Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 38-40)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ } الآية . لمَّا ذكر فضائح الكفار عاد إلى التَّرغيب في مقاتلتهم . قال ابنُ عبَّاس : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك لأنَّهُ عليه الصلاة والسلام لمَّا رجع من الطائف أقام بالمدينة أمر بجهاد الرُّوم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر ، حين طابت ثمار المدينة ، واستعظم النَّاسُ غزو الرُّوم وهابوه ، وكان ذلك في حر شديد ، وسفر بعيد ، ومفاوز ، وعدُو كثير ، وذلك حين طابت ثمار المدينة ، وظلالها فأمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم ، فشقَّ عليهم الخروج ، وتثاقلُوا ، فنزلت هذه الآية . ومعنى : " إِذَا قِيلَ لَكُم " أي : قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم " انفِرُوا " اخرجوا ، واسم القوم الذين يخرجون النفير . قوله : " ٱثَّاقَلْتُمْ " أصله " تثَاقلْتُم " فلمَّا أريد الإدغام سكنت الثَّاءُ فاجتلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم في { فَٱدَّارَأْتُمْ } [ البقرة : 72 ] ، والأصل : " تَدَارَأتُم " . وقرأ الأعمشُ " تثاقَلْتُم " بهذا الأصل و " ما " في قوله : " مَا لَكُمْ " استفهامية ، وفيها معنى الإنكار . وقيل : فاعله المحذوف هو الرسول . " اثَّاقَلْتُمْ " ماضي اللَّفظ ، مضارع المعنى ، أي : تتثاقلون ، وهو في موضع الحالِ ، وهو عاملٌ في الظَّرف ، أي : ما لكم متثاقلين وقت القول . وقال أبُو البقاءِ : " اثَّاقلتم : ماض بمعنى المضارع أي : ما لكم تتثاقلون ، وهو في موضع نصب ، أي : أيُّ شيء لكم في التَّثاقل ، أو في موضع جر على رأي الخليلِ . وقيل : هو في موضع حال " . قال أبو حيان : وهذا ليس بجيد ؛ لأنه يلزم منه حذفُ " أنْ " لأنه لا ينسبِكُ مصدرٌ إلاَّ من حرف مصدري والفعل وحذفُ " أنْ " في هذا قليلٌ جداً ، أو ضرورة . وإذا كان التقديرُ في التثاقل ، فلا يمكن عمله في " إذا " لأنَّ معمول المصدر الموصول لا يتقدَّمُ عليه ، فيكون النَّاصب لـ " إذا " والمتعلِّق به في التثاقل ما تعلَّق به " لَكُم " الواقعُ خبراً لـ " ما " وقرىء " أثَّاقلْتُم " بالاستفهام الذي معناه الإنكار ، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يعمل في " إذا " ؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، فيكونُ العاملُ في هذا الظَّرف إمَّا الاستقرارُ المقدَّر في " لكم " ، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللَّفظ ، والتقدير : ما تصنعون إذا قيل لكم ، وإليه نحا الزمخشري . والظَّاهر أن يقدَّر : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم ، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى . وقوله : " إِلَى ٱلأَرْضِ " ضُمِّنَ اثَّاقلتم معنى المَيْل والإخلاء ، فعدي بـ " إلى " والمعنى : تباطأتم إلى الأرض ، أي : لزمتم أرضكم ومساكنكم ، وملتم إلى الدنيا وشهواتها ، وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه ، ونظيره قوله { أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] قال المفسِّرون : معناه : اثاقلتم إلى نعيم الأرض ، وإلى الإقامة وبالأرض . قوله { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي : بخفض الدنيا ودعتها . وقوله : { إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ } جناس لفظي ] ، وكذا قوله : { ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ } [ آل عمران : 200 ] ، وقوله : { أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [ هود : 48 ] وقوله : { يٰأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ } [ يوسف : 84 ] ، وقوله : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } [ النمل : 44 ] ، وقوله : { أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] ، وقوله : { عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [ الدخان : 32 ] وقوله { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [ آل عمران : 26 ] . قوله " مِنَ ٱلآخِرَةِ " تظاهرت أقوالُ المعربين ، والمفسرين على أنَّ " مِنْ " بمعنى " بدل " كقوله { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [ الزخرف : 60 ] ، أي : بدلكم ؛ ومثلة قول الآخر : [ الرجز ] @ 2783 - جَارِيةٌ لَمْ تأكُلِ المُرقَّقَا ولمْ تَذُقْ مِن البُقُولِ الفُسْتُقَا @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 2784 - فَليْتَ لَنَا مِنْ ماءِ زَمْزمَ شَرْبَةً مُبرَّدَةً باتَتْ على طَهَيَانِ @@ إلاَّ أنَّ أكثر النَّحويين لم يثبتُوا لها هذا المعنى ، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك ، والتقدير هنا : اعتصمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياةِ الدُّنيا ، وكذلك باقيها . وقال أبُو البقاءِ : " مِنَ ٱلآخِرَةِ " في موضع الحال ، أي : بدلاً من الآخرة . فقدَّر المتعلَّقَ كوناً خاصاً ، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى . ثم قال : " فما متاع الحياة الدنيا " أي : لذاتها . وقوله " فِي الآخرةِ " متعلقٌ بمحذوفٍ من حيثُ المعنى ، تقديره : فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة فـ " محسوباً " حالٌ مِنْ " متاعُ " . وقال الحوفي : إنَّه متعلق بـ " قَلِيلٌ " ، وهو خبر المبتدأ قال : " وجاز أن يتقدَّم الظَّرفُ على عامله المقترن بـ " إلاَّ " ؛ لأنَّ الظروف تعمل فيها روائحُ الأفعال ، ولو قلت : ما زيدٌ عمراً إلاَّ يضرب ، لم يَجُزْ " . فصل الدَّليلُ على أنَّ متاع الدُّنيا في الآخرة قليل ، أنَّ لذات الدُّنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفاتِ والبليات ، ومنقطعة عن قريبٍ لا محالة ، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفاتِ ، ودائمة أبدية سرمدية ، وذلك يوجب القطع بأنَّ متاع الدُّنيا في جنب متاع الآخرة قليل حقير . قوله : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } . في الآخرة ، وقيل : هو احتباس المطر عنهم في الدنيا . قال القرطبيُّ : " هذا شرطٌ ، فلذلك حذفت منه النُّون . والجوابُ " يُعذِّبْكُم " و { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } وهذا تهديدٌ ووعيدٌ لتارك النَّفير " . { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } خيراً منكم وأطوع . قال ابنُ عبَّاسٍ : " هم التابعون " . وقال سعيدُ بن جبير : " هم أبناء فارس " وقيل : هم أهلُ اليمن . " وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً " بترككم النفير . قال الحسنُ " الكناية راجعة إلى الله تعالى ، أي : لا تضروا الله " ، وقال غيره تعود إلى الرسول ؛ لأنَّ الله عصمه من الناس ، ولا يخذله إن تثاقلتم عنه . { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . قال الحسنُ وعكرمةُ : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] وقال المحقِّقون : الصحيح أنَّ هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا ، وعلى هذا فلا نسخ . قوله : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } . هذا الشرط جوابه محذوف ، لدلالة قوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } عليه ، والتقدير : إلاَّ تنصروه فسينصره . وذكر الزمخشريُّ فيه وجهين : أحدهما : ما تقدَّم . والثاني : قال " إنه أوجب له النُّصْرَة ، وجعله منصوراً في ذلك الوقتِ ، فلنْ يُخْذَلَ من بعده " . قال أبُو حيَّان : " وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشَّرط ؛ لأنَّ إيجابَ النصرة له أمْرٌ سبق ، والماضي لا يترتَّب على المستقبل والذي يظهرُ الوجهُ الأول " . وهذا إعلام من الله أنَّه المتكفلُ بنصر رسوله ، وإعزاز دينه ، أعانوه ، أو لَمْ يُعينُوه ، وأنه قد نصرهُ عند قلة الأولياءِ ، وكثرة الأعداء ، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَدِ . وقوله : { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخُروج من مكَّة ، حين مكروا به وأرادوا تثبيته ، وهمُّوا بقتله . قوله " ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ " منصوبٌ على الحالِ من مفعول " أخْرَجهُ " وقد تقدَّم معنى الإضافة في نحو هذا التَّركيب عند قوله : { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] . وقرأت جماعة " ثَانِي اثنَيْنِ " بسكون الياء . قال أبُو الفَتْحِ : " حكاها أبو عمرو " . ووجهها أنَّ يكون سكَّن الياء تشبيهاً لها بالألفِ وبعضهم يخصُّه بالضرورة ، والمعنى : هو أحد الاثنين ، والاثنان أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر أبو بكر الصديق . قوله : { إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ } . " إذ " بدلٌ من " إذ " الأولى ، والعاملُ فيها " فَقدْ نَصرَهُ " . وقال أبُو البقاءِ : " مَنْ منع أن يكون العاملُ في البدلِ هو العامل في المبدل منه ، قدَّر عاملاً آخر ، أي : نصره إذ هما في الغارِ " . و " الغارُ " بيت يكون في الجبل ، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكَّة ، ويجمع على " غِيران " ، ومثله : " تاج وتِيجَان " ، و " قاعٌ وقيعان " ، والغارُ أيضاً : نَبْتٌ طيبُ الريح ، والغارُ أيضاً : الجماعة والغاران : البطنُ والفرجُ . وألف " الغَارِ " عن واو . قوله : " إِذْ يَقُولُ " بدل ثان من " إذْ " الأولى . وقال أبُو البقاءِ : أي : إذ هما في الغار ، و " إذْ يَقُول " ظرفان لـ " ثَانِي اثنَيْنِ " . فصل عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : " أنت صاحبي في الغارِ وصاحبِي على الحَوْضِ " . قال الحسينُ بن الفضل " من قال إنَّ أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله فهو كافر ؛ لإنكاره نص القرآن ، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً " . فإن قيل : إنَّ الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن في قوله : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ } [ الكهف : 37 ] . فالجوابُ : أنَّ هناك وإن وصفه بكونه صاحباً إلاَّ أنَّه أردفهُ بما يدلُّ على الإهانة والإذلال وهو قوله : " أكفرتَ " ؟ أمَّا ههنا فبعد أن وصفه بكون صاحباً ذكر بعده ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } فأيّ مناسبة بين البابين ؟ . روي أنَّ قريشاً لمَّا بيَّتُوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أول الليل إلى الغار ، وأمر عليّاً أن يضطجع على فراشه ، ليمنعهم السواد من طلبه ، جعل أبُو بكر يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " ما لك يا أبا بكر ؟ فقال : أذكر الطلب ؛ فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك ؛ فلما انتهينا إلى الغار دخل أبو بكر أولاً ، يلتمس ما في الغار ، فقال له رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، ما لك ؟ فقال بأبي أنت وأمِّي ، الغيرَانُ مأوى السِّباع والهوام ، فإن كان فيه شيء كان بِي لا بِكَ وكان في الغارِ حجر ، فوضع عقبه عليه ، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول ، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا ، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام " لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا " فقال أبو بكر : إن الله لمعنا ، فقال الرسول " نعم " فجعل يمسح الدموع عن خدِّه ، ولم يكن حزن أبي بكر جبناً منه ، وإنَّما إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إن أقتل فأناً رجلٌ واحدٌ ، وإن قتلت هلكت الأمة . " وروي أنَّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغارِ ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللَّهُمَّ أعْمِ أبصارهم " فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً . فصل دلَّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه : أحدها : أنَّه عليه الصلاة والسلام لمَّا ذهب إلى الغار كان خائفاً من الكفار أن يقتلوه ، فلولا أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعاً بأنَّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصِّديقين ، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك ؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنُه بخلاف ظاهره ، لخافه أن يدل أعداءه عليه ، أو لخافه أن يقدم هو على قتله ، فلمَّا استخلصه لنفسه في تلك الحالة ، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره . وثانيها : أن الهجرة كانت بإذن الله ، وكن في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين ، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقرب من أبي بكر ، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة ، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين . وثالثها : أنَّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمَّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره ، ولا تخلَّف عنه كغيره ، بل صبر على مؤانسته ، وملازمته ، وخدمته عند الخوفِ الشَّديد الذي لم يبق معه