Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 36-37)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } الآية . " العِدَّة " مصدر بمعنى " العَدَد " . و " عِندَ اللهِ " منصوبٌ به ، أي : في حُكْمه . و " اثْنَا عشرَ " خبرُ " إنَّ " ، وقرأ ميسرة عن حفص ، وهي قراءةُ أبي جعفر " اثْنَا عَشْرَ " بسكون العين مع ثبوتِ الألف قبلها ، واستكرهتْ من حيثُ الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما ، كقولهم : " التقَتْ حَلْقتَا البطانِ " بإثباتِ الألف من " حَلْقتَا " . وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حمل " عشر " في المذكر على " عشرة " في المؤنث ، و " شَهْراً " نصب على التمييز ، وهو مؤكِّد ؛ لأنه قد فُهِم ذلك من الأول ، فهو كقولك : عندي من الدَّنانير عشرون ديناراً . والجمعُ متغاير في قوله " عِدَّة الشُّهورِ " وفي قوله تعالى : { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ } [ البقرة : 197 ] ؛ لأنَّ هذا جمعُ كثرة ، وذاك جمعُ قلة . قوله : { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } يجوزُ أن يكون صفةً لـ " اثْنَا عَشَرَ " ، والتقديرُ : اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله . ثمَّ لا يجوزُ أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب ، لأنَّه متعلقٌ بقوله : { يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَات } وأسماء الأعيان لا تتعلَّق بالظروفِ ، فلا تقول : غلامك يوم الجمعة ، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير : إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله ، أي : في حكمه الواقع يوم خلق السموات والأرض . ويجوزُ أن يكون بدلاً من الظرفِ قبله ، وهذا لا يجوزُ ، أو ضعيفٌ ، لأنَّه يلزمُ منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيل البدلية ، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة ، فكيف يصحُّ من جهة المعنى ؟ ولا يجوزُ أن يكون " فِي كتابِ اللهِ " متعلقاً بـ " عِدَّة " لئلاَّ يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بخبره وقياس مَنْ جوَّز إبداله من الظرف أن يجوِّز هذا ، وقد صرَّح بجوازه الحوفيُّ . قوله : " يَوْمَ خَلَقَ " يجوز فيه أن يتعلَّق بـ " كِتَاب " على أنَّه يُرادُ به المصدر ، لا الجثة ويجوزُ أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور ، وهو " في كِتابِ الله " ويكونُ الكتابُ جثةً لا مصدراً ، وجوَّز الحوفيُّ أن يكون متعلقاً بـ " عِدَّة " وهو مردودٌ بما تقدَّم ، ويجوزُ أن يتعلَّق بفعل مقدر ، أي : كتب ذلك يوم خلق . فصل هذه الآية أيضاً من شرح قبائح اليهود والنَّصارى والمشركين ، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى ؛ لأنَّه تعالى ، حكم في كل وقت بحكم خاص ، فإذا غَيَّرُوا تلك الأوقات بسبب النَّسيء ، كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السَّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم . فإنَّ السَّنة عند العربِ : عبارة عن اثني عشر شهراً قمرية ، ويدُلُّ عليه هذه الآية وقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [ يونس : 5 ] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلاً على السنين ، وإنَّما يصح ذلك إذا كانت السَّنة معلقة بسير القمر ، وقال تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } [ البقرة : 189 ] وعند سائر الطوائف : السَّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل ، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرَّة ، وفي الصيف أخرى ، فشقَّ الأمر عليهم بهذا السَّبب . وأيضاً إذا حضروا الحجَّ حضروا للتجارة ، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية ، فلذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت معين موافق لمصلحتهم ، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم ، فهذا النَّسيء وإن كان سبباً لحصولِ المصالحِ الدنيوية ، إلاَّ أنَّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى ، لمَّا خصَّ الحجَّ بأشهر معلومة على التّعيين ، وكان بسبب ذلك النَّسيء يقع في سائر الشُّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه ؛ فلهذا المعنى استوجبُوا الذَّمَّ العظيمَ في هذه الآية . والمرادُ بالكتابِ : حكمه وإيجابه . قال ابن عباس " إنه اللَّوحُ المحفوظ " وقيل : القرآن . فصل قال القرطبيُّ : قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ } وهي جمع شهر . فإذا قال الرجل لأخيه : لا أكلمك الشهور ، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً ، قالهُ بعض العلماء وقيل : لا يكلمه أبداً . قال ابنُ العربي : وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر ، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة " فُعول " في جمع " فَعْل " . قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه : أحدها : أن تكون صفةً لـ " اثْنَا عَشَرَ " . الثاني : أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار . الثالث : أن تكون مستأنفة . والضمير في " منها " عائدٌ على اثنا عشر شهراً ، لأنه أقربُ مذكورٍ ، على " الشُّهور " والضمير في " فيهنَّ " عائدٌ على " الاثني عشر " أيضاً . وقال الفرَّاءُ ، وقتادةُ : يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ ، لوجهين : أحدهما : أنه أقرب مذكور . والثاني : أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة ، والجمعُ الكثيرُ بالعكس ، تقول الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ويجوزُ العكس . فصل أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد ، وهي : ذُو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، وواحد فرد ، وهو : رجبٌ ، ومعنى الحرم : أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً ، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً ، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له . فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة ، فما السَّببُ في هذا التَّمييز ؟ فالجوابُ : هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع ، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة ، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة ، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة ، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها ، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي ، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة ، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة . وفيه فائدة أخرى وهي : أنَّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد ، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقٌّ عليهم ، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام ، حتى إنَّ الإنسانَ ربما امتنع في تلك الأزمنة ، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح ، وذلك يوجب أنواعاً من الفوائد . أحدها : أنَّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب ؛ لأنه يقل القبائح . وثانيها : أنَّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سبباً لميل طبعه إلى الإعراضِ عنها مطلقاً . وثالثها : أنَّه إذا أتى بالطَّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها ، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناءِ والمشقَّةِ في أداء الطَّاعات في تلك الأوقات ، والظَّاهر من حال العاقل أنَّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلِّية ، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة ، وبعض الأمكنة ، بمزيد التعظيم . قوله { ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } أي : الحساب المستقيم ، يقال : " الكَيِّسُ من دَانَ نَفسَهُ " أي : حاسبها ، وقال الحسنُ : " ذلكَ الدِّينُ القَيّم " الذي لا يبدلُ ولا يُغير ، " القَيِّم " - ههنا - بمعنى : القائم الدائم الذي لا يزول ، وهو الدِّينُ الذي فَطَرَ الناس عليه . قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } بفعل المعصية ، وترك الطَّاعاتِ ، قال ابنُ عبَّاسٍ : " المراد ، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم ، والمراد : منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر " . وقال الأكثرون الضَّمير في قوله " فِيهِنَّ " عائدٌ على الأربعة الحرم ، وقد تقدَّم . وقيل : المرادُ بـ " الظلم " النَّسيء الذي كانُوا يعملونه ، فينقلون الحجَّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهرٍ آخر ، وقيل : المرادُ بـ " الظُّلمِ " ترك المقاتلة في هذه الأشهر . قوله : { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } نصب " كَافَّةً " على الحالِ ، إمَّا من الفاعل ، أو من المفعول ، وقد تقدَّم أن " كَافَّةً " لا يُتصرَّف فيها بغير النصب على الحال ، وأنَّها لا تدخلها " أل " ؛ لأنها بمعنى قولك : قامُوا جميعاً ، وقامُوا معاً ، وأنَّها لا تُثَنَّى ، ولا تُجْمع ، وكذلك " كافة " الثانية ، ومعنى " كافة " أي : جميعاً . فصل معنى الآية : قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم ، كما أنَّهم يقاتلونكم على هذه الصِّفة ، أي : تعاونوا وتناصروا على ذلك ؛ ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء . وقال ابنُ عبَّاسٍ : " قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال ، كما أنَّهُم يستحلُّون قتال جميعكم " { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي : مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطَّاعات والاجتناب عن المحرمات . واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، فقيل : كان مُحرماً ثم نسخ بقوله تعالى { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } أي : فيهن ، وفي غيرهن ، وهو قول قتادة ، وعطاء الخراساني ، والزهريِّ وسفيان الثوري ، وقالوا : لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفاً بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة . وقال آخرون : غير منسوخ . قال ابن جريج " حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنَّهُ ما يحلُّ للنَّاس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم إلاَّ أن يقاتلوا فيها ، وما نسخت " . قوله { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ } في " النَّسِيء " قولان : أحدهما : أنَّه مصدرٌ على " فَعِيل " مِن : " أنْسأ " ، أي : أخَّرَ ، كـ " النذير " من أنذر ، و " النكير " من أنْكَر ، وهذا ظاهرُ قول الزمخشري فإنَّه قال : " النَّسيء : تأخيرُ حرمة الشهر إلى شهر آخر " ، وحينئذٍ . فالإخبارُ عنه بقوله " زيادة " واضحٌ ، لا يحتاج إلى إضمار . وقال الطبريُّ : " النَّسيء - بالهمز - معناه : الزيادة " ؛ لأنَّه تأخير في المدة ، فيلزمُ منه الزيادة ، ومنه النَّسيئة في البيع ، يقال : أنْسَأ الله أجلهُ ، ونسأ في أجله أي أخّر وهو ممدود عند أكثر القراء . الثاني : أنَّه " فَعِيلٌ " بمعنى " مَفْعُول " مِنْ نسأهُ أي : أخَّره فهو منسوءٌ ، ثم حُوِّل " مفعول " إلى " فَعِيلٍ " ، وإلى ذلك نَحَا أبُو حاتمٍ ، والجوهري - وهذا القول ردَّه الفارسي فإنَّه يكون المعنى : إنَّما المؤخَّر زيادة ، والمؤخَّر الشهر ، ولا يكون الشهرُ زيادة في الكفرِ ، وأجيب عن هذا بأنَّه على حذف مضاف إمَّا من الأول ، أي : إنَّما إنساءُ النَّسيء زيادة في الكفر ، وإمَّا من الثاني ، أي : إنما النسيء ذُو زيادة . وقرأ الجمهورُ " النَّسيء " بهمزة بعد الياءِ ، وقرأ ورش عن نافع " النسيّ " بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء فيها ، ورُويت هذه عن أبي جعفر ، والزهري وحميد ، وذلك كما خفّفوا " برية " و " خطية " . وقرأ السلمي ، وطلحة ، والأشهب ، وشبل ، " النَّسْء " بإسكان السين . وقرأ مجاهدٌ والسلمي وطلحةُ أيضاً " النَّسُوء " بزنة " فعُول " بفتح الفاءِ ، وهو التأخير ، و " فعول " في المصادر قليل ، قد تقدَّم منه ألفاظ في أوائل البقرة ، وتقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة ، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشُّهُور عن بعض ؛ قال : [ الوافر ] @ 2780 - ألَسْنَا النَّاسِئِينَ على مَعَدٍّ شُهُورَ الحِلِّ نجعَلُهَا حَرَامَا @@ وقال آخر : [ الكامل ] @ 2781 - نَسَئُوا الشُّهُورَ بها وكانُوا أهلهَا مِنْ قبلِكُم والعِزُّ لمْ يتحوَّلِ @@ قوله " يُضَلُّ بِهِ " قرأ الأخوان ، وحفص " يُضَلُّ " مبنياً للمفعول وأبو عمرو في رواية ابن مقسم " يُضِلّ " مبنياً للفاعل ، وفيه ثلاثة أوجهٍ : أحدها : يضل اللهُ به الذين كفروا . والثاني : يضل الشيطان به الذين كفروا . والثالث : يضل به الذين كفروا تابعيهم . والباقون مبنياً للفاعل ، والموصول فاعل به . وقرأ ابن مسعود والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ويعقوب ، وعمرو بن ميمون " يُضِلّ " مبنياً للفاعل ، من " أضَلَّ " وفي الفاعل وجهان : أحدهما : ضمير الباري تعالى ، أي : يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا . والثاني : أنَّ الفاعل " الذينَ كفرُوا " وعلى هذا فالمفعولُ محذوف ، أي يُضل الذين كفروا أتباعهم . وقرأ أبُو رجاء " يَضَلُّ " بفتح الياء والضَّاد ، وهي مِنْ " ضَلِلْتُ " بكسر اللام ، " أضَلُّ " بفتحها ، والأَصْلُ : " أَضْلَلُ " فَنُقِلت فتحة اللام إلى الضَّاد ، لأجل الإدغام ، وقرأ النَّخغي ، والحسن في رواية محبوب " نُضِلُّ " بضم نون العظمة ، و " الَّذينَ " مفعول ، وهذه تقوِّي أنَّ الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود . قوله : " يُحِلُّونه " فيه وجهان : أحدهما : أنَّ الجملة تفسيريةٌ للضلال . والثاني : أنها حاليةٌ . وقوله : " ليواطِئُوا " في هذه اللام وجهان : أحدهما : أنها متعلقةٌ بـ " يُحَرِّمُونَه " وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين . والثاني : أنَّها تتعلَّق بـ " يُحِلُّونَهُ " وهذا مقتضى مذهب الكوفيين ، فإنهم يعملون الأول ، لسبقه . وقول من قال : إنَّها متعلقةٌ بالفعلين معاً ، فإنَّما يعني من حيث المعنى ، لا اللفظ . وقرأ أبُو جعفرٍ " ليُواطِئُوا " بكسر الطَّاءِ وضمِّ الياءِ الصَّريحة . والصحيحُ أنه ينبغي أن يقرأ بضمِّ الطاء وحذف الياء ؛ لأنَّه لمَّا أبدل الهمزة ياءً استثقل الضمة عليها فحذفها ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الياء ، وضمت الطاء ، لتجانس الواو والمواطأة : الموافقةُ والاجتماع ، يقال : تواطئوا على كذا ، أي : اجتمعوا عليه كأنَّ كلَّ واحدٍ يَطَأ حيث يَطَأ الآخر ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } [ المزمل : 6 ] . وسيأتي إن شاء الله تعالى . وقرأ الزهريُّ " لِيُواطِيُّوا " بتشديد الياء ، هكذا ترجموا قراءته ، وهي مشكلةٌ ، فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء ، وتخليصها من الهمز دون التضعيف ، فلا أعرف وجهها وهو كما قال . قوله : " زُيِّنَ " الجمهور على " زُيِّنَ " ببنائه للمفعول ، والفاعل المحذوف هو الشيطان . وقرأ زيد بن علي " زَيَّن " ببنائه للفاعل ، وهو الشيطان أيضاً ، و " سوء " مفعوله . فصل معنى النَّسيء : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر ، وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم ، وكان ذلك ممَّا تمسكت به من ملة إبراهيم ، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية ، وربَّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم ، فيكرهون تأخير حربهم ، فنسئوا ، يعني : أخَّرُوا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر ، وكانوا يؤخِّرُون تحريم المحرم إلى صفر ، فيحرمون صفر ، ويستحلُّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل ؛ فكانوا يصنعون هكذا شهراً بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم إلى السَّنة كلها ، فقام الإسلامُ وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وذلك بعد دهر طويل ، فخطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال : " ألاّ إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السَّنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ ثلاث متواليات ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان … " الحديث . فأمرهم بالمحافظة لئلاَّ يتبدل في مستأنف الأيام . واختلفوا في أوَّل من نسأ النَّسيء . فقال ابنُ عباس والضحَّاك وقتادة ومجاهد " أوَّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة " . وقال الكلبيُّ " أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة ، وكان يقومُ على الناس بالموسم ، فإذا همَّ الناسُ بالصدودِ ، قام فخطب ، فقال : لا مردّ لما قضيتُ ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون : لبيك ، ثم يسألونه أن ينسأهم شهراً يغيرون فيه ، فيقول : إنَّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ، ونزعوا الأسنة والأزجة ، وإن قال حلال ، عقدوا الأوتار ، وشدوا الأزجة ، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له : جنادة بن عوف ، وهو الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له : القَلَمَّسُ . قال شاعرهم : [ الوافر ] @ 2782 - ومِنَّا نَاسِىءُ الشَّهْرِ القَلمَّسْ @@ وكانوا لا يفعلون ذلك إلاَّ في الحجِّ إذا اجتمعت العرب في الموسم . وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : " إنَّ أول من سنَّ النَّسيء : عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن خندف " . ثم قال : { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } تقدَّم الكلام عليه . { يُحِلُّونَهُ عَاماً } يعني : النَّسيء { وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ } أي : يوافقوا . { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } أي : إنهم لم يحلوا شهراً من الحرام إلاَّ حرَّمُوا مكانه شهراً من الحلال ، ولم يحرِّمُوا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرام ، لئلاَّ يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر ، فتكون الموافقة في العدد . { زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ } قال ابنُ عبَّاس : زين لهم الشيطان : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } .