Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 91, Ayat: 1-10)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا } ، وقد تقدَّم أنَّ جماعة من أهل الأصول ؛ قالوا : التقدير : ورب الشمس ، ورب سائر ما ذكر إلى تمام القسم . واحتج قوم على بطلان هذا القول ، بأن في جملة هذا القسم : { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } ، وذلك هو الله تعالى ، لا يجوز أن يكون المراد منه تعالى أن يقدم قسمه بغيره على قسمه بنفسه ، فإذن لا بد من تأويل ، وهو أن " ما " مع ما بعده في حكم المصدر ، فيكون التقدير : والسَّماءِ وبنائها . واعترض الزمخشريُّ عليه ، فقال : لو كان الأمر على هذا الوجه ، لزم من عطف قوله : " فألهمها " عليه فساد النظم . قوله : { وَضُحَاهَا } . قال المبرِّدُ : إن الضُّحى ، والضَّحوة ، مشتقان من الضحّ ، وهو النور فأبدلت الألف ، والواو من الحاء ، تقول : ضَحْوة ، وضَحَوات ، وضُحى فالواو من " ضَحْوة " مقلوبة عن الحاء الثانية ، والألف في " ضُحَى " مقلوبة عن الواو . وقال أبو الهيثم : الضحُّ نقيض الظل ، وهو نور الشمس على ظهر وجه الأرض وأصله : الضحى ، فاستثقلوا الياء مع سكون الواو فقلبوها ألفاً . والضُّحَى : مؤنثة ، يقال : ارتفعت الضُّحى فوق الصخور ، وقد تذكر ، فمن أنَّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة ، ومن ذكَّر ذهب إلى أنَّه اسم على " فُعَل " نحو " صُرَد ، ونُغَر " وهو ظرف غير متمكن مثل : سحر ، تقول : لقيته ضحًى ، وضُحَى , إذا أردت به ضحى يومك لم تنونه . وقال الفراء : الضُّحَى ، هو النهار ، كقول قتادة ، والمعروف عند العرب أنَّ الضحى إذا طلعت الشمس ، وبُعَيْدَ ذلك قليلاً ، فإذا زاد فهو الضّحاء بالمد . ومن قال : الضحى ، النهار كله ، فذلك لدوام نور الشمس ، ومن قال : إنه نور الشَّمس أو حرها ، فنور الشمس لا يكون إلاَّ مع حرِّ الشمس ، وقد استدل من قال : إن الضحى حر الشمس بقوله تعالى : { وَلاَ تَضْحَىٰ } [ طه : 119 ] أي : لا يؤذيك الحر . فصل في تفسير الآية قال مجاهد : " وضُحَاهَا " أي : ضوؤها وإشراقها ، وأضاف الضحى إلى الشمس ؛ لأنه إنما يكون بارتفاع الشمس . وقال قتادةُ : بهاؤها . وقال السدي : حرها . وقال اليزيدي : انبساطها . وقيل : ما ظهر بها من كل مخلوق ، فيكون القسم بها ، وبمخلوقات الأرض كلها . حكاه الماوردي . قال ابن الخطيب : إنَّما أقسم بالشمس ، وضحاها ، لكثرة ما يتعلق به من المصالح ، فإنَّ أهل العالم كانوا كالأموات في الليل ، فلما ظهر الصبحُ في المشرق ، صار ذلك الضوء ، كالروح الذي تنفخ فيه الحياة ، فصارت الأموات أحياء ، ولا تزال تلك الحياة في القوة ، والزيادة إلى غاية كمالها وقت الضحى ، وذلك شبيه استقرار أهل الجنة . قوله : { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } ، أي : تبعها ، وذلك إذا سقطت رؤيا الهلال . [ قال الليث : تلوت فلاناً إذا تبعته . وقال ابن زيد : إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر ، تلاها القمر بالطلوع ، وفي آخر الشهر ، يتلوها بالغروب ] . قال الفراء : " تَلاَهَا " : أخذ منها ، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس . وقال الزجاجُ : " إذا تَلاهَا " أي : حين استوى ، واستدار ، فكان مثلها في الضياء والنور . وقال قتادةُ والكلبيُّ : معناه : أن الشمس ، إذا قربت ، فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب . وقيل : يتلوها في كبر الجرم ، بحسب الحسّ في ارتباط مصالح هذا العالم بحركته . قوله : { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } ، الفاعل : ضمير النهار . وقيل : عائد على الله تعالى ، والضمير المنصوب ، إمَّا للشمس ، وإما للظُّلمة ، وإما للأرض . ومعنى " جلاها " أي : كشفها ، فمن قال : هي " الشمس " ، فالمعنى : أنه يبين بضوئه جرمها ، ومن قال : هي " الظلمة " ، فهي ون لم يجر لها ذكر ، كقولك : أضحتْ باردةً ، تريد : أضحت غداتنا باردة ، وهو قول الفراء والكلبي وغيرهما . ومن قال : هي الدنيا والأرض ، وإن لم يجر لهما ذكر ، كقوله : { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ ص : 32 ] . قوله : " إذَا تَلاهَا " ، وما بعده فيه إشكال ؛ لأنه إن جعل شرطاً اقتضى جواباً ، ولا جواب لفظاً ، وتقديره غير صالح ، وإن جُعِلَ محضاً استدعى عاملاً وليس هنا عامل إلا فعل القسم حال ؛ لأنه إنشاء ، و " إذا " ظرف مستقبل ، والحال لا يعمل في المستقبل . ويخص " إذا " وما بعدها إشكال آخر ذكره الزمخشري ، قال : فإن قلت : الأمر في نصب " إذَا " معضل ، لأنك لا تخلو إمَّا أن تجعل الواو عاطفة ، فتنصب بها وتجر ، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك : " مررت أمس بزيد واليوم عمرو " ، وإمَّا أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه . قلت : الجواب فيه : أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحاً كلياً ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر ، فكانت الواو قائمة مقام الفعل ، والباء سادة مسدهما معاً ، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو ، فحقهن أن يكنّ عوامل على الفعل ، والجار جميعاً ، كما تقول : " ضَرب زيد بكراً وعمرو خالداً " ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام " ضرب " الذي هو عاملهما انتهى . وقال أبُو حيَّان : أما قوله في واوات العطف : " فتنصب وتجر " ، فليس هذا بالمختار على أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل ، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه ، ثم إن الإنشاء حجة في ذلك . وقوله : " فتقع في العطف على عاملين " ، ليس ما في الآية من العطف عاملين ، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب ، على اسمين مجرور ومنصوب ، فصرف العطف لم ينب مناب عاملين ، وذلك نحو قولك : مررت بزيد قائماً وعمرو جالساً ؛ وأنشد سيبويه في كتابه : [ الطويل ] @ 5219 - فَلَيْـسَ بِمعـروفٍ لَنـا أنْ نَـرُدَّهَـا صِحَاحـاً ولا مُسْتنكَـرٌ أن تُعَقَّـرَا @@ فهذا من عطف مجرور ومرفوع ؛ والعطف على عاملين فيه أربعة مذاهب ، ونسب الجواز إلى سيبويه . وقوله في نحو قولك : " مررت أمس بزيد واليوم عمرو " ، هذا المثال مخالف لما في الآية ، بل وزان ما في الآية : " مررت بزيد أمس وعمرو اليوم " ونحن نجيز هذا . وأمَّا قوله : " على استكراه " ، فليس كما ذكر ، بل كلام الخليل على المنع . قال الخليل في قوله تعالى : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [ الليل : 1 - 3 ] : " الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء " . وأما قوله : " إن واو القسم ليس يطرح معها إبراز الفعل إطراحاً كلياً " فليس هذا الحكم مجمعاً عليه ، بل أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو ، فتقول : " أقسم ، أو أحلف والله لزيد قائم " . وأما قوله : " والواوات العواطف نوائب عن هذا " إلى آخره ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل ، وليس هذا بالمختار . قال : والذي يقول : إن المُعضلَ هو تقدير العامل في " إذا " بعد الإقسام ، كقوله تعالى : { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [ النجم : 1 ] ، { وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } [ المدثر : 33 ، 34 ] ، { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 2 - 4 ] ، وما أشبهها فـ " إذا " ظرف مستقبل ، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف ؛ لأنه فعل إنشائي ، فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول ، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه أي وطلوع النجم ، ومجيء الليل ، لأنه معمول لذلك الفعل [ فالطلوع حال ، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل ، سيما إن كان جزماً ] ، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه ، ويكون ذلك العامل في موضع الحال ، وتقديره : والنجم كائناً إذا هوى والليل كائناً إذا يغشى ، لأنه لا يلزم كائناً منصوباً بالعامل ، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً ، وأيضاً ، فقد يكون المقسم به جثة ، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث كما لا تكون أخباراً . انتهى ما رد به أبو حيان وما استشكله من أمر العامل في " إذا " . قال شهاب الدين : المختار أن حرف العطف لا يعمل لقيامه مقام العامل ، فلا يلزم أبا القاسم لأنه يختار القول الآخر ، وقوله " ليس ما في الآية من العطف على عاملين " ممنوع بل فيه العطف على عاملين ولكنه في غموض ، وبيان أنه من العطف على عاملين ، أن قوله : { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } - ها هنا - , معمولان ، أحدهما مجرور وهو " النهار " , والآخر منصوب , وهو الظرف عطفاً على معمول عاملين , والعاملان هنا في فعل المقسم به ، الناصب لـ " إذا " الأولى ، وواو القسم الجارة ، فقد تحقق معك عاملان ، لهما معمولان ، فإذا عطفت مجروراً على مجرور ، وظرفاً على ظرف ، معمولين لعاملين ، لزم ما قاله أبو القاسم ، وكيف يجهل هذا مع التأمل والتحقيق ؟ ! . وأما قوله : " وأنشد سيبويه " إلى آخره ، فهو اعتراف منه بأنه من العطف على عاملين ، غاية ما في الباب أنه استند إلى حكمه لسيبويه ، وأما قوله : أجاز ابن كيسان ، فلا يلزم مذهبه ، وأما قوله : فالمثال ليس كالآية بل وزانها ، إلى آخره ، فصحيح لما فيه من تقديم الظرف الثاني على المجرور والمعطوف والآية والظرف فيها متأخر ، وإنما مراد الزمخشري وجود معمول عاملين ، وهو موجود في المثال المذكور إلا أن في الآية إشكالاً آخر ، وهو كالتكرير للمسألة ، وأما قوله : بل كلام الخليل يدل على المنع ، إلى آخره ، فليس فيه ردٌّ عليه بالنسبة إلى قصده بل فيه تقوية لما قال ، غاية ما في الباب أنه عبر بالاستكراه عن المنع ، ولم يفهم المنع ، وقوله : ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف ، إلى آخره ، فأقول : بل يجوز تقديره ، وهو العامل ، ولا يلزم ما قاله من اختلاف الزمانين ، لأنه يجوز أن يقسم [ الآن بطلوع النجم في المستقبل ، فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل ، ويجوز أن يقسم ] بالشيء الذي سيوجد وقوله " ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه " إلى آخره ، ليس بممنوع بل يجوز ذلك ويكون حالاً مقدرة ، وقوله " ويلزم ألاَّ يكون له عامل " ليس كذلك بل له عامل وهو فعل القسم ، ولا يضر كونه إنشائياً ، لأن الحال مقدرة كما تقدم ، وقوله " وقد يكون المقسم به جثة " جوايه : يقدر حينئذ حدث ، يكون الظرف الزماني حالاً عنه وسئل ابن الحاجب عن هذه المسألة ، فأجاب بنحو ما ذكرناه والله اعلم ، ولا يخلو الكلام فيها من بحث . قوله : { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } . المفعول " الشمس " : أي : يغشى الشمس فيذهب بضوئها عند سقوطها ، قاله مجاهد . وقيل : للأرض أي : يغشى الدنيا بالظلمة ، فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور . وجيء بـ " يَغْشَاهَا " مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل ؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب " إذ غشيها " فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع . قوله : { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } . في " ما " هذه وجهان : أحدهما : أن " ما " موصولة بمعنى " الذي " وبه استشهد من يجوز وقوعها على العقلاء ، ولأن المراد به الباري تعالى ، وإليه ذهب الحسن ومجاهد وأبو عبيدة ، واختاره ابن جرير . والثاني : مصدر ، أي وبنائها ، وإليه ذهب الزجاج والمبرد ، وهذا منهما بناء على أنها مختصة بغير العقلاء . واعترض على هذا القول بأنه يلزم أن يكون القسم بنفس المصادر : بناء السماء وطحو الأرض ، وتسوية النفس ، وليس المقصود إلاَّ القسم بفاعل هذه الأشياء ، وهو الرب تعالى ، وأجيب عنه بوجهين : أحدهما : أن يكون على حذف مضاف ، أي : ورب بناء السماء ونحوه . والثاني : أنه لا غرو لا يجوز في الإقسام بهذه الأشياء ، كما أقسم سبحانه وتعالى بالصبح ونحوه . وقال الزمخشري : " جعلت " ما " مصدرية في قوله " وما بناها " ، " وما طحاها " ، " وما سواها " ، وليس بالوجه ، لقوله " فألهمها " ، وما يؤدي إليه من فساد النظم ، والوجه أن تكون موصولة ، وإنما أوثرت على " من " لإرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفسٍ والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها ، وفي كلامهم : سبحان من سخركن لنا " انتهى . [ يعني أن الفاعل في " فألهمها " عائد على الله تعالى ، فليكن في بنائها كذلك ] . وحينئذ يلزم عوده على شيء ، وليس هنا ما يمكن عوده عليه غير " ما " فتعين أن تكون موصولة . قال أبو حيان : " أما قوله " وليس بالوجه " ، لقوله تعالى : { فَأَلْهَمَهَا } يعني من عود الضمير في { فَأَلْهَمَهَا } على الله تعالى ، فيكون قد عاد على مذكور ، وهو " ما " المراد به " الذي " ، قال : ولا يلزم ذلك ، لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام ، في " بَنَاهَا " ضمير عائد على الله تعالى ، أي : وبناها هو ، أي : الله تعالى ، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً ، فتقول : عجبت مما ضرب عمرو ، تقديره : من ضرب عمرو هو ، كان حسناً فصيحاً جائزاً ، وعود الضمير على ما يفهمُ من سياق الكلام كثير . وقوله " وما يؤدي إليه من فساد النظم " ليس كذلك ، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر . وقوله " وإنما أوثرت " إلى آخره ، لا يراد بـ " ما " ولا " من " الموصولتين ، معنى الوصلية ، لأنهما لا يوصف بهما " ما " دون " من " . وقوله " في كلامهم " إلى آخره ، تأوله أصحابنا على أن " سبحان " علم ، و " ما " مصدرية ظرفية " . قال شهاب الدين : أما ما رد به عليه من كونه يعود على ما يفهم من السياق ، فليس يصلح رداً ؛ لأنه إذا دار الأمر بين عوده على ملفوظ وبين غير ملفوظ به ، فعوده على الملفوظ به أولى ؛ لأنه الأصل وأما قوله : فلا ينفرد به " ما " دون " من " ، فليس مراد الزمخشري أنها توصف بها وصفاً صريحاً ، بل مراده أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته ، ولذلك مثل النحويون بقوله تعالى : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] . وقالوا : تقديره : فانكِحُوا الطَّيِّب من النِّساءِ ، ولا شك أن هذا الحكم تنفرد به " ما " دون " من " . قوله : { وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } . أي : وطحوها ، وقيل : من طحاها : أي بسطها ، قال عامة المفسرين : أي دحاها . قال الحسن ومجاهد وغيرهما : طحاها ودحاها : واحد ، أي : بسطها من كل جانب . والطَّحْوُ : البسطُ ، طحا ، يطحو ، طحواً ، وطحى يطحى طحياً ، وطحيت : اضطجعت ، عن أبي عمرو ، وعن ابن عباس : طحاها : أي قسمها ، وقيل : خلقها ؛ قال الشاعر : [ الوافر ] @ 5220 - ومَـا تَـدْرِي جَذيمـةُ مَـنْ طَحـاهَـا ولا مَـنْ سَاكِـنُ العَرْشِ الرَّفيعِ @@ قال الماوردي : ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز ؛ لأنه حياة لما خلق عليها . ويقال في بعض أيمان العرب : لا ، والقمر الطاحي ، أي : المشرق المرتفع . قال أبو عمرو : طحا الرجل إذا ذهب في الأرض ، يقال : ما أدري أين طحا ؟ . ويقال : طحا به قلبه ، إذا ذهب به كلِّ شيء ؛ قال علقمة : [ الطويل ] @ 5221 - طَحَا بِكَ قَلبٌ في الحِسانِ طَرُوب … … @@ قال ابن الخطيب : وإنما أخر هذا عن قوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } لقوله : { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] . قوله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } . قيل : المعنى ، وتسويتها ، فـ " ما " مصدرية . وقيل : المعنى ، ومن سواها ، وهو الله تعالى ، قيل : المراد بالنفس : آدم عليه الصلاة والسلام . وقيل : كلُّ نفس منفوسةٍ ، فما التنكير إلا لتعظيمها ، أي نفس عظيمة ، آدم عليه الصلاة والسلام وإما للتكثير ، كقوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ التكوير : 14 ] ، و " سوَّى " بمعنى هيأ . وقال مجاهد : سوَّى خلقها وعدَّل ، وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم ، أي أقسم الله تعالى بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه - سبحانه وتعالى - . قوله : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا } أي : عرَّفها طريقَ الفجور والتقوى ، قاله ابن عباس ومجاهد . وعن مجاهد أيضاً : عرفها الطاعة والمعصية . [ وعن محمد بن كعب - رضي الله عنه - إذا أراد الله تعالى لعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به ، وإذا أراد به الشر ألهمه الشرّ فعمل به . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : ألهم المؤمن التقي تقواه وألهم الكافر فجوره ، وعن قتادة : بين لها فجورها وتقواها ، والفجور والتقوى مصدران في موضع المفعول ] . قال الواحدي : الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً ، وإذا أوقع في قلبه فقد ألزمه إياه ، من قولهم : لهم الشيء وألهمه : إذا بلغه ، وألهمته ذلك الشيء ، أي أبلغته ، هذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد لأنه كالإبلاغ . قوله : { قَدْ أَفْلَحَ } . فيه وجهان : أحدهما : أنه جواب القسم ، والأصل : لقد وإنما حذفت لطول الكلام ، والثاني : أنه ليس بجواب ، وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء ، فالجواب محذوف ، تقديره [ ليدمرن ] الله عليهم ، أي : على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحاً - عليه الصلاة والسلام - قال معناه الزمخشري . وقدر غيره : لتبعثن . وقيل : هو على التقديم والتأخير بغير حذف ، والمعنى : قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ، والشمس وضحاها . وفاعل " زكّاها " و " دسّاها " ، الظاهر أنه ضمير " مَنْ " . وقيل : ضمير الباري تعالى ، أي : أفلح وفاز من زكاها بالطاعة ، وقد خاب من دساها أي : خسرت نفسٌ دسها الله تعالى بالمعصية ، وأنحى الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه . قال شهاب الدين : والحق أنه خلاف الظاهر ، لا لما قال الزمخشري ، بل لمنافرة نظمه للاحتياج إلى عود الضمير على النفس مقيدة بإضافتها إلى ضمير " من " . وقال ابن عباس : خابت نفس أضلها الله وأغواها . وقيل : أفلح من زكى نفسه بطاعة الله ، " وخاب " خسر من دس نفسه في المعاصي . قاله قتادة . وأصل الزكاة : النمو والزيادة ، ومنه تزكى الزَّرع إذا كثر معه ، ومنه تزكية القاضي الشاهد ، لأنه يرفعه بالتعديل . وقيل : دساها : أغواها ، قال : [ الطويل ] @ 5222 - وأَنْتَ الَّـذِي دسَّيْـتَ عَمْـراً فأصْبَحـتَ حَلائِلهُ مِنْهُ أرَامِلَ ضُيَّعَا @@ قال أهل اللغة : والأصل ، دسها ، من التدسيس فكثرت الأمثال فأبدل من ثالثها حرف علة كما قالوا : قصيت أظفاري ، وأصله قصصت ، وتقضي البازي ، والتدسية : الإخفاء يعني أخفاه بالفجور ، وقد نطق بالأصل الشاعر المتقدم . وقال آخر : [ الكامل ] @ 5223 - ودَسَسْتَ عَمْراً في التُّرَابِ فأصْبَحَتْ … … @@ [ وهو إخفاء الشيء في الشيء ، فأبدلت سينه ياءً . وقال ابن الأعرابي : " وقَدْ خَابَ من دسَّاهَا " أي : دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم ] . قال الواحدي : فكأنه - تعالى - أقسم على فلاح من طهره وخسارة من خذله لئلا يظن أن المراد بتولي ذلك من غير قضاء سابق ، فقوله : " قَدْ أفلَحَ " : هو جواب القسم .