Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 28-29)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } الآية . اعلم أنه عليه الصَّلاة والسَّلام ، لمَّا أمر عليّاً أن يقرأ على مشركي مكَّة أول سورة براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأنَّ الله بريء من المشركين ورسوله ، قال أناس : يا أهل مكَّة ستعلمون ما تلقونه من الشِّدَّة لانقطاع السبل وفقد الحمولات ؛ فنزلت هذه الآية ، لرفع الشُّبهةِ ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي : فَقْراً وحاجةً ، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } قال الأكثرون : لفظ المشركين يتناولُ عبدة الأوثانِ ، وقال قومٌ : يتناولُ جميع الكُفَّارِ ، وقد تقدم ذلك . قال الضحاكُ وأبو عبيدةَ : " نَجَسٌ " قذر . وقيل : خَبِيثٌ ، وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى ، والتثنية والجمع . جعلوا نفس النَّجَس ، على المبالغة ، أو على حذفِ مضاف . وقرأ أبو حيوة " نِجْسٌ " بكسر النُّون وسكون الجيم ، وجهه أنَّه اسمُ فاعل في الأصلِ على " فَعِل " مثل : " كَتِف وكَبِد " ثم خُفِّف بسكون عَيْنه بعد إتباع فائه ، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مقامه ، أي : فريق نجس ، أو جنس نجس ، فإذا أفرد قيل " نَجس " بفتح النون . قال البغوي " ولا يقال على الانفراد ، بكسر النُّون وسكون الجيم ، إنَّما يقال " رِجْسٌ نِجْسٌ " ، فإذا أفرد قيل " نَجِسٌ " بفتح النون وكسر الجيم " وقرأ ابن السَّميفع " أنْجَاس " بالجمع ، وهي تحتمل أن تكون جمع قراءةِ الجمهور ، أو جمع قراءةِ أبي حيوة ، وأراد به نجاسة الحكم ، لا نجاسة العين ، سُمُّوا نجساً على الذَّم . وقال ابنُ عبَّاس وقتادةُ " سماهم نجساً ؛ لأنَّهم يجنبون ، فلا يغتسلون ، ويحدثون فلا يتوضؤون " ونقل الزمخشري عن ابن عباسٍ " أنَّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير " وعن الحسنِ " مَنْ صَافحَ مشركاً توضَّأ " وهذا قول الهادي من أئمة الزَّيدية . وأمَّا الفقهاءُ : فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم ، وهذا هلاف ظاهر القرآن ، فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصلٍ ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا من الخلاف . واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم ، وأيضاً لو كان نجساً ، لما تبدل ذلك بالإسلام ، وأجاب القائلون بالنجاسة : بأنَّ القرآن أقوى من خبر الواحد وبتقدير صحَّةِ الخبر ؛ يجب أن يعتقد أن حل الشرب من إنائهم كان متقدماً على نزول هذه الآية من وجهين : الأول : أنَّ هذه السُّورة من آخر ما نزل من القرآن ، وأيضاً كانت المخالطة مع الكُفَّار جائزة فحرَّمها الله تعالى ، وكانت المعاهدة حاصلة معهم ، فأزالها الله ؛ فلا يبعد أن يقال أيضاً : الشرب من أوانيهم ، كان جائزاً فحرمه اللهُ . الثاني : أنَّ الأصل حل الشرب من أي إناء كان ، فلو قلنا إنه حرم بحكم الآية ، ثم حل بحكم الخبرِ ، فقد حصل نسخان ، أما لو قلنا إنَّه كان حلالاً بحكم الأصل ، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ، ثم جاء التَّحريمُ بهذه الآيةِ ، لم يحصل النَّسخ إلاَّ مرة واحدة ؛ فوجب أن يكون هذا أولى . وأما قولهم : لو كان الكافرُ نجس العين ، لما تبدَّلت النجاسةُ بالطَّهارة بسبب الإسلام . فهذا قياس في معارضة النَّص الصَّريح ، وأيضاً فالخمرةُ نجسة العين ، فإذا انقلبت بنفسها خلاًّ طهرت ، وأيضاً إنَّ الكافر إذا أسلم ؛ وجب عليه الاغتسالُ ، إزالة للنجاسةِ الحاصلة بحكم الكفر ، وهذا ضعيفٌ ؛ فإنَّ الأعيانَ النجسة لا تقبل التَّطهير بالغسل ، إنما يطهر بالغسل ما ينجس . فصل قالت الحنفيَّةُ : أعضاءُ المحدث نجسة نجاسة حكمية ، وبنوا عليه أنَّ الماء المستعمل في رفع الحدث نجس ، ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : أنَّهُ نجس نجاسة خفيفة ، وروى الحسنُ بن زيادٍ : أنَّه نجس نجاسة غليظة ، وهذه الآية تدلُّ على فساد هذا القول ؛ لأن كلمة " إِنَّمَا " للحصر ، فاقتضى أن لا نجس إلاَّ المشرك ، فالقولُ بأنَّ أعضاءَ المحدث نجسة ، يخالف هذا النَّص ، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس ، وفي أنَّ المؤمن ليس بنجس ، ثم إنَّ قوماً قلبوا القضية ، وقالوا : المشرك طاهرٌ ، والمؤمن حال كونه محدثاً نجس ، وزعموا أنَّ المياه التي يستعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة ، والمياه التي يستعملها أكابرُ الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، مع مخالفة قوله عليه الصلاة والسلام : " المُؤمنُ لا يَنْجُسُ حيّاً ، ولا ميتاً " وأجمعوا على أنَّ إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته ، ولو كان يده رطبة فوصلت إلى يدِ مُحدث لم تنجس يده ، ولو عرق المحدثُ ووصل العرقُ إلى ثوبه لم ينجس الثوب ، والقرآن ، والخبر ، والإجماع ، تطابقت على القول بطهارة وأعضاء المحدث ، فكيف يمكن مخالفته ؟ فصل قيل المرادُ بالمسجدِ الحرام : نفس المسجدِ ، وقيل : جميع الحرم ، وهو الأقربُ لقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد ؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة ، لما خافُوا بسبب هذا المنع من العَيْلَة ، وإنَّما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواقِ والمواسم ، ويؤكد هذا قوله تعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ الإسراء : 1 ] مع أنَّهم أجمعُوا على أنه إنَّما رفع الرسول من بيت أم هانىء ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " لا يجتمع دينان في جزيرة العربِ " وهي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً ، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشَّام عرضاً ، واعلم أنَّ جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام : أحدها : الحرم ، فلا يجوزُ للكافر أن يدخله بحال ذمِّيّاً كان أو مستأمناً ، لظاهر هذه الآية ، وإذا جاء رسول من دار الكُفرِ إلى الإمام ، والإمام في الحرمِ ، لا يأذن له في دخول الحرم ، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وإن دخلَ مشرك الحرم متوارياً فمرض فيه ، أخرجناه مريضاً ، وإن مات ودفن ولم نعلم نبشناه ، وأخرجنا عظامه إذا أمكن ، وجوَّز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم . والقسم الثاني من بلاد الإسلام : الحجازُ ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيَّامٍ ، مقام السفرِ ، لما روي عن عمر بن الخطابِ ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لَئِنْ عِشْتُ إنْ شاءَ الله لأخرجنَّ اليهُودَ والنَّصارى من جزيرةِ العربِ ، حتى لا أدعُ إلاَّ مُسْلِماً " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال : " أخرجُوا المُشركينَ مِنْ جزيرةِ العرب " فلم يتفرَّغ لذلك أبو بكر ، وأجلاهم عمر في خلافته ، وأحل لمن يقدم منهم تاجراً ثلاثاً . والقسم الثالث : سائر بلاد الإسلام ؛ فيجوزُ للكافر أن يقيم فيها بذمَّة أو أمان ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم . فصل والمراد بقوله " بَعْدَ عامهم هذا " يعني العام الذي حجَّ فيه أبو بكرٍ بالنَّاس ، ونادى علي بالبراءة ، وهو سنة تسع من الهجرةِ . قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } . العيلةُ : الفقرُ ، يقال : عَالَ الرَّجُل يَعِيلُ عَيْلَةً : إذا افتقر . والمعنى : إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار : " فسَوْفَ يغنيكُم الله مِنْ فَضْلِهِ " قال مقاتل " أسلم أهلُ جدة وصنعاء وحنين ، وحملوا الطعام إلى مكَّة ، فكفاهم الله ما كانوا يخافون " . وقال الحسنُ والضحاكُ وقتادةُ : " عوَّضهم الله عنها بالجزية " وقيل : أغناهم بالفيء . وقال عكرمة : " أنزل اللهُ عليهم المطر ، وكثر خيرهم " . فإن قيل : الغرضُ بهذا الخبر ، إزالة الخوف بالعيلة ، وقوله " إن شَاء اللهُ " يمنع من فائدة هذا المقصود . فالجوابُ من وجوه : الأول : ألاَّ يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب ؛ فيكون الإنسان أبداً متضرّعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ، وفي دفع الآفات . الثاني : أنَّ المقصود من ذكر هذا الشَّرط تعليم رعاية الأدب ، كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ } [ الفتح : 27 ] . الثالث : المقصودُ : التَّنبيه على أنَّ حصول هذا المعنى لا يكون في كلِّ الأوقات ، وفي جميع الأمكنة ؛ لأنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام - قال في دعائه : { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ } [ البقرة : 126 ] وكلمة " مِنْ " للتبعيض ، فقوله ههنا " إن شَاءَ اللهُ " المراد منه ذلك التبعيض . ثم قال : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ } بأحوالكم ، " حَكِيمٌ " أي : لا يعطي ولا يمنع إلاَّ عن حكمة وصواب . قوله تعالى : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } الآية . لمَّا بيَّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام ، ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية . قال مجاهدٌ " نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الرُّوم ، فغزا بعدها غزوة تبوك " وقال الكلبيُّ " نزلت في قريظة والنَّضير من اليهودِ ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين " . فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فكيف أمر بقتالهم ؟ . فالجوابُ : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين ؛ فإنَّهم إذا قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيماناً باللهِ . قوله : { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي : لا يُحرِّمُون ما حرَّم الله في القرآن ، وبينه الرسول ، وقال أبو زيدٍ : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم . قوله { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ } أي : لا يدينون الدِّين الحق ، أضاف الاسم إلى الصِّفةِ وقال قتادة : " الحَقّ " هو الله - عزَّ وجلَّ - ؛ أي : لا يدينون دين الله ، ودينه الإسلام . قال أبو عبيدة : معناه : لا يطيعون الله طاعة أهل الحقّ . قوله : { مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } بيانٌ للموصول قبله ، والمرادُ : اليهودُ والنصارى { حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ } وهي الخراجُ المضروب على رقابهم ، و " الجِزْيةُ " : " فِعْلَة " ، لبيان الهيئة ، كـ " الرِّكْبَة " . قال الواحديُّ : " الجزيةُ : ما يعطى المعاهد على عهده ، وهي " فِعْلة " من جزى يجزي إذا قضى ما عليه " . قوله : " عَن يَدٍ " حالٌ ، أي : يُعْطُوها مقهورين أذِلاَّء ، وكذلك : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } . قال الزمخشريُّ " قوله : " عن يدٍ " إمَّا أن يراد به عن يد المُعْطِي ، أو يد الآخذ ، فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان : أحدهما : عن يد غير ممتنعة ؛ لأنَّ مَنْ أبى وامتنع لم يعط عن يده ، بخلافِ المطيع المنقاد . وثانيهما : حتى يعطوها عن يد إلى يدٍ نقداً غير نسيئة ، ولا مبعوثاً على يد أحدٍ ، ولكن عن يد المُعطي إلى يد الآخذ . وإن كان المرادُ به : يد الآخذ ، ففيه وجهان : الأول : حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم ، كما تقولُ : اليد في هذا لفلان . وثانيها : أنَّ المراد : عن إنعام عليهم ؛ لأنَّ قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم " . قوله { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : تؤخذ الجزية منهم على الصغار والذل والهوان ، يأتي بها بنفسه ماشياً إلا راكباً ، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ، ويؤخذ بلحيته ويقال له أدِّ الجزية . وقال الكلبيُّ : " إذا أعْطَى يصفعُ في قفاهُ " . وقيل : يكتب ويجرُّ إلى موضع الإعطاء . وقيل : إعطاؤه إيَّاها هو الصَّغار ؛ وقال الشافعيُّ " الصَّغارُ : جريان أحكام الإسلام عليهم " . فصل الكفار فريقان ، منهم عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا ، فهؤلاء لا يقرَّون على دينهم بأخذ الجزية ؛ ويجب قتالهم حتى يقولوا : لا إله إلاَّ الله ، ويصيروا مؤمنين . والثاني : أهل الكتاب وهم اليهودُ والنصارى ؛ فهؤلاء يقرون بالجزية ، والمجوسُ أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " سُنُّوا بِهمْ سُنَّة أهْلِ الكِتابِ " ، وأخذه الجزية من مجوس هَجَرَ . فصل اتَّفَقَتْ الأمةُ على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب ، وهم اليهودُ والنصارى إذا لم يكونوا عرباً ، واختلفوا في أهل الكتابِ العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم ؛ فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب ، فتؤخذُ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً ، ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال ؛ لأنَّ النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذها من أَكَيْدِر دُومَةَ - وهو رجل من العرب يقال : غسان - ، وأخذ من أهل دومة اليمنِ وعامتهم عرب ؛ وذهب مالكٌ والأوزاعي إلى أنَّها تؤخذ من جميع الكُفَّارِ . وقال أبُو حنيفة : تؤخذُ من أهل الكتابِ على العموم ، وتؤخذُ من مشركي العجم ، ولا تؤخذ من مشركي العربِ . وقال أبو يوسف : لا تؤخذُ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من العجمي كتابيّاً كان أو مشركاً ، وأمَّا المجوس فاتفقت الصَّحابةُ على أخذ الجزية منهم ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " سُنُّوا بِهمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ " . فصل قال القاضي : قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً ، وعلى الأوْساطِ أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين ، ولمَّا بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أمرهُ أن يأخذَ من كلِّ حالم ديناراً ، أي : بالغ ، ولم يفرِّق بين الغني والفقير والوسط ، وذلك دليل على أنها لا تجب على الصبيان ، وكذلك لا تجب على النساء ، إنَّما تؤخذ من الأحرار البالغين العقلاء من الرجالِ . فصل تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة في أوَّل السنة ، وعند الشافعي وغيره في آخرها . وتسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة وغيره لقوله عليه الصلاة والسلام " لَيْسَ عَلى المُسلمِ جزيةٌ " وعند الشافعي - رضي الله عنه - لا تسقطُ . فصل قال بعضُ العلماءِ : هؤلاء إنَّما أقرُّوا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل ، وأيضاً فكتابهم في أيديهم ، فربَّما يتفكرون فيه فيعرفون صدق محمد ونبوته ، فأمهلوا لهذا المعنى . فصل طعن ابنُ الراوندي في القرآن وقال : إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى ، قوله : { تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } [ مريم : 90 - 91 ] فبيَّن أنَّ إظهارهم لهذا القولِ بلغ إلى هذا الحدِّ ، ثم إنَّه أخذ منهم ديناراً واحداً وأقرهم عليه ، وما منعهم منه . والجواب : ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكُفرِ ، بل المقصودُ حقن دمه وإمهاله مدَّة ، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسنِ الإسلام وقوَّة دلائله ؛ فينتقل من الكفر إلى الإيمان .