أحد ، وذلك يوجب الفضل العظيم . ورابعها : أنَّه تعالى سمَّاه : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " فجعله ثاني محمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - حال كونهما في الغار ، والعلماء أثبتوا أنه كان ثاني محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - في أكثر المناصب الدينية ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا أرسل إلى الخلقِ وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن ؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة ، والزبير ، وعثمان ، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلُّ على يده ، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل ، فكان هو - رضي الله عنه - " ثَانِي اثْنَيْن " في الدَّعوة إلى الله تعالى ، وكلَّما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، كان أبو بكر يقف في خدمته ، فكان " ثَانِيَ اثنين " في المواقف كلِّها ، وكلما صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقف خلفه ، وكلَّما جلسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان " ثَانِيَ اثنين " في مجلسه ، ولمَّا مرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قام مقامه في الإمامة ، فكان " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " ولمَّا مات دفن بجنبه ، فكان " ثاني اثنين " هناك . وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] الآية . ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافر ، فلمَّا لم يكن هذا المعنى من الله دالاًّ على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عليه الصلاة والسلام على فضيلة الإنسان أولى ؟ . والجوابُ : أنَّ هذا تعسف بارد ؛ لأنَّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير ، وكونه مطلقاً على ضمير كل أحد ، أمَّا هنا فالمراد بقوله تعالى : { ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ } تخصيصه بهذه الصِّفة في معرض التعظيم . قوله : { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } فالضمير في " عَلَيْه " يعودُ على أبي بكر ؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليه السكينة دائماً ، وقد تقدَّم القولُ في السكينة . والضميرُ في " أيَّدهُ " للنبي صلى الله عليه وسلم وهو إشارة إلى قصَّة بدر ، وهو معطوف على قوله { فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } . وقرأ مجاهد " وأيَدَه " بالتَّخفيف . و " لَمْ تَرَوْهَا " صفة لـ " جُنُود " . قوله : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ } كلمتهم : الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة ، { وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا } إلى يوم القيامة . قال ابنُ عبَّاسٍ " هي قول : لا إله إلاَّ الله " . وقيل : كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية ، وكلمة الله : وعده أنه ناصره . والجمهور على رفع " كَلِمة " على الابتداء ، و " هي " يجوزُ أن تكون مبتدأ ثانياً ، و " العُليا " خبرها ، والجملة خبر الأوَّل . ويجز أن تكن " هي " فصلاً ، و " العُليا " الخبر . وقرأ يعقوب " وكلمةَ اللهِ " بالنَّصب ، نسقاً على مفعولي " جعل " أي : وجعل كلمة الله هي العليا . قال أبُو البقاء : وهو ضعيفٌ ، لثلاثة أوجه : أحدها : وضعُ الظَّاهر موضع المضمر ، إذ الوجه أن يقول : وكلمته . الثاني : أنَّ فيه دلالةً أنَّ كلمة الله كانت سُفْلَى ، فصارت عليا ، وليس كذلك . الثالث : أنَّ توكيد مثل ذلك بـ " هي " بعيد ، إذ القياسُ أن يكون " إياها " . قال شهابُ الدِّين : أما الأولُ فلا ضعف فيه ؛ لأنَّ القرآن ملآن من هذا النَّوعِ ، وهو من أحسن ما يكون ؛ لأنَّ فيه تعظيماً وتفخيماً . وأمَّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر ، وهو أن يكون الشَّيء المصيَّر على الضد الخاص ، بل يدلُّ التَّصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة . وأمَّا الثالثُ فـ " هِيَ " ليست تأكيداً ألبتة ، إنما هي ضمير فصل على حالها ، وكيف يكونُ تأكيداً ، وقد نصَّ النحويون على أنَّ المضمر لا يؤكد المظهر ؟ . ثم قال : { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : قاهر غالب " حَكِيمٌ " لا يفعل إلاَّ الصَّواب .