Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 90, Ayat: 1-10)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } : يجوز أن تكون " لا " : زائدة ، كما تقدم في : " لا أقسم بيوم القيامة " ، قاله الأخفش : أي : أقسم ؛ لأنه قال : " بهذا البلد " ، وقد أقسم به في قوله : { وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } [ التين : 3 ] ، فكيف يجوز القسمُ به ، وقد أقسم به سبحانه ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 5210 - تَذَكَّرتُ لَيْلَى فاعْتَرَتْنِي صَبابَةٌ وكَادَ صَمِيمُ القَلْبِ لا يَتَقطَّعُ @@ أي : يتقطع ، ودخل حرف " لا " : صلة ، ومنه قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 12 ] وقد قال تعالى في سورة " ص " : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص : 75 ] . وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير : " لأُقْسِمُ " من غير ألفٍ بعد اللام إثباتاً . وأجاز الأخفش أيضاً ، أن تكون بمعنى : " ألا " . وقيل : ليست بنفي القسم ، ، وإنما هو كقول العرب : لا والله لا فعلت كذا ، ولا والله ما كان كذا ، لا والله لأفعلن كذا . وقيل : هي نفي صحيح ، والمعنى : لا أقسم بهذا البلد ، إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه . حكاه مكيٌّ ، ورواه ابنُ أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ ، قال : " لا " : رد عليهم ، وهذا اختيار ابن العربي ، لأنه قال : " وأما من قال : إنها رد ، فهو قول ليس له رد ؛ لأنه يصح به المعنى ، ويتمكن اللفظ والمراد " . فهو رد لكلام من أنكر البعث ، ثم ابتدأ القسم . وقال القشيريُّ : قوله : " لا " رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة ، المغرور في الدنيا ، أي : ليس الأمر كما تحسبه من أنه لم يقسم عليه أحد ، ثم ابتدأ القسم ، وأجمعوا على أنَّ المراد بالبلد : مكَّة المشرفة ، أي : أقسم بالبلد الحرام ، الذي أنت فيه ، لكرامتك عليَّ وحبي لك . قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } . فيه وجهان : أحدهما : أن الجملة اعتراضية على أحد معنيين ، إما على معنى : أنه - تعالى - أقسم بهذا البلد ، وما بعده ، على أن الإنسان في كبد ، واعترض بينهما بهذه الجملة ، يعني : ومن المكابدة ، أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد ، كما يستحل الصيد في غير المحرم . وإما على معنى : أنه أقسم ببلدة ، على أنَّ الإنسان لا يخلُو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح " مكة " ، تتميماً للتَّسلية ، فقال تعالى : وأنت حلٌّ به فيما يستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل ، والأسر ، فـ " حِلٌّ " بمعنى : حلال ، قال معناه الزّمخشري . ثم قال : فإن قلت : أين نظير قوله تعالى : { وَأَنتَ حِلٌّ } في معنى الاستقبال ؟ . قلت : قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، ومثله واسع في كلام العبادِ ، تقول لمن تَعدُه الإكرام والحباء : أنت مكرم محبوٌّ ، وهو في كلام الله أوسع ؛ لأنَّ الأحوال المستقبلة عنده ، كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأنَّ تفسيره بالحال محال ؛ لأن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة وقت نزولها فما بال الفتح ؟ . الثاني من الوجهين الأولين : أن الجملة حالية ، أي : لا أقسم بهذا البلد ، وأنت حالٌّ بها ، لعظم قدرك ، أي : لا نقسم بشيء ، وأنت أحق بالإقسام بك منه . وقيل : المعنى : لا أقسم به ، وأنت مستحلّ فيه ، أي : مستحل إذ ذاك . فصل في المراد بهذا البلد أجمع المفسرون على أن ذلك البلد " مكة " ، وفضلها معروف ، فإنه تعالى ، جعله حرماً آمناً قال تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] ، وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وقال تعالى : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] ، وأمر النَّاس بحجِّ البيتِ ، فقال : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] وقال تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [ البقرة : 125 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] ، وقال تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } [ الحج : 