Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 23-24)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ } الآية . والمقصود من هذه الآية : أن تكون جواباً عن شبهة أخرى ، ذكروها في أن البراءة من الكافر غيرُ ممكنة ، فإنَّ المسلم قد يكون أبوه كافراً أو ابنُه والكافر قد يكون أبوهُ أو أخوه مسلماً والمقاطعة بين الرَّجُلِ وأبيه وابنه وأخيه كالمتعذر ، فأزال اللهُ تعالى هذه الشبهة بهذه الآية . ونقل المفسِّرون عن ابنِ عبَّاسٍ " أنَّه تعالى لمَّا أمر المسلمين بالهجرةِ قبل فتح مكَّة ، فمنْ لم يهاجر لم يقبل اللهُ إيمانه ، حتى يجانب الآباء والأقرباء إن كانُوا كفاراً " . قال ابنُ الخطيب " وهذا مشكل ؛ لأنَّ الصحيح أنَّ هذه السورة إنَّما نزلت بعد فتح مكة ، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه ؟ وإنَّما الأقربُ أنَّهُ تعالى أمر المؤمنين بالتبرِّي عن المشركين بسبب الكفر ، لقوله : { إَنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ } أي : اختاروا الكفر على الإيمان ، والاستحباب : طلب المحبة ، يقال استحب له ، بمعنى : أحبه ، كأنه طلب محبته " . ولمَّا نهى الله عن مخالطتهم ، وكان النَّهي يحتملُ أن يكُون نَهْيَ تنزيهٍ وأن يكون نهي تحريم ، ذكر ما يزيل الشبهة فقال : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } . قال ابن عباسٍ " يريدُ : مشركاً مثلهم ، لأنه رضي بكفرهم ، والرَّضى بالكُفرِ كفر ، كما أنَّ الرضا بالفسقِ فسق " . قال القاضي : " هذا النَّهي لا يمنعُ أن يتبرأ المرءُ من أبيه في الدُّنيا ، كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ، ومن استعمله في الأعمال " . قوله : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ } " آباؤكم " وما عطف عليه اسم " كان " ، و " أحب " خبرها ، فهو منصوبٌ ، وكان الحجاجُ بنُ يوسف يقرها بالرفع ، ولحَّنَه يحيى بن يعمر فنفاه . قال أبو حيَّان " إنَّما لحَّنَه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقلة ، وإلاَّ فهي جائزةٌ في العربية ، يُضمر في " كان " اسماً ، وهو ضميرُ الشأن ، ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر ، وحينئذٍ تكونُ الجملة خبراً عن " كان " . قال شهاب الدِّين . فيكون كقول الشاعر : [ الطويل ] @ 2772 - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنتُ أصْنَعُ @@ وهذا في أحد تأويلي البيت . والآخر : أنَّ " صنفان : خبرٌ منصوب ، وجاء به على لغةِ بني الحارث ، ومن وافقهم . والحكاية التي أشار إليها الشَّيْخُ من تلحين يحيى للحجَّاج هي : أنَّ الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة ، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه : هل تجدني ألحن ؟ فقال : الأميرُ أجَلُّ من ذلك ، فقال : عَزمْتُ عليك إلاَّ ما أخبرتني ، وكانوا يُعظِّمون عزائم الأمراء ، فقال : نعم ، فقال : في أي شيءٍ ؟ فقال : في القرآن ، فقال : ويْلَك ! ! ذلك أقبحُ بي ، في أيِّ آية ؟ قال : سَمعتُك تقر : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ } إلى أن انتهيت إلى " أحَبّ " فرفعتها ، فقال : إذن لا تسمعني ألْحَنُ بعدها ، فنفاهُ إلى " خراسان " فمكث بها مدةً ، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة ، فجاءهم جيش ، فكتب إلى الحجاج كتاباً ، وفيه : " وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض ، وصعدنا عُرعُرةَ الجبل " ، فقال الحجاج : ما لابن المهلب ولهذا الكلام ، فقيل له : إنَّ يحيى هناك ، فقال : إذن ذاك . وقرأ الجمهور " عَشيرَتُكُمْ " بالإفراد ، وأبو بكر عن عاصم " عَشِيراتكم " جمع سلام . [ ووجه الجمع أنَّ لكلٍّ من المخاطبين عشيرة ، فحسن الجمع ، وزعم الأخفشُ أنَّ " عشيرة " لا تجمع بالألف والتاء ، وإنَّما تكسيراً على " عشائر " ، وهذه القراءة حجةٌ عليه ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وأبي رجاء . وقرأ الحسن " عَشائرُكُم " قيل : وهي أكثر مِنْ " عشيراتكم " ] . و " العَشِيرةُ " : هي : الأهلُ الأدنون . وقيل : هم أهلُ الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم ، أي : يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل ، وذلك أنَّ العشيرة هي العددُ الكاملُ ، فصارت العشيرةُ اسماً لأقارب الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم ، سواءً بلغوا العشرة أم فوقها . وقيل : هي الجماعةُ المجتمعة بنسبٍ ، أو وداد ، لعقد العشرة . فصل هذه الآية هي تقريرُ الجواب المذكور في الآية الأولى ، وذلك لأنَّ جماعة المؤمنين ، قالوا : يا رسُول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكلِّية ؟ وهذه الآية توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا ، وإن نحن فعلنا ذلك ، ذهبت تجارتنا ، وهلكت أموالنا ، وخربت ديارنا ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ } أي : تَسْتوطنُونَها راضين بسكناها { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ } فانتظروا { حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } . قال عطاءٌ : " بقضائه " . وقال مجاهدٌ ومقاتلٌ : " بفتح مكَّة " . وهذا أمر تهديد ، فبيَّن تعالى أنَّه يجب تحمل جميع هذه المضارّ في الدُّنيا ، ليبقى الدِّين سليماً . ثم قال { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن الطاعةِ ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه إذا وقع التَّعارضُ بين مصلحةٍ واحدة من مصالح الدِّين ، وبين مهمات الدُّنيا ؛ وجب ترجيح الدِّين على الدنيا .