Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 19-22)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَآجِّ } الآية . الجمهور على قراءة " سِقايةَ " ، و " عِمارةَ " مصدرين على " فِعالةٍ " ، كـ : الضِّيافة ، والوِقاية والتِّجارة ، ولم تقلب الياء همزة ، لتَحصُّنها بتاء التأنيث ، بخلاف " رِدَاءة ، وعِباءة " ، لطروء تاء التأنيث فيهما ، قاله الزمخشريُّ . واعلم أنَّ : السِّقاية فعلٌ ، وقوله { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ } [ التوبة : 18 ] إشارة إلى الفاعل ، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل ، والصفة بالموصوف ، وإنّه محال ، وحينئذ فلا بُدَّ من حذف مضاف ، إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثَّاني ، ليتصادق المجعولان ، والتقدير : أجعلتم أهل سقايةِ الحاجِّ ، وعِمارة المسجد الحرام كمَنْ آمَنَ ، أو أجعلتم السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمَنَ ، أو كعملِ من آمَنَ ، ونظيره : { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ } [ البقرة : 177 ] ، وقيل : السِّقاية والعمارة يعني : السَّاقي والعامر ، وهذا كقوله : { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ } [ طه : 132 ] ، أي : للمتقين ، والمعنى : أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كـ { كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } . ويدلُّ عليه قراءة أبي وابن الزبير والباقين كما يأتي قريباً . وقرأ ابنُ الزُّبير ، والباقر ، وأبو وجزة " سُقَاة … وعمرة " بضمِّ السين ، وبعد الألف تاء التأنيث ، و " عَمَرة " بفتح العين والميم دون ألف ، وهما جمع " ساقٍ " ، و " عامر " ، كما يقال : قاضٍ وقُضَاة ، ورَام ورُمَاة ، وبارٌّ وبَرَرة ، وفاجِر وفَجَرة . والأصل : سُقَيَة ، فقُلبت الياء ألفاً ، لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ولا حاجة هنا إلى تقدير حذف مضافٍ ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور . وقرأ سعيد بن جبير كذلك ، إلاَّ أنه نصب " المسجِد الحرَام " بـ " عَمَرَة " ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين ؛ كقوله : [ المتقارب ] @ 2771 - … ولا ذَاكِرِ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاَ @@ وقوله : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } [ الإخلاص : 1 - 2 ] . وقرأ الضحاك " سُقَاية " ، " عمرة " ، وهما جمعان أيضاً ، وفي جمع " ساقٍ " على " فُعَالة " نظرٌ لا يَخْفى ، والذي ينبغي أن يقال : أن يُجْعل هذا جمعاً لـ " سِقْي " و " السِّقْي " هو الشيء المَسْقِي كـ " الرِّعْي ، والطِّحن " . و " فِعْل " يُجمع على " فُعال " ، قالُوا : ظِئْر وظُؤار ، وكان من حقه ألا تدخل عليه تاء التأنيث ، كما لم تدخل في : " ظُؤار " ، ولكنه أنَّث الجمع ، كما أنَّث في قولهم : " حِجَارة ، وفُحولة " ، ولا بُدّ حينئذٍ من تقدير مضافٍ ، أي : أجعلتم أصحاب الأشياءِ المَسقيَّة كمَنْ آمَنَ ؟ . فصل روى النُّعْمانُ بنُ بشيرٍ قال : كُنْتُ عِنْدَ منبَرِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ : لا أُبَالِي ألاَّ أعملَ عملاً بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ، وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل ممَّا قلتم ، فزَجرهُمْ عمرُ وقال : لا تَرفعُوا أصوَاتكُم عندَ مِنبرِ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وهُو يَوْمُ الجُمعةِ - ولكنْ إذا صَلَّيتُ دخلتُ واستَفْتيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمَا اختَلَفْتُم فيه ، فدخل ، فأنزلَ الله عزَّ وجلَّ هذه الآية إلى قوله : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } . وقال ابنُ عبَّاسٍ " إنَّ عليّاً أغلظ الكلام للعبَّاس حين أسر يوم بدر ، فقال العبَّاسُ : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام ، والهجرة ، والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله هذه الآية . وأخبر أنَّ عمارتهم المسجد الحرام ، وقيامهم على السقاية ، لا ينفعهم مع الشرك بالله ، وأنَّ الإيمان بالله ، والجهاد مع نبيه خيرٌ مِمَّا هُمْ عليه " . وقال الحسنُ والشعبيُّ ومحمدُ بن كعبٍ القرظيُّ " نزلت في عليٍّ بن أبي طالب ، والعباس ، وطلحة بن أبي شيبة ، افتخروا ، فقال طلحةُ : أنا صاحبُ البيتِ ، بيدي مفتاحه ، ولو أردتُ بتُّ فيه ، وقال العبَّاس : أنا صاحبُ السِّقاية ، والقائم عليها ، وقال علي : لا أدري ما تقولون ، لقد صلَّيْتُ إلى القبلة ستة أشهر قبل النَّاس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله هذه الآية " . وقيل : إنَّ عليّاً قال للعباس بعد إسلامه : يا عم ألا تهاجرون ، ألا تحلقُون برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألستُ في أفضل من الهجرةِ ؟ أسقي الحاج ، وأعمر البيت الحرام ؟ فنزلت هذه الآية ، فقال العباس : ما أراني إلاَّ تارك سقايتنا ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أقيمُوا على سقَايتكُم فإنَّ لَكُم فيهَا خَيْراً " . وقيل : إنَّ المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج ، وعمار المسجد الحرام ، فنحن أفضل أم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟ فقالت اليهودُ لهم : أنتُمْ أفْضَلُ . قال ابن الخطيب : " هذه المفاضلة تحتملُ أن تكون جرت بين المسلمين ، ويحتمل أن تكون جرت بين المسلمين والكفار ، أمَّا كونها جرت بين المسلمين ، فلقوله تعالى بعد ذلك { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ } ، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح درجة أيضاً عند الله ، وذلك لا يليق إلاَّ بالمؤمنين ، وأمَّا احتمال كونها جرت بين المؤمنين والكفار ، فلقوله تعالى { كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ } وهذا يدل على أنَّ هذه المفاضلة وقعت بين من لم يُؤمن بالله وبين من آمن بالله " . وهذا هو الأقرب ؛ لأن المفسرين نقلوا في تفسير قوله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ } [ التوبة : 18 ] أنَّ العباس احتجَّ على فضائل نفسه ، بأنَّهُ عمر المسجد الحرام ، وسقي الحاج ، فأجاب الله عنه بوجهين : الأول : ما تقدَّم في الآية الأولى : أنَّ عمارة المسجد الحرام توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن ، أمَّا إذا صدرت عن الكافر ، فلا فائدة فيها ألبتة . والثاني : هذه الآية ، وهو أن يقال : سَلَّمنا أنَّ عمارة المسجد الحرام ، وسقي الحاج ، يوجب نوعاً من الفضيلة ، إلاَّ أنها بالنسبة إلى الإيمان والجهاد كمقابلة الشيءِ الشَّريف الرفيع جدّاً بالشَّيء الحقير التافه جدّاً ، وإنَّه باطل ، وبهذا الطريق حصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها . فصل روى عكرمةُ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السِّقاية فاستسقى ، فقال العبَّاسُ يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها ، فقال : اسقني . فقال يا رسُول الله : إنَّهم يجعلون أيديهم فيه ، قال : اسقني ، فشرب منه ، ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها ، فقال : اعملوا فإنَّكم على عملٍ صالح ، ثم قال : لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا ، يعني : عاتقه وأشار إلى عاتقه . وعن بكر بن عبد الله المزنيّ : قال : كنتُ جالساً مع ابنِ عبَّاسٍ عند الكعبة فأتاه أعرابيّ فقال : ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ ؟ أمِنْ حاجةٍ بكم ؟ أمِنْ بُخْلٍ ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ : الحمدُ للهِ ما بِنَا من حاجة ولا بخل ، إنَّما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته ، وخلفه أسامة ، فاستسقى ، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب ، وسقى فضله أسامة ، فقال : أحسنتم وأجملتم ، كذا فاصْنَعُوا ، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحسنُ : " كانت السِّقاية بنبيذ الزبيب " . وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً ، فكسر منه بالماء ثلاثاً ، وقال : إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء . وأمَّا عمارة المسجد الحرامِ فهي تجهيزه وتحسين صورة جدرانه . قوله { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ } في الجملة وجهان : أظهرهما : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر تعالى بعدم تساوي الفريقين . والثاني : أن يكون حالاً من المفعولين للجعل ، والتقدير : سَوَّيْتُم بينهم في حال تفاوتهم ، ولمَّا نفى المساواة بينهما ، وذلك لا يفيد من هُوَ الرَّاجح ؛ فنبَّه على الرَّاجح بقوله { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أي : إنَّ الكافرين ظلمُوا أنفسهم ، لأنهم تركُوا الإيمان ، ورضُوا بالكفر فكانوا ظالمين ، لأنَّ الظُّلمَ عبارةٌ عن وضع الشيء في غير موضعه ، وأيضاً ظلموا المسجد الحرام ، فإنَّه تعالى جعله موضعاً لعبادة الله تعالى ، فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان . قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } الآية . لمَّا ذكر ترجيح الإيمان ، والجهاد على السِّقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز ؛ أتبعه بذكر هذا التَّرجيح بالتَّصريح ، أي : مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممَّن اتَّصف بالسِّقاية والعمارة ، والسَّبب فيه ؛ لأن الإنسان ليس له إلاَّ الروح ، والبدن ، والمال ، فأمَّا الرُّوح فإنه لمَّا زال عنه الكفر ، وحصل فيه الإيمان ، فقد وصل إلى مراتب السعادات وأما البدن والمال ، فبالهجرة والجهادِ صارا معرَّضين للهلاك ، ولا شكَّ أنَّ النفس والمال محبوب الإنسان ، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلاَّ عند الفوز بمحبوب أكمل من الأوَّلِ ، فلولا أنَّ طلب الرضوان أتمُّ عندهم من النفس والمال ؛ وإلاَّ لما رجَّحُوا جانب الآخرة على النفس والمال طلباً لمرضاة الله تعالى ، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السِّقاية والعمارة بمجرد الاقتداء بالآباء ، وطلب الرياسة والسُّمعة ؟ قوله : { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ } لم يقُلْ : أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة ؛ لأنَّه لو ذكرهم ، أوهم أن تلك الفضيلة بالنسبة إليهم ، فلمَّا ترك ذكر المرجوح ، دلَّ ذلك على أنَّهُمْ أفضل من كل من سواهم على الإطلاق . فإن قيل : لمَّا أخبرتم بأنَّ هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين ، فكيف قال في وصفهم : " أعْظَمُ دَرَجَةً " ؟ . فالجوابُ من وجوه : الأول : أن هذا ورد على ما قدَّرُوا لأنفسهم من الدَّرجة والفضيلة عند الله ، ونظيره قوله تعالى : { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 59 ] ، وقوله { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ } [ الصافات : 63 ] . الثاني : أنَّ المراد : أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات ، تنبيهاً على أنَّهم لمَّا كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى . الثالث : أن المراد ، أنَّ المؤمن المُهاجِرَ المجاهد أفضل ممَّن على السقاية والعمارة ، والمراد منه : ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال ، ولا شك أنَّ السِّقاية والعمارة من أعمال الخير ، وإنَّما بطل ثوابها في حقِّ الكفار ؛ لأن الكفر منع من ظهور ذلك الأثر ، ثُم بيَّن تعالى أنهم : " هُمُ الفائِزُون " وهذا للحصر ، والمعنى : أنهم هم الفائزون بالدرجة العلية المشار إليها بقوله : " عِنْدَ اللهِ " وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان . وقد تقدَّم اختلاف القراء في : " يُبَشِّرهُم " وتوجيه ذلك في " آل عمران " وكذلك في الخلاف في { وَرِضْوَانٌ } [ آل عمران : 15 ] . وقرأ الأعمش " رضُوان " بضمِّ الراء والضَّاد ، وردَّها أبُو حاتم ، وقال : " لا يجوز " . وهذا غيرُ لازم للأعمش فإنه رواها ، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب ، قالوا : " السُّلُطان " بضم السين واللام . قوله { لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ } يجوز أن تكون هذه الجملةُ صفةً لـ " جَنَّاتٍ " وأنْ تكون صفةً لـ " رَحْمَة " ؛ لأنَّهم جَوَّزُوا في هذه الهاء أن تعود للرَّحمة ، وأنْ تعود للجنات ، وجوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله : " يُبَشِّرهُمْ " ، كأنَّه قيل : لهم في تلك البشرى . وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً ، وحالاً إن قدَّرْتَه معرفةً . ويجوزُ أن يكون " نعيمٌ " فاعلاً بالجارِّ قبله ، وهو أولى ، لأنَّه يصير من قبيل الوصف بالمفرد ، ويجوزُ أن يكون مبتدأ ، وخبره الجار قبله ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك مراراً [ الأنفال : 72 ] . قوله : " خَالِدِينَ " حالٌ من الضمير في " لهم " . واستدل أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الخلود يدلُّ على طول المكث ، ولا يدل على التأبيد ، قالوا : لأنَّهُ لو كان الخلود يفيد التَّأبيد ، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخُلُود تكراراً ، وإنه لا يجوز