27 ] ، وشرف مقام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بقوله تعالى : { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] ، وحرم صيده ، وجعل البيت المعمور بإزائه ، ودحيت الأرض من تحته ، فهذه الفضائل ، وأكثر منها ، لما اجتمعت في " مكة " لا جرم أقسم الله تعالى بها . فصل في تفسير وأنت حلّ روى منصورٌ عن مجاهدٍ : " وأنْتَ حِلٌّ " ، قال : ما صنعت فيه من شيء ، فأنت في حل . وكذا قال ابن عبَّاسٍ : أحل له يوم دخل " مكة " ، أن يقتل من شاء ، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما ، ولم يحل لأحد من الناس ، أن يقتل بها أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال السدي : أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله . وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ ، قال : أحلت له ساعة من نهارٍ ، ثم أطبقت ، وحرمت إلى يوم القيامة ، وذلك يوم فتح " مكة " . [ قال ابن زيد : ولم يكن بها أحد حلالاً غير النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : معناه : وأنت مقيم فيه ، وهو محلك أي : من أهل " مكة " نشأت بينهم ، ويعرفون فضلك وطهارتك لقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] . وقيل : أنت فيه محسن ، وأنا عنك فيه راضٍ ] . وذكر أهل اللغة أنه يقال : رجل حلٌّ وحلالٌ ومحل ، ورجل حرم وحرام ومحرم . وقال قتادة : " وأنت حل به " أي لست بآثم ، قيل : معناه أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليه ارتكابه معرفة منك بحق هذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه . وقال شرحبيل بن سعد : { وأنْتَ حلٌّ بِهَذَا البَلدِ } أي : حلال ، أي هم يحرمون " مكة " أن يقتلوا بها صيداً ، أو يعضدوا بها شجرة ، ثم هم مع هذا يستحلُّون إخراجك وقتلك ، ففيه تعجُّب في جرأتهم وشدة عدواتهم له . قوله : { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } . قيل " ما " بمعنى : " من " ، أو بمعنى : " الذي " . وقيل : مصدرية أقسم بالشخص وفعله . وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : هلا قيل : ومَنْ ولد ؟ قلت : فيه ما في قوله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] ، أي : بأي شيء وضعت ، يعني : موضوعاً عجيب الشأن . وقيل : " ما " : فيحتاج إلى إضمار موصول به يصح الكلام ، تقديره : والذي ما ولد ، إذ المراد بالوالد ، الذي يولد له ، " ومَا وَلَد " يعني : العَاقِر الذي لا يُولدُ له ، قال معناه ابنُ عبَّاسٍ ، وتلميذه ابنُ جبيرٍ وعكرمةُ . فصل في الكلام على الآية هذا معطوف على قوله : { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } ، وقوله تعالى : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } معترض بين المعطوف والمعطوف عليه . قال ابنُ عباسٍ ومجاهد وقتادةُ والضحاكُ والحسنُ وأبو صالحٍ والطبريُّ : المراد بالوالد : آدم عليه الصلاة والسلام ، " ومَا وَلَد " أي : وما نسل من ولده ، أقسم بهم ؛ لأنهم أعجب ما خلق تعالى على وجه الأرض ، لما فيهم من البنيان ، والنُّطق ، والتدبير ، وإخراج العلوم ، وفيهم الأنبياء ، والدُّعاة إلى الله تعالى ، والأنصار لدينه ، وأمر الملائكة بالسُّجود لآدم - عليه السلام - وعلمه الأسماء كلَّها ، وقد قال تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [ الإسراء : 70 ] . وقيل : هو إقسام بآدم ، والصالحين من ذريته ، وأما الطالحون ، فكأنهم بهائم ، كما قال تعالى : { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ } [ الفرقان : 44 ] ، وقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] . وقيل : الوالد : إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - { وَمَا وَلَدَ } [ ذريته . وقيل : الوالد إبراهيم وإسماعيل ، وما ولد محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أقسم بمكة وإبراهيم ] . قال الفراء : وصلح " ما " للناس ، كقوله : { مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [ الليل : 3 ] ، وهو خالق الذكر والأنثى . قال الماورديُّ : ويحتمل أن الوالد : النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره ، " ومَا وَلَد " : أمته : لقوله عليه الصلاة والسلام ، " إنَّما أنَا بِمنزْلَةِ الوَالِدِ أعَلِّمكُمْ " ، فأقسم به وبأمته ، بعد أن أقسم ببلده ، مبالغة في تشريفه عليه الصلاة والسلام . قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } : هذا هو المقسم عليه ، والكبد : المشقة . قال الزمخشريُّ : والكَبدُ : أصله من قولك : كبدَ الرجل كبداً ، فهو أكْبَد ، إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه ، حتى استعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه اشتقت المُكابَدةُ ، كما قيل : كبته بمعنى أهلكه ، وأصله : كبده إذا أصاب كبده . قال لبيد : [ المنسرح ] @ 5211 - يَا عَيْنُ هَلاَّ بَكَيْتِ أربَدَ إذْ قُمْنَا وقَامَ الخُصومُ في كَبدِ @@ أي : في شدة الأمر ، وصعوبة الخطب ؛ وقال أبو الإصبع : [ البسيط ] @ 5212 - لِيَ ابنُ عَمٍّ لو انَّ النَّاس في كَبدٍ لظَلَّ مُحْتَجِزاً بالنَّبْلِ يَرْمينِي @@ قال القرطبيُّ : ومنه تكبَّد اللبن : غلظ واشتد , ومنه الكبدُ ؛ لأنه دمٌ تغلظ واشتد , ويقال : كابدتُ هذا الأمر , قاسيت شدته . فصل في المراد بـ " الإنسان " الإنسان هنا ابن آدم . قال ابنُ عباسٍ والحسنُ : " في كبدٍ " أي : في شدة ونصبٍ وعن ابن عباسٍ أيضاً : في شدّة من حمله ، وولادته ، ورضاعه , ونبت أسنانه ، وسائر أحواله . وروى عكرمةُ عنه , قال : منتصباً في بطن أمه ، والكبدُ : الاستواء ، والاستقامة ، فهذا امتنان عليه في الحقيقة ، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطن أمها إلاَّ منكبةً على وجهها إلا ابن آدم ، فإنه منتصب انتصاباً . وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما . وقال يمان : لم يخلق الله تعالى خلقاً يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق . [ وقال ابن كيسان : منتصباً في بطن أمه ، فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجل أمه . وقال الحسن : كابد مصائب الدنيا ، وشدائد الآخرة ] . قال بعضُ العلماء : أول ما يكابدُ قطع سرته ، ثم إذا قمط قماطاً ، وشد رباطاً ، يكابد الضيق والتعب ، ثم يكابد الارتضاع ، ولو فاته لضاع ، ثم يكابد نبت أسنانه ، وتحرك لسانه ، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام ، ثم يكابد الخِتَان ، والأوجاع والأحزان ، ثم يكابد المعلم وصولته ، والمؤدب وسياسته ، والأستاذ وهيبته ، ثم يكابد شغل التزويج ، ثم يكابد شغل الأولاد ، والأجناد ، ثم يكابد شغل الدُّور ، وبناء القصور ، ثم الكِبر والهرم ، وضعف الركبة والقدم ، في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها ، من صداع الرأس ، ووجع الأضراس ، ورمد العين ، وغم الدَّينِ ، ووجع السن ، وألم الأذُنِ ، ويكابد مِحَناً في المال ، والنفس ، مثل الضرب والحبس ، ولا يمر عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة ، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت ، ثم بعد ذلك مساءلة الملك ، وضغطة القبر وظلمته ، ثم البعث ، والعرض على الله ، إلى أن يستقر به القرار ، إما في الجنة أو في النار ، قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } فلو كان الأمر إليه ، ما اختار هذه الشَّدائد ، ودل هذا على أن له خالقاً دبره ، وقضى عليه بهذه الأحوال ، فليتمثل أمره . وقال ابن زيد : المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام . وقوله تعالى : { فِي كَبَدٍ } أي : في وسط السماء . وقال الكلبيُّ : إنَّ هذا نزل في رجل من بني جمح ، يقال له : أبو الأشدين واسمه أسيد بن كلدة بن جُمَح ، وكان قوياً ، وكان يأخذ الأديم العكاظي ، فيجعله تحت قدميه ، فيقول : من أزالني عنه فله كذا ، فيجذبه عشرة حتى يتمزّق الأديم ، ولا تزول قدماه ، وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وفيه نزل : { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } ، يعني : لقوته . قوله : { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } ، أي : أيظنّ ابن آدم أن لن يحاسبه الله عزَّ وجل قال ابنُ الخطيب : إن فسرنا الكبد بالشدة والقوة ، فالمعنى : أيحسب الإنسان الشديد أن لشدته لا يقدر عليه أحد ؟ وإن فسرنا بالمحنة ، والبلاء ، كان المعنى : أنَّ الإنسان كان في النعمة ، والشدة ، أي : أفيظنّ أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه شيء ، فهو استفهام على سبيل الإنكار . قوله : { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } : يجوز أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً . وقرأ العامة : " لُبَداً " بضم اللام وفتح الباء . وشدَّد أبُو جعفرٍ الباء جمع لابِدٍ ، مثل : راكع وركع ، وساجد وسُجَّد ، وعنه أيضاً : سكونها . ومجاهدٌ وابنُ أبِي الزِّناد : بضمتين ، وتقدم الكلام على هذه اللفظة في سورة : " الجن " . قال أبو عبيدة : " لُبَداً " : فعل من التلبيد ، وهذا المال الكثير ، بعضه على بعض . قال الزَّجَّاجُ : و " فعل " للكثرة ، يقال : رجل حطم ، إذا كان كثير الحطم . قال الفراءُ : واحدته : " لُبْدَة " و " لُبَدٌ " : جمع . وجعل بعضهم : واحد ، كـ " حطم " ، وهو في الوجهين للكثرة ، والمعنى : أنفقت مالاً كثيراً مجتمعاً ؛ لأن أهل الجاهلية يدعونه مكارم ومفاخر . قوله : { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } ، أي : أيظن أن لم يعاينه أحد ، بل علم الله ذلك منه ، فكان كاذباً ، في قوله : أهلكت ، ولم يكن أنفقه . وقال : أيظن أن لم يره ، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وأين أنفقه . وقال ابنُ عبَّاسٍ : كان أبو الأشدين يقول : أنفقت في عداوة محمد مالاً كثيراً ، وهو في ذلك كاذب . وقال مقاتلٌ : نزلت في الحارثِ بنِ عامرٍ بنِ نوفل ، أذنب ، فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يكفر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفَّارات ، والنفقات ، منذ دخلت في دين محمد . وهذا القول منه ، يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق ، فيكون طغياناً منه ، أو أسفاً منه ، فيكون ندماً منه . قال القرطبيُّ : " وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقرأ : " أيَحْسُبُ " ، بضم السين ، في الموضعين " . وقال الحسنُ : يقول : أتلفت مالاً كثيراً فمن يحاسبني به ، دعني أحسبه ، ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته ، وأن الله - عزَّ وجلَّ - يرى صنيعه ، ثم عدد عليه نعمه ، فقال : { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } : يبصر بهما ، { وَلِسَاناً } ينطق بهما ، { وَشَفَتَيْنِ } : يستر بهما ثغرهُ ، والمعنى : نحن فعلنا ذلك ، ونحن نقدر على أن نبعثه ، ونحصي عليه ما عمله . قوله : { وَشَفَتَيْنِ } ، الشِّفةُ : محذوفة اللام ، والأصل : شفهةٌ ، بدليل تصغيرها على " شُفَيْهَة " ، وجمعها على " ِفاه " ونظيره : سنة في إحدى اللغتين ، وشافهته أي كلمته من غير واسطة ، ولا يجمع بالألف والتاء ، استغناء بتكسيرها عن تصحيحها . قال القرطبي : " يقال : شفهاتٌ وشفواتٌ ، والهاء : أقيس ، والواو أعم تشبيهاً بالسنوات " . قال الأزهريُّ : " يقال : هذه شفة ، في الوصل ، وشفة ، بالتاء والهاء " . قوله : { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } ، يعني : الطريقتين : طريق الخير وطريق الشِّر . روى قتادةُ قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يقول : " يا أيُّها النَّاس ، إنَّما هُمَا النَّجدانِ : نَجْدُ الخيرِ ، ونجدُ الشَّرِّ ، فلم تَجْعَلُ نَجْدَ الشر أحبَّ إليْكَ من نَجْدِ الخَيْرِ " . فكأنه لما وهمت الدلائل ، جعلت كالطريق المرتفعة العالية ، لكونها واضحة للعقول ، كوضوح الطريق العالي للأبصار ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] ، بعد قوله : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [ الإنسان : 2 ] . ورُوِيَ عن عكرمة ، قال : النجدانِ : الثَّديانِ ، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك . ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ وعلي - رضي الله عنهما - لأنهما كالطريقين لحياة الولد ، ورزقه . فقوله : " النجدين " إما ظرف ، وإما على حذف الجار إن أريد بهما الثديان . والنَّجدُ في الأصل : العنقُ ، لارتفاعه . وقيل : الطريق العالي . قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 5213 - فَريقَانِ : مِنْهُمْ جَازعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ وأخَرُ مِنْهُمْ قَاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ @@ ومنه سميت نجد ، لعلوها عن انخفاض تهامة .