Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 30-33)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } الآية . قرأ عاصم والكسائيُّ بتنوين " عُزَيْرٌ " ، والباقون من غير تنوين ، فأمَّا القراءةُ الأولى فيحتمل أن يكون اسماً عربياً مبتدأ ، و " ابنُ " خبره ، فتنوينه على الأصل ، ويحتمل أن يكون أعجمياً ، ولكنهُ خفيفُ اللَّفظِ ، كـ " نُوحِ " ، و " لُوطٍ " ، فصُرفَ لخفَّة لفظه ، وهذا قول أبي عبيد ، يعني : أنَّهُ تصغيرُ " عَزَر " ، فحكَمه حكم مُكَبَّره ، وقال : هذا ليس منسوباً إلى أبيه ، إنَّما هو كقولك : زيد ابن الأمير ، وزيد ابن أخينا ، و " عُزَيْرٌ " مبتدأ وما بعده خبره ، ورُدَّ هذا بأنَّه ليس بتصغير ، إنَّما هو أعْجَمي ، جاء على هيئة التَّصغيرِ في لسان العرب ، كـ " سُلَيْمَان " ، جاء على مثال " عُثَيْمَان ، وعُمْيَران " . وأمَّا القراءةُ الثانية ؛ فيحتمل حذفُ التنوين ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّه حذف التنوين لالتقاء الساكنين على حدِّ قراءة { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدُ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } . قال الفرَّاء : نون التنوين في " عُزَيْرٌ " ساكنة ، والباء في قوله " ابْنُ اللهِ " ساكنة ، فالتقى ساكنان ، فحذف نون التنوين للتخفيف ؛ وأنشد : [ المتقارب ] @ 2776 - وألْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ولا ذَاكِرِ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً @@ وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء ، و " ابن " خبره . الثاني : أنَّ تنوينه حذف ، لوقوع الابن صفة له ، فإنَّه مرفوعٌ بالابتداء ، و " ابن " صفته ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : عُزَيرٌ ابْنُ الله نَبيُّنا ، أو إمامُنَا ، أو رسولُنَا ، وقد تقدَّم أنَّه متى وقع " الابن " صفة بين علمين ، غير مفصولٍ بينه وبين موصوفه ، حذفت ألفه خطّاً ، وتنوينه لفظاً ، ولا تثبت إلاَّ ضرورة ، وتقدم الاشتشهادُ عليه آخر المائدة . ويجوز أن يكون " عُزَيْرٌ " خبر مبتدأ مضمر ، أي : نَبيُّنا عُزير ، و " ابن " صفةٌ له ، أو بدل ، أو عطف بيان . الثالث : أنه إنَّما حذف ، لكونه ممنوعاً من الصَّرف ، للتعريف والعجمة . ولم يرسم في المصحف إلاَّ بإثبات الألف ، وهي تنصرُ من يجعله خبراً . وقال الزمخشري : " عزير ابن " مبتدأ وخبره ، كقوله : { ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } و " عُزَيْرٌ " اسم أعجمي ، : ـ " عَزرَائيل ، وعيزار " ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ، ومن صرفه جعله عربياً . وقول من قال بسقوط التنوين ؛ لالتقاء الساكنين ، كقراءة { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدُ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } [ الإخلاص : 1 ، 2 ] ولأنَّ " الابن " وقع وصفاً ، والخبر محذوف ، وهو " معبودنا " فتمحُّلٌ عن مندوحة " . فصل لمَّا حكم تعالى في الآيةِ المتقدِّمة على اليهودِ والنَّصارى بأنهم لا يُؤمنونَ بالله ، شرح ذلك في هذه الآية ، بأن نقل عنهم أنهم أثبتُوا للهِ ابناً ومنْ جوَّز ذلك في حق الإله ، فقد أنكر الإله في الحقيقة ، وأيضاً بيَّن تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة ، إذ لا فرق بين من يعبد الصَّنَم وبين من يعبد المسيح وغيره ، لأنه لا معنى للشرك إلاَّ أن يتَّخذ الإنسانُ مع الله معبوداً ، وهذا معنى الشِّرك ، بل لو تأمَّلنَا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخَفّ من كفر النصارى ؛ لأنَّ عابد الوثن لا يقولُ : إنَّ هذا الوثن خالق للعالم ، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسَّلُ به إلى طاعة الله ، والنَّصارى يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح ؛ فثبت أنَّه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين . فإن قيل : اليهودُ قسمان : منهم مشبهة ، ومنهم موحدة ، كما أنَّ المسلمين كذلك ، فهَبْ أنَّ المشبهة منهم منكرون لوجود الإله ، فما قولكم في موحدة اليهود ؟ . فالجوابُ : أولئك لا يكونوا داخلين تحت هذه الآية ، وإنما وجبت الجزيةُ عليهم ؛ لأنَّه لمَّا ثبت وجوب الجزية على بعضهم ؛ وجب القول به في حل الكلِّ ؛ لأنه لا قائل بالفرق . وأما النَّصارى فيقولون بالأب والابن وروح القُدسِ ، والحلول والاتحاد ، وذلك ينافي الإلهيَّة . وإنَّما خصَّ الله الطائفتين بقبول الجزية منهم ؛ لأنَّهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ، وادَّعُوا أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل ؛ فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين ، وكتابيهما المعظمين ، ولتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى ، لأنهم كانوا على الدِّين الحق ، حكم الله بقبول الجزية منهم ، وإلاَّ ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين . فصل في قوله : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } أقوال : أحدها : قال عبيد بن عمير : إنَّما قال هذا رجلٌ واحد من اليهود اسمه : فنحاص بن عازوراء ، وهو الذي قال : { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] . وثانيها : روى سعيدُ بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم ، والنعمان بن أبي أوْفَى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، ولا تزعم أنَّ عُزيراً ابن الله ؟ فنزلت هذه الآية . وعلى هذين القولين ، فالقائل بهذا بعض اليهود ، وإنما نُسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحدِ ، يقال : فلانٌ ركبَ الخيولَ وجالسَ السَّلاطينَ ، ولعله لم يركب ولم يجالس إلا واحداً . وثالثها : لعلَّ هذا المذهب كان فَاشياً فيهم ثمَّ انقطع ، فحكى الله ذلك عنهم ، ولا عبرة بإنكار اليهُودِ ذلك ، فإنَّ حكاية الله عنهم أصدق ، والسَّبب في ذلك ما روى عطية العوفي عن ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فأنساهم الله التوراة ، ونسخها من صدورهم ، فتضرَّع عزير إلى الله وابتهل إليه ، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، فأنذر قومه به فلمَّا جرَّبُوه وجدوه صادقاً فيه ، ثم إنَّ التابوت نزل بعد دعائه منهم ، فلمَّا رأوا التَّابُوتَ عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير ؛ فوجدوه مثله ، فقالوا : ما أوتي عزير هذا إلاَّ أنه ابن الله . وقال الكلبيُّ : " لمَّا قتل بُخْتنصَّر علماءهم ، فلمْ يبق فيهم أحدٌ يعرف التوراة ، وكان عزير ابن ذاكَ صغيراً ؛ فاستصغره فلم يقتله ، فلمَّا رجع بنو إسرائيل إلى بيتِ المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيراً ، ليجدِّد لهم التوراة ، ويكون لهم آية بعدما أماته مائة عام ، يقال : أتاهُ ملكٌ بإناءٍ فيه ماء ؛ فسقاه ، فمثلت التوراة في صدره ، فلمَّا أتاهُم وقال : أنا عُزَيرٌ فكذَّبُوه وقالوا : إنْ كنت كما تزعُمُ فأملِ علينا التوراة فكتبها لهم ، ثمَّ إنَّ رجلاً قال : إنَّ أبي حدَّثَنِي عن جدِّي أنَّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم ، فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعرضوها على ما كتب عزير ، فلم يغادر حرفاً ، فقالوا : إنَّ الله لم يقذف التوراة في قلب رجلٍ إلاَّ أنه ابنه ، فقالوا : عُزيرٌ ابنُ الله " . فصل وأمَّا قولُ النَّصارى المسيح ابن اللهِ ، فظاهرٌ ، وفيه إشكال ، وهو أنَّا نقطع أن المسيح عليه الصلاة والسلام كان مبرأً من دعوة النَّاس إلى الأبوة والبنوة ؛ فإنَّ هذا أفحش أنواع الكُفْرِ ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء ؟ وإذا كان كذلك ، فكيف يعقلُ إطباق محبي عيسى من النصارى عليه ، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسدَ ؟ وأجاب المفسِّرُون عن هذا : بأنَّ أتباع عيسى - عليه الصلاة والسلام - كانُوا على الحقِّ بعدما رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : بولص قتل جماعةً من أصحاب عيسى ، ثم قال لليهود : إن كان الحقُّ مع عيسى ؛ فقد كفرنا ، والنَّار مصيرنا ، ونحن مغبونون إنْ دخلوا الجنَّة ودخلنا النارَ ، وإني أحتال ؛ فأضلهم حتى يدخلوا النَّار ، وكان له فرس يقال له : العقاب ، يقاتلُ عليه ، فعرقب فرسه ، وأظهر الندامة ، ووضع التراب على رأسه ، فقالت له النَّصارى : مَنْ أنتَ ؟ قال : بولص عدوكم ، تبتُ ، فنوديت من السَّماء ليس لك توبة إلاَّ أنْ تَتَنَصَّر ؛ وقد تبت ، فأدخلوه الكنيسة ، ومكث سنةً لا يخرج ليلاً ولا نهاراً ، حتَّى تعلَّم الإنجيل وقال : نوديت أنَّ الله قبل توبتك ؛ فصدقوه وأحبوه . ثم مضى إلى بيتِ المقدسِ ، واستخلف عليهم رجلاً اسمه : نسطور ، وعلمه أنَّ عيسى ، ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الرُّوم وعلَّمهم اللاهوت والنَّاسوت ، وقال : ما كان عيسى إنساناً ، ولا جسماً ولكنه ابن الله ، وعلَّم رجلاً يقال له : يعقوبُ ذلك ، ثم دعا رجلاً يقال له ملكا فقال له : إنَّ الإله لم يزل ، ولا يزال عيسى ، ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكلِّ واحد منهم أنت خالصتي فادع النَّاس إلى إنجيلك ، ولقد رأيتُ عيسى في المنام ورضي عنِّي ، وإنِّي غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح ، فذبح نفسه ، فلمَّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم النَّاس إلى مذهبه ؛ فتبع كلُّ واحد منهم طائفة ، فاختلفوا واقتتلوا ، هذا ما حكاه الواحديُّ وغيره . قال ابنُ الخطيبِ : " والأقربُ عندي أن يقال : لعلَّه ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التِّشريفِ ، ثم إنَّ القومَ لأجل عداوة اليهود ؛ ولأجل أن يقاتلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطَّرف الثاني ، فبالغوا وفسَّرُوا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية ، والجهال قبلوا ذلك ، وفشا هذا المذهبُ الفاسدُ في أتباع عيسى ، والله أعلم بحقيقة الحال " . قوله : { ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } واعلم أنَّ كلَّ قول إنَّما يقال بالفمِ ، فما معنى تخصيصهم بهذه الصفة ؟ والجواب من وجوه : أحدها : أنَّ معناه قول لا يعضده برهانٌ ، وإنّما هو لفظ يفوهُون به فارغ من معنى معتبر لحقه ؛ لأن إثبات الولد للإله مع أنه مُنزَّهٌ عن الحاجة والشهوة ، والمضاجعة ، والمباضعة قولٌ باطلٌ ، ليس له تأثير في العقل ، ونظيره قوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] . وثانيها : أنَّ الإنسان قد يختار مذهباً إمَّا على سبيل الكناية ، وإمَّا على سبيل الرَّمز ، وأمَّا إذا صرَّح بلسانه فهو الغاية في اختيار ذلك المذهب ، والمعنى على هذا : أنَّهم يُصرِّحون بهذا المذهبِ ولا يخفونه ألبتة . وثالثها : أنَّ المعنى : أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة والمرادُ : مبالغتهم في دعوة الخلقِ إلى هذا المذهب . قال أهل المعاني : لم يذكر اللهُ قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلاَّ كان ذلك زوراً . قال ابنُ العربي : " في هذه الآية دليلٌ من قول ربنا تبارك وتعالى على أنَّ من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدىء به لا حرج عليه ؛ لأنَّه إنَّما ينطق به على سبيل الاستعظام له والرَّد عليه ، ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد ، فإذا أمكن من إطلاق الألسنة به فقد أذن بالإخبار عنه ، على معنى إنكاره بالقلب واللسان ، والردّ عليه بالحجَّة " . قوله " يُضَاهِئُونَ " قرأ العامة " يُضَاهُون " بضمِّ الهاءِ ، بعدها واو ، وعاصم بهاءٍ مكسورة ، بعدها همزةٌ مضمومة ، بعدها واو ، فقيل : هما بمعنى واحدٍ ، وهو المشابهة ، وفيه لغتانِ : " ضَاهَأتُ وضَاهَيْتُ " بالهمز والياءِ ، والهمزُ لغة ثقيف . وقيل : الياء فرع عن الهمزةِ ، كما قالوا : قرأت وقَرَيْت ، وتوضَّأت وتوضَّيت ، وأخْطَأت وأخْطَيْت . وقيل : بل " يُضَاهِئُونَ " بالهمزِ مأخوذ من " يُضَاهِيونَ " ، فلمَّا ضُمَّت الياء قُلبتْ همزةً ، وهذا خطأٌ ؛ لأنَّ مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا الموضع حتى تقلبَ همزةً ، بل يؤدي تصريفه إلى حذف الياء ، نحو : يُرامُونَ ، من " الرمي " ، ويُماشُونَ ، من " المشي " وزعم بعضهم : أنَّهُ مأخوذٌ من قولهم : " امرأة ضَهْيَا " بالقصر ، وهي التي لا ثَدْيَ لها ، أو الَّتي لا تحيضُ ، سُمِّيت بذلك ، لمشابهتها الرجال ، يقال امرأة ضَهْيَا ، بالقصر وضَهْيَاء ، بالمد ، كـ : حمراء ، وضَهْيَاءة ، بالمدِّ وتاءِ التأنيث ، ثلاث لغات ، وشذَّ الجمعُ بين علامتي تأنيث في هذه اللَّفظة ، حكى اللغة الثالثة الجرميُّ ، عن أبي عمرو الشيباني . قيل : وقولُ من زعم أنَّ المضاهأة بالهمز مأخوذةٌ من : امرأة ضَهْيَاء ، في لغاتها الثلاث ، فقوله خطأ ، لاختلاف المادتين ، فإنَّ الهمزة في " امرأة ضَهْيَاء " زائدة في اللُّغاتِ الثلاث ، وهي في " المضاهأة " أصلية . فإن قيل : لِمَ لَمْ يُدَّعَ أنَّ همزة " ضهياء " وباؤها زائدة ؟ . فالجوابُ : أنَّ " فَعْيَلاً " بفتح الياء لم يَثبُتْ . فإن قيل : فَلِمَ لم يُدَّعَ أنَّ وزنها " فَعْلل " ، كـ : " جَعْفَرٍ " ؟ . فالجوابُ : أنه قد ثبت زيادة الهمزة في " ضَهْيَاء " بالمدِّ ، فثبت في اللُّغة الأخرى ، وهذه قاعدة تصريفية ، والكلامُ على حذف مضاف تقديره : يُضَاهي قولهم قول الذين ، فحذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مقامه ، فانقلب ضمير رفع بعد أن كان ضمير جرٍّ . والجمهور على الوقف على " بأفواههم " ، ويبتدئون بـ " يُضَاهِئُونَ " . وقيل : الباء تتعلَّق بالفعل بعدها ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف هذا المضاف . واستضعف أبو البقاءِ قراءة عاصم ، وليس بجيِّدٍ لتواترها ، وقال أحمدُ بنُ يحيى : لم يتابع أحد عاصماً على الهمز . والمضاهاة : المشابهة ، في قول أكثر أهل اللُّغة . وقال شمرُ : " المضاهاة : المتابعة ، يقال : فلان يضاهي فلاناً ، أي : يتابعه " . فصل قال مجاهدٌ : " " يضاهئون " قول المشركين من قبل ، كانوا يقولون : اللاَّت والعُزَّى بنات الله " . وقال قتادة والسديُّ : " ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقالوا : المسيحُ ابنُ الله ، كقول اليهود من قبل عزير ابنُ الله ؛ لأنهم أقدم منهم " وقال الحسنُ : " شبَّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة " كما قال في مشركي العرب : { كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] . وقال القتيبي : " يريد من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، يقولون ما قال أسلافهم " . قوله : " قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ " قال ابنُ عبَّاسٍ : لعنهم الله . وقال ابن جريج : قتلهم اللهُ . وقيل : هذا بمعنى التَّعجب من شناعةِ قولهم ، كما يقال : ركبوا شنيعاً ، قاتلهم اللهُ ما أعجب فعلهم ، وهذا التعجب إنَّما هو راجع إلى الخلقِ ، والله لا يتعجَّبُ من شيء ، ولكن هذا الخطابُ على عادة العرب في مخاطبتهم ، والله عجب منهم في تركهم الحق وإصرارهم على الباطل . " أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ " أي : كيف يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه . قوله { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } . الأحْبَارُ : العلماءُ . قال أبو عبيد : " الأحبارُ : الفقهاءُ قد اختلفوا في واحده ، فقال بعضهم : " حَبْرٌ " ، وقال بعضهم " حِبْرٌ " . وقال الأصمعيُّ : لا أدري أهو الحِبْرُ أو الحَبْرُ " . وكان أبو الهيثم يقول : " واحد " الأحبار " " حَبْرٌ " بالفتح لا غير ، وينكر الكسر " وكان الليثُ ، وابن السِّكيت يقولان " حِبْر " و " حَبْر " للعالم ذِمِّيًّا كان أو مسلماً ، بعد أن يكون من أهل الكتاب " . وقال أهل المعاني : " الحبر " : العالم الذي صناعتُه تحبير المعاني بحسن البيان عنها ، وإتقانها ، ومنه : ثوب محبر ، أي : جمع الزينة ، والرَّاهبُ : الذي تمكنت الخشية والرهبة في قلبه ، وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه . وفي عرف الاستعمال ، صار الأحبارُ مختصاً بعلماء اليهود من ولد هارون . والرُّهبان : علماء النَّصارى أصحاب الصَّوامع . ومعنى اتخاذهم أرباباً : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، واستحلُّوا ما أحلوا ، وحرموا ما حرموا . قال أكثرُ المفسرين : " ليس المراد من الأرباب أنَّهم اعتقدوا إلهيتهم ، بل المراد : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم " . قال عدي بن حاتم : " أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب وهو يقرأ سورة براءة ، فقال : " يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك " فطرحته ، ثم انتهى إلى قوله : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } فقلت : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : " أَلَيْسَ يحرِّمون مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ويُحلون ما حرَّم اللهُ ؛ فَتَسْتحلُّونَهُ ؟ " قال قلت : بلى ، قال : " فَتِلْكَ عبادتُهُمْ " . وقال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟ قال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالفُ أقوال الأحبار والرهبان ؛ فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتابِ الله تعالى . فإن قيل : إنَّه تعالى لمَّا كفرهم بسبب طاعتهم للأحبار والرُّهبان ، فالفاسقُ يطيع الشيطانَ ؛ فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارجِ . فالجوابُ : أنَّ الفاسق إن كان يطيع الشيطان إلاَّ أنَّه لا يُعظِّمه ، لكنه يلعنه ، فظهر الفرق . فصل قوله { وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ } عطف على " رُهبانهم " ، والمفعول الثَّاني محذوف ، والتقدير : اتخذ اليهودُ أحبارهم أرباباً ، والنصارى رهبانهم والمسيح ابن مريم أرْبَاباً ، وهذا لأمْنِ اللَّبْس خلط الضمير في " اتَّخَذُوا " ، وإن كان مقسماً لليهود والنَّصارى ، وهذا مراد أبي البقاءِ في قوله : " أي : واتخذوا المسيح ربًّا ، فحذف الفعل وأحد المفعولين " . وجوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي : وعبدُوا المسيح ابن مريم . ثم قال : { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : سبحانه أن يكون له شريك في الأمر والتكليف ، وفي كونه معبوداً ، وفي وجوب نهاية التعظيم . قوله : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } الآية . ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعاً ثالثاً من أفعالهم القبيحة ، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد عليه الصلاة والسلام . والمراد من " النور " قال الكلبيُّ : هو القرآن ، أي : يردُّوا القرآن بألسنتهم تكذيباً . وقيل : النور : الدَّلائل الدَّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه . وسمى الدلائل نوراً ؛ لأنَّ النور يهتدى به إلى الصَّواب . قوله : { وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } " أن يتمّ " مفعول به ، وإنَّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب ؛ لأنَّهُ في معنى النفي ، فقال الأخفشُ الصغيرُ " معنى يأبَى : يمنع " وقال الفرَّاء : " دخلتْ " إلاَّ " لأن في الكلام طرفاً من الجحد " وقال الزمخشريُّ : " أجْرَى " أبَى " مُجْرى " لَمْ يُرِدْ " ، ألا ترى كيف قُوبل : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } بقوله : { وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ } ، وأوقع موقع : ولا يريد الله إلا أن يتمَّ نوره ؟ " . والتقدير : لا يريد إلا أن يتمَّ نوره ، إلاَّ أنَّ الإبَاءَ يفيد زيادة عدم الإرادة ، وهي المنع والامتناع . والدليل عليه قوله عليه السلام : " وإذا أرادوا ظلمنا أبينا " فامتدح بذلك ، ولا يجوز أن يمتدح بأنَّه يكره الظلم ؛ لأنَّ ذلك يصح من القوي والضعيف . وقال الزَّجاج " إنَّ المستثنى منه محذوفٌ ، تقديره : ويَأبَى أي : ويكره كلَّ شيء إلاَّ أن يُتمَّ نوره " وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ، ومذهب غيره فجعلهما مذهباً واحداً فقال : " يَأبَى بمعنى : يَكْره ، ويكره بمعنى يمنع ، فلذلك استثنى ، لما فيه من معنى النَّفْي ، والتقدير : يأبَى كُلَّ شيء إلاَّ إتمام نوره " . أي : يعلي دينه ويظهر كلمته ، ويتم الحق الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } . قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ } . يعني : الذي يأبى إلاَّ إتمام دينه ، هو الذي أرسل رسوله محمداً : " بالهُدَى " ، أي : القرآن ، وقيل : ببيان الفرائض " ودين الحقِّ " وهو الإسلام ، " لِيُظهِرَهُ " ليعليه وينصره ، { عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } على سائر الأديان كلها { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } فإن قيل : ظاهر قوله { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } يقتضي كونه غالباً لجميع الأديان ، وليس الأمر كذلك ، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة . فالجواب من وجوه : أحدها : قال ابن عباسٍ " الهاءُ في " لِيُظهِرَهُ " عائدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي : ليعلمه شرائع الدِّين كلها ، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء " . وثانيها : قال أبو هريرة والضحاك : هذا وعدٌ من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا يحصلُ عند خروج عيسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى قال : " ويهلكُ في زمانِهِ الملل كُلُّهَا إلاَّ الإسلام " . وروى المقدادُ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : " لا يَبْقَى على ظهْرِ الأرض بيتُ مدر ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ الله كلِمَة الإسلام ، بِعِزِّ عزيز ، أو بذُلِّ ذليلٍ ، إمَّا أن يُعزَّهمُ اللهُ فيجعلهُمْ من أهْلِهِ فيعزُّوا بهِ ، وإمَّا أن يُذلَّهُمْ فيَدِينُون لَهُ " . وقال السديُّ : ذلك عند خروج المهدي ، لا يبقى أحد إلاَّ دخل في الإسلام ، أو أدَّى الخراج . وثالثها : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } في جزيرة العربِ ، وقد حصل ذلك ، فإنَّه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكُفَّارِ . ورابعها : أنَّهُ لا دين يخالف دين الإسلام ، إلاَّ وقد قهرهم المسلمون ، وظهروا عليهم في بعض المواضع ، وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم ، فقهروا اليهُود ، وأخرجوهم من بلاد العرب ، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الرُّوم والغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم ممَّا يلي الترك والهند . وخامسها : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } بالحُجَّةِ والبيانِ ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ هذا وعد بأنه تعالى سيفعله ، والقوة بالحُجَّة والبيان كانت حاصلة من أوَّلِ الأمْرِ . ويمكن أن يجاب عنه ، بأنَّهُ في مبدأ الأمر كثرت الشبهات ، بسبب ضعف المؤمنين ، واستيلاء الكُفَّارِ ، ومنعهم للنَّاسِ من التأمل في تلك الدلائل ، وأمَّا بعد قوة الإسلام ، وعجز الكُفَّار ، ضعفت الشبهات فقوي دلائل الإسلام .