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها ، حتَّى لا يبقى من التَّمرة إلاَّ النواة ، وكان معهم شيء من شعير مُسَوَّسٍ ، فكان أحدهم إذا وضع اللُّقْمَة في فيه أخذ أنفه من نتن اللُّقمةِ . وأمَّا عسرة الماءِ ، فقال عمرُ : خرجنا في قيظٍ شديدٍ ، وأصابنا فيه عطشٌ شديدٌ ؛ حتَّى إنَّ الرجُل لينحر بعيرهُ فيعصر فرثهُ ، ويشربهُ . وهذه تسمى غزوة العسرة ، ومن خرج فيها فهو جيش العُسرةِ ، وجهزهم عثمان وغيره من الصَّحابة - رضي الله عنهم - . والثاني : قال أبو مسلم " يجوزُ أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال ، والأوقات الشديدة على الرَّسُولِ ، وعلى المؤمنين ؛ فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها . وقد ذكر الله تعالى بعضها في القرآن ، كقوله : { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } [ الأحزاب : 10 ] وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ } [ آل عمران : 152 ] الآية ، والمقصود منه وصف المهاجرين ، والأنصار بأنَّهُم اتَّبعُوا الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة ، وذلك يفيدُ نهاية المدح والتعظيم " . قوله : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ } قرأ حمزة وحفص عن عصام " يَزِيغُ " بالياءِ من تحت والباقون بالتاء من فوق . فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكون اسمُ " كاد " ضمير الشَّأن و " قلوبُ " مرفوع بـ " يزيغُ " ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها ، وأن يكونَ اسمها ضمير القوم ، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذكرُ " المهاجرين والأنصار " ، ولذلك قدَّرهُ أبو البقاءِ ، وابنُ عطيَّة : " من بعد مَا كَادَ القَوْمُ " . وقال أبو حيان - في هذه القراءة - " فيتعيَّن أن يكونَ في " كاد " ضميرُ الشَّأن ، وارتفاع " قُلوبُ " بـ " يزيغُ " ، لامتناعِ أن يكون " قلوب " اسم " كاد " ، و " يزيغُ " في موضع الخبر ؛ لأنَّ النِّيةَ فيه التأخير ولا يجوزُ : من بعد ما كاد قلوب يزيغُ بالياء " قال شهابُ الدِّين : ولا يتعيَّن ما ذكر في هذه القراءة ، لما تقدَّم من أنَّهُ يجوزُ أن يكون اسمُ " كاد " ضميراً عائداً على الجمع أو القوم ، والجملة الفعليَّة خبرها ، ولا محذور يمنع ذلك من ذلك . وقوله : لامتناع أن يكون " قُلُوب " اسم " كَادَ " لزم أن يكون " يزيغُ " خبراً مقدماً ؛ فيلزمُ أن يرفع ضميراً عائداً على " قُلوبُ " ، ولو كان كذلك للزم تأنيثُ الفعل ؛ لأنَّهُ حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي ؛ لأنَّ جمع التَّكسير يجري مجرى المؤنث مجازاً . وأمَّا قراءة التَّاء من فوق ؛ فتحتمل أن يكون في " كَادَ " ضميرُ الشَّأن ، كما تقدَّم ، و " قلوبُ " مرفوع بـ " تزيغُ " وأنَّثَ لتأنيث الجمع ، وأن يكون " قُلوبُ " اسمها ، و " تزيغُ " خبر مقدَّم ، ولا محذور في ذلك ؛ لأنَّ الفعل قد أنَّثَ . وقال أبُو حيَّان : وعلى كُلِّ واحدٍ من هذه الأعرايب الثلاثة إشكال على ما تقرَّر في علم النَّحو مِنْ أنَّ خبر أفعالِ المقاربةِ لا يكون إلاَّ مضارعاً رافعاً ضمير اسمها ؛ فبعضهم أطلق وبعضهم قيَّد بغير " عَسَى " من أفعال المقاربة ، ولا يكونُ سبباً ، وذلك بخلاف " كان " فإن خبرها يرفع الضمير والسببي لاسم " كان " ، فإذا قدَّرْنَا فيها ضمير الشَّأن كانت الجملةُ في موضع نصب على الخبرِ ، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم " كاد " ، بل ولا سبباً له ، وهذا يلزمُ في قراءة التَّاءِ أيضاً . وأما توسط الخبر ؛ فهو مبنيٌّ على جوازِ مثل هذا التركيب في مثل : " كان يقُومُ زيد " ، وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع . وأمَّا الوجه الأخير ؛ فضعيف جداً ، من حيثُ أضمر في " كاد " ضميراً ، ليس له على من يعود إلاَّ بتوهُّم ومن حيثُ يكونُ خبر " كاد " رافعاً سبباً . قال شهابُ الدِّين : كيف يقولُ " والصَّحيحُ المنعُ " وهذا التركيب موجود في القرآن ، كقوله تعالى : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } [ الأعراف : 137 ] { كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } [ الجن : 4 ] ، وفي قول امرىء القيس : [ الطويل ] @ 2856 - وإنْ تَكُ سَاءَتْكَ مِنِّي خَليقَةٌ … @@ فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالة . وإنَّما اختلفوا في تقديره : هل من باب تقديم الخبر ، أم لا ؟ فمن منع ؛ لأنه كباب المبتدأ والخبر الصريح ، والخبرُ الصريح متى كان كذلك ؛ امتنع تقديمهُ على المبتدأ ، لئلاَّ يلتبس بباب الفاعل ؛ فكذلك بعد نسخه ، ومن أجازَ فلأمن اللَّبْس . ثم قال أبُو حيَّان : " ويُخَلِّصُ من هذه الإشكالات اعتقادُ كون " كَادَ " زائدة ، ومعناها مراد ، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكُون مثل " كَانَ " إذا زيدتْ ، يُراد معناها ولا عمل لها ، ويؤيِّدُ هذا التأويل قراءةُ ابن مسعودٍ " مِنْ بعْدِ ما زَاغَتْ " بإسقاط " كاد " وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] مع تأثُّرها بالعامل وعملها فيما بعدها ؛ فأحرى أن يُدَّعَى زيادتها ، وهي ليست عاملةً ولا معمولةً " قال شهابُ الدِّين زيادتُها أباهُ الجمهور ، وقال به من البصريين الأخفشُ وجعل منه { أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] وتقدَّم الكلام [ البقرة : 205 ] على ذلك . وقرأ الأعمشُ ، والجحدريُّ " تُزيغ " بضم التاء ، وكأَّنه جعل " أزَاغَ " ، و " زَاغَ " بمعنى . وقرأ أبَيّ " كَادَتْ " بتاء التأنيث . فصل " كاد " عند بعضهم تفيد المقاربة ، وعند آخرين تفيدُ المقاربة مع عدم الوقوع و " الزيغ " الميل ، أي : من بعد ما كاد تميلُ قلوب فريق منهم ، أو بعضهم ، ولم يرد الميل عن الدِّين بل أراد الميل للتخلف ، والانصراف ؛ فهذه التوبةُ توبةٌ عن تلك المقاربة . واختلفوا في الذي وقع في قلوبهم ، فقيل : هَمَّ بعضهم عند تلك الشدَّة العظيمة أن يفارق الرسول ، لكنه صبر واحْتَسبَ ؛ فلذلك قال تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } لمَّا صبرُوا وندمُوا على ذلك الأمر اليسير . وقال آخرون : بل كان ذلك تحدث النفس الذي كان مقدمة العزيمة ، فلمَّا نالتهم الشِّدة ، وقع ذلك في قلوبهم ، ومع ذلك تلافوا هذا اليسيرَ خوفاً من أن يكون معصية ؛ فلذلك قال تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } . فإن قيل : ذكر التوبة في أوَّل الآية ، وفي آخرها ، فما فائدة التَّكرارِ ؟ فالجوابُ من وجوه : أحدها : أنَّهُ تعالى ابتدأ بذكر التَّوبةِ قبل ذكرِ الذَّنبِ تَطْيبباً لقلوبهم ثم لمَّا ذكر الذَّنبَ أردفه مرة أخرى بذكر التوبة ؛ تعظيماً لشأنهم . وثانيها : إذا قيل : عفا السُّلطان عن فلان ثمَّ عفا عنه ، دلَّ على أنَّ ذلك العفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمالِ والقوَّةِ ، قال عليه الصلاة والسلام : " إنَّ اللهَ ليغفِرُ ذَنْبَ الرَّجُلِ المُسلمِ عشرينَ مرَّة " وهذا معنى قول ابنِ عبَّاس في قوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } يريدُ ازداد عنهم رضا . قال ابنُ عبَّاسٍ : مَنْ تاب اللهُ عليه لمْ يُعذِّبْه أبَداً . وتقدمت هذه الآثار في سورة النساء . وثالثها : أنه قال { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ } وهذا الترتيبُ يدلُّ على أنَّ المراد أنَّهُ تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقعُ في قلوبهم في ساعة العسرةِ ، ثمَّ إنه تعالى زاد عليه فقال : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية ، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلاَّ يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس . ثمَّ قال تعالى { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وهما صفتان لله تعالى ، ومعناهما متقارب ، ويمكنُ أن تكون الرَّأفة عبارة عن إزالة الضَّرر ، والرحمة عبارة عن إيصال المنفعة . وقيل : إحداهما للرَّحمة السَّالفة ، والأخرى للمستقبلة . قوله : { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } الآية . قوله " وعَلى الثَّلاثةِ " يجوزُ أن ينسقَ على " النبيِّ ، أي : تاب على النبي ، وعلى الثلاثة ، وأن ينسقَ على الضَّمير في " عَليْهِمْ " أي : تاب عليهم ، وعلى الثلاثة ، ولذلك كُرِّرَ حرفُ الجر . وقرأ جمهورُ النَّاس " خُلِّفُوا " مبنيّاً للمفعول مشدداً ، من : خلَّفه يخلِّفه . وقرأ أبُو مالك كذلك إلاَّ أنَّه خفَّف اللاَّم . وقرأ عكرمةُ ، وزر بنُ حبيشٍ ، وعمرُو بنُ عبيدٍ ، وعكرمة بنُ هارُونَ المخزميّ ، ومعاذ للقارئ " خَلَفُوا " مبنيّاً للفاعل مخففاً من : " خَلَفَه " . والمعنى : الذين خلفوا ، أي : فسدُوا ، مِنْ : خُلُوف الفمِ . ويجُوزُ أن يكون المعنى أنهم خلفُوا الغازينَ في المدينة . وقرأ أبو العالية ، وأبو الجوزاء كذلك ، إلاَّ أنَّهُمَا شدَّدَا اللام وقرأ أبو رزين ، وعلي بنُ الحسينِ ، وابناه : زيدٌ ، ومحمد الباقرُ ، وابنه جعفر الصادقُ : " خَالفُوا " بألف ، أي : لم يُوافِقُوا الغازين في الخروج . قال الباقرُ " ولوْ خُلِّفُوا لم يكن لهم " . وقرأ الأعمش " وعلى الثَّلاثة المخلَّفين " . و " الظَّن " هنا بمعنى العلم ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2857 - فقُلْتُ لهُم : ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ سراتهُم في الفَارسيِّ المُسَرَّدِ @@ وقوله : { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] ؛ لأنَّه تعالى ذكر هذا الوصفَ في معرض المدح والثناء ، ولا يكونُ ذلك إلا مع علمهم . وقيل : هو على بابه ؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام وقف أمرهم على الوحي ، فهم لم يقطعوا بأنَّ الله ينزل في شأنهم قرآناً ، بل كانوا مُجَوِّزين لذلك ، أو كانُوا قاطعين بأنَّ الله ينزل الوحي ببراءتهم ، ولكنهم جوَّزُوا أن تطول المدّة في بقائهم في الشِّدَّة ، فالظَّن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة . قوله : { أَن لاَّ مَلْجَأَ } " أنْ " هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين ، و " لا " وما في حيِّزها الخبرُ ، و { مِنَ ٱللَّهِ } خبرها ، ولا يجوزُ أن تتعلق بـ " مَلْجَأ " ، ويكون " إلاَّ إليْهِ " الخبر لأنه كان يلزم إعرابه ؛ لأنَّهُ يكون مطوَّلاً . وقد قال بعضهم : إنَّه يجوزُ تشبيهُ الاسم المُطَوَّل بالمضاف فيُنتزعُ ما فيه من تنوينٍ ونونٍ ، كقوله : [ الطويل ] @ 2858 - أرَانِي ولا كُفرانَ للهِ أيَّةً … @@ وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا صَمْتَ يومٌ إلى اللَّيْلِ " برفع " يومٌ " وقد تقدم ذلك [ الأنفال : 48 ] . قوله : " إلاَّ إليه " استثناء من ذلك العامِّ المحذوفِ ، أي : لا ملجأ لأحدٍ إلاَّ إليه كقولك : " لا إله إلاَّ الله " . فصل هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 106 ] . واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين فقيل : ليس المراد أنهم أمروا بالتَّخلفِ ، أو حصل الرِّضا من الرَّسول بذلك ، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً ؟ فيقولُ : بموضع كذا ، لا يريدُ به أنَّهُ أمره بالتخلُّف ، بل لعلَّه قد نهاهُ عنه ، وإنَّما يريدُ أنَّهُ تخلَّف عنه . وقيل : لا يمتنعُ أن هؤلاء الثلاثة كان عزمهم الذهاب إلى الغزوِ ؛ فأذن لهُمُ الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام - في قدر تحصيل الآلات ، فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل ، فصح أن يقال : خلفهم الرسول . وقيل : إنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 106 ] والمرادُ من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة . قال كعبُ بنُ مالكٍ ، وهو أحد الثلاثةِ : قول الله في حقنا { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } ليس من تخلفنا إنَّما هو تأخيرُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ؛ يشير إلى قوله : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 106 ] فصل هؤلاء الثلاثةُ هم : كعب بنُ مالكٍ الشَّاعر ، وهلالُ بنُ أميَّة الذي نزلت فيه آية اللعان ، ومُرارةُ بنُ الرَّبيع . وفي قصتهم قولان : الأولُ : أنَّهم ذهبوا خلف الرَّسولِ - عليه الصلاة والسلام - ، قال الحسنُ : كان لأحدهم أرضٌ ثمنها مائة ألف درهم فقال : يا أرضاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ أمرك ؛ فاذهبي في سبيل الله ، فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ، وكان للثاني أهلٌ فقال : يا أهلاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمرك ؛ فلأكابدن المفاوز حتَّى أصل إليه وفعل . والثالث : ما كان ذا مال ولا أهل فقال : ما لي سبب إلا الضَّن بالحياةِ ، والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلحقوا برسُول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 106 ] . والثاني - وهو قول الأكثرين - : أنهم ما ذهبوا خلف الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - قال كعبٌ : " " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب حديثي ، فلما أبطأت عليه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام : ما الذي حبس كعباً فلمَّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم ، وأتيته فقلتُ : إن كراعي ، وزادي كان حاضراً ، واحتبست بذنبي ، فاستغفر لي فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، ثمَّ إنَّه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة ، وأمر بمباينتهم ، حتى أمر بذلك نساءهم ؛ فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبتْ وجاءت امرأة هلال بن أميَّة وقالت : يا رسول الله لقد بكى ، حتَّى خفتُ على بصره ، حتَّى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى : { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } [ التوبة : 117 ] وقوله : { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرته ، وهو عند أمِّ سلمة فقال : اللهُ أكبرُ ؛ قد أنزلَ اللهُ عُذْرَ أصحَابِنَا " فلمَّا صلَّى الفَجْرَ ذكر ذلك لأصحابه ، وبشرهم بأنَّ الله تاب عليهم ؛ فانطلقُوا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعبٌ : توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال : " لا " فقلتُ : نصفه ، قال : " لا " ، قلت : فثلثه ، قال : " نعم " " . فصل معنى : { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } تقدَّم تفسيره في هذه السُّورةِ وسببه : إعراض الرسول عنهم ، ومنع المؤمنين من مكالمتهم ، وأمر أزواجهم باعتزالهم ، وبقائهم على هذه الحالة خمسين يوماً ، وقيل : أكثر حتَّى ضاقت عليهم أنفسهم ، أي : ضاقت صدورهم بالغمِّ والهمِّ ، ومجانبة الأولياء ، ونظر النَّاس إليهم بعين الإهانةِ ، و " ظَنُّوا " أي : استيقنوا " أن لا مَلْجَأ " لا مفزع من الله إلا إليه . قال ابنُ الخطيبِ : يقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام : " أعوذُ برضَاكَ مِنْ سُخْطكَ وأعُوذُ بعَفوكَ مِنْ غضبِك ، وأعوذُ بكَ مِنْكَ " . قوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ } فيه وجوه : أحدها : قال أهلُ السُّنَّةِ : المرادُ منه أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى ، فقوله : " تَابَ عليْهِمْ " يدلُّ على أنَّ التوبة فعل الله وقوله : " لِيتُوبُوا " يدلُّ على أنَّها فعل العبدِ ؛ فهو نظير قوله : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً } [ التوبة : 82 ] مع قوله { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ } [ النجم : 43 ] وقوله { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ } [ الأنفال : 5 ] مع قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ التوبة : 40 ] وقوله { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ } [ يونس : 22 ] مع قوله : { قُلْ سِيرُواْ } [ الأنعام : 11 ] . وثانياً : تاب عليهم في الماضي ليكون داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل . وثالثها : أصلُ التوبة الرُّجوع أي : تاب عليهم ؛ ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين ، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك . ورابعها : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ } أي : ليداوموا على التوبةِ ولا يراجعوا ما يبطلها . وخامسها : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } لينتفعوا بالتوبة { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } . واعلم أنَّ ذكر " الرَّحيم " عقب ذكر " التَّواب " يدلُّ على أنَّ قبول التوبةِ لمحض الرحمة والكرم ، لا لأجل الوجوب ، كما تقولُ المعتزلةُ ، وذلك يقوي أنَّهُ لا يجبُ عقلاً على الله قبول قوله تعالى : { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } الآية . لمَّا قبل توبة هؤلاء الثلاثة ، ذكر ما يكون كالزَّاجر عن فعل مثل ما مضى ، وهو التخلف عن رسول الله في الجهاد ، أي : اتَّقُوا الله في مخالفة أمر الرسُول { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } أي : مع النبي وأصحابه في الغزوات ، ولا تتخلَّفُوا عنها ، وتجلسوا مع المنافقين في البيوتِ . قال نافعٌ : " مَعَ ٱلصَّادِقِينَ " أي : مع محمد . وقال سعيدُ بن جبيرٍ : مع أبي بكر وعمر . وقال ابن جريج : مع المهاجرين ، لقوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } [ الحشر : 8 ] إلى قوله { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } [ الحشر : 8 ] . وقال ابن عباس : مع الذين صدقت نياتهم ؛ فاستقامت قلوبهم وأعمالهم ، وخرجُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاصٍ ونيّة . وقيل : من الذين صدقوا في الاعتراف بالذَّنب ، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة . فصل دلَّت الآية على فضيلة الصِّدق ، وكمال درجته ، قال ابن مسعودٍ : إنَّ الكذب لا يصلحُ في جدٍّ ولا هزلٍ ، ولا أن يعد أحدُكم صبيَّهُ شيئاً ثم لا ينجزُ له ، اقرءوا إن شئتم ، وقرأ الآية . " وروي أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إنّي أريد أن أومن بك إلاَّ أنِّي أحبُّ الزِّنا ، والخمر ، والسرقة ، والكذب ، والناس يقولون : إنك تُحرم هذه الأشياء ، ولا طاقة لي على تركها بأسرهَا ، فإن قنعت منِّي بتركِ واحد منها آمنت بك ، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلام : " اتْرُكِ الكذبَ " ؛ فقبل ذلك ثُمَّ أسلم ، فلمَّا خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر ، فقال : إن شربتُ الخمر فسألني رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن شربها ، وكذبت فقد نقضت العهد ، وإن صدقتُ أقام الحدَّ عليَّ ، فتركها ، ثمَّ عرضوا عليه الزِّنا ؛ فجاء ذلك الخاطرُ ، فتركه ، وكذا في السرقة ، فعاد إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أحسن ما قلت ، لمَّا منعتني من الكذب انسدت أبوابُ المعاصي عليَّ ، وتاب عن الكُلِّ " وقال ابنُ مسعود : " عَليْكُم بالصِّدقِ فإنَّه يقربُ إلى البرِّ ، والبرُّ يقرب إلى الجنَّة ، وإنَّ العبْدَ ليصدق ؛ فيكتب عند الله صدِّيقاً ، وإياكم والكذبَ ، فإنَّ الكذب يقربُ إلى الفُجُورِ ، والفُجُورِ يُقرِّبُ إلى النار ، وإن الرَّجُلَ ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّاباً ، ألا ترى أنه يقال : صَدَقْتَ ، وبَرَرْتَ ، وكذَبْتَ ، وفَجَرْتَ " . وقيل في قول إبليس : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 ، 83 ] إن إبليس لو لمْ يذكر هذا الاستثناء لصار كاذباً في ادعاء إغواء الكلِّ ، فكأنه استنكفَ عن الكذبِ ؛ فذكر هذا الاستثناء ، وإذا كان الكذبُ شيئاً يستنكفُ منه إبليس ، فالمسلم أوْلَى أن يستنكفَ منه ومن فضائل الصِّدق أنَّ الإيمان منه لا من سائر الطَّاعات ، ومن معايب الكذب أنَّ الكفر منه لا من سائر الذنوب .