Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 92, Ayat: 12-21)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ } ، أن نبين طريق الهدى ، من طريق الضلال ، فالهدى بمعنى بيان الأحكام قاله الزجاجُ : أي : على الله بيان حلاله ، وحرامه ، وطاعته ومعصيته ، وهو قول قتادة . وقال الفراءُ : من سلك الهدى ، فعلى الله سبيله ، كقوله تعالى : { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } [ النحل : 9 ] ، وقيل : معناه إنَّ علينا للهدى والإضلال ، فترك الإضلال كقوله تعالى : { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } [ آل عمران : 26 ] ، وقوله تعالى : { تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] وهي تقي الحرَّ وهي تقي البرد ، قاله الفراء أيضاً . وهو يروي عن ابن عباس رضي الله عنه . فصل لما عرفهم سبحانه أن سعيهم شتى ، وبين ما للمحسنين من اليسرى ، وللمسيئين من العسرى أخبرهم أنه قد مضى ما عليه من البيان ، والدلالة ، والترغيب ، والترهيب ، أي : أن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد ، ونبين المتعبد به . قالت المعتزلة : إباحة الأعذار تقتضي أنه تعالى كلفهم بما في وسعهم وطاقتهم . وأيضاً فكلمة " على " للوجوب ، وأيضاً : فلو لم يستقل العبد بالإيجاد ، لم يكن في نصب الأدلة فائدة ، وجوابهم قد تقدم . وزاد الواحديُّ : أن الفراء ، قال : إن معنى : إن علينا للهدى والإضلال ، فحذف المعطوف كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] ، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، يريد : أرشد أوليائي للعمل بطاعتي ، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي ، وهو معنى الإضلال ، ورد المعتزلة هذا التأويل بقوله تعالى : { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ } [ النحل : 9 ] ، وتقدم جوابهم . قوله تعالى : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ } ، أي : لنا كل ما في الدنيا ، والآخرة ، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا ، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم ، ولو شئنا لمنعناكم عن المعاصي لكن ذلك يخل بالتكليف ، بل نمنعكم بالبيان والتعريف ، والوعد والوعيد ، ونكون نحن نملك الدارين ، فليطلب منا سعادة الدارين ؛ فالأول أوفق لقول المعتزلة ، والثاني أوفق لقولنا . وروى أبو صالح عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : ثواب الدنيا والآخرة ، وهو كقوله تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [ النساء : 134 ] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق . قوله : { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } . قد تقدم في " البقرة " : أن البزي يشدد مثل هذه التاء ، والتشديد فيها عسر لالتقاء الساكنين فيهما على غير حدهما ، وهو نظير قوله تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] وقد تقدم . وقال أبو البقاء : يقرأ بكسر التنوين ، وتشديد التاء ، وقد ذكر وجهه في قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } [ البقرة : 267 ] انتهى . وهذه قراءة غريبة ، ولكنها موافقة للقياس من حيث إنه لم يلتق فيها ساكنان وقد ذكر وجهه ، أي الذي قاله في " البقرة " ، ولا يفيد هنا شيئاً ألبتة فإنه قال هناك : " ويقرأ بتشديد التاء ، وقبله ألف ، وهو جمع بين ساكنين ، وإنام سوغ ذلك المد الذي في الألف . وقال ابنُ الزبير ، وسفيان ، وزيد بن علي ، وطلحة ، " تَتَلظَّى " بتاءين وهو الأصل . قال القرطبي : " وهي قراءة عبد الله بن عمير ويحيى بن يعمر " . فصل في معنى الآية المعنى : خوفتكم ، وحذرتكم ناراً تلظى ، أي : تلهّب ، وتوقّد ، وتوهّج ، يقال : تلظت النار تلظياً ، ومنه سميت جهنم : لظى . قوله تعالى : { لاَ يَصْلاَهَآ } ، أي : لا يجد صلاها ، وهو حرها { إِلاَّ ٱلأَشْقَى } ، أي : الشقي . قيل : الأشقى ، والأتقى ، بمعنى الشقي والتقي ، ولا تفضيل فيهما ، لأن النار مختصة بالأكثر شقاء ، وتجنبها ليس مختصاً بالأكثر تقوى . وقيل : بل هما على بابهما ، وإليه ذهب الزمخشريُّ ، فإنه قال : فإن قلت : كيف قال : { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى } { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } ، وقد علم أن كلَّ شقي يصلاها ، وكل تقي يجنبها ، لا يختص بالصليّ أشقى الأشقياء ، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكَّر النار ، فأراد ناراً بعينها مخصوصة بالأشقى ، فما تصنع بقوله { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة ، لا الأتقى منهم خاصة . قلت : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين ، وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ؛ فقيل : الأشقى ، وجعل : مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له . وقيل : الأتقى ، وجعل مختصاً بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل : هما أبو جهل وأمية وأبو بكر - رضي الله عنه . قال : جوابه المراد بهما شخصان معينان . انتهى . فصل قال المفسرون : المراد بالأشقى ، والشقي : الذي " كذَّب " نبي الله صلى الله عليه وسلم " وتولَّى " أعرض عن الإيمان . وقال الفرَّاء : معناه إلاَّ مَنْ كان شقياً في علمِ الله تعالى . قال بعضهم : " الأشقَى " بمعنى الشقي ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 5229 - … … … لَسْـتُ فِيهَـا بأوْحَـدِ @@ " بأوحد " ، أي : بواحد ، ووحيد ، ويوضع " أفعل " موضع " فعيل " نحو قولهم : " اللهُ أكْبَرُ " بمعنى كبير وهو أهون عليه بمعنى هين ، قالت المرجئة : الآية تدل على أن الوعيد مختص بالكافر . والجواب : المعارضة بآيات الوعيد . وأيضاً : فهذا إغراء بالمعاصي ، وأيضاً ، فقوله تعالى بعده : { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } يدل على ترك هذه الظاهرة ؛ لأن الفاسق ليس " بأتقى " فالمراد بقوله تعالى : { نَاراً تَلَظَّىٰ } أنها مخصوصة من بين النيران ؛ لأن النار دركات ، ولا يلزم من هذا أنَّ الفاسق لا يدخل النَّار أصلاً ، والمراد لا يصلاها بعد الاستحقاق . وأجاب الواحديُّ : بأن معنى " لا يَصْلاَهَا " : لا يلزمها ، وهذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر . قوله : { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } ، أي : يبعد عنها الأتقى ، أي : التقي الخائف . قال ابن عباس : وهو أبو بكر - رضي الله عنه - ، ثم وصف الأتقى ، فقال سبحانه : { ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } أي : يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، ولا يطلب بذلك رياء ، ولا سمعةً بل يتصدق به مبتغياً به وجه الله . قوله : " يَتَوكَّى " . قرأ العامة : " يتزكّى " مضارع " تَزَكَّى " . والحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - : " يزكَّى " بإدغام الياء في الزاي ، وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنها في موضع الحال من فاعل " يُؤتِي " ، أي : يؤتيه متزكياً به . والثاني : أنها لا موضع لها من الإعراب على أنها بدل من صلة " الَّذي " ، ذكرهما الزمخشري . قوله تعالى : { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } ، أي : ليس يتصدق ليجازى على نعمة بل يبتغي وجه ربه الأعلى ، أي : المتعالي ، و " تجزى " صفة لـ " نِعْمَة " ، أي : يجزى الإنسان ، وإنَّما جيء به مضارعاً مبنياً للمفعول ، لأجل الفواصل ؛ إذ الأصل : يجزيها إياه أو يجزيه إياها . قوله : { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ } . في نصب " إلاَّ ابتِغَاءَ " وجهان : أحدهما : أنه مفعول له قال الزمخشري : " ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى ؛ لأن المعنى : لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه ، لا لمكافأة نعمة " . وهذا أخذه من قول الفراء ، فإنه قال : ونصب على تأويل : ما أعطيتك ابتغاء جزائك ، بل ابتغاء وجه الله تعالى . والثاني : أنه منصوب على الاستثناء المنقطع ، إذ لم يندرج تحت جنس " مِنْ نِعْمَةٍ " وهذه قراءة العامة ، أعني : النصب ، والمد . وقرأ يحيى : برفعه ممدوداً على البدل من محل " نِعْمَةٍ " ؛ لأن محلها الرفع ، إما على الفاعلية ، وإما على الابتداء ، و " من " مزيدة في الوجهين ، والبدل لغة تميم ؛ لأنهم يجرون المنقطع في غير الإيجاب مجرى المتصل ، وأنشد الزمخشري بالوجهين : النصب ؛ والبدل قول بشر بن أبي خازم : [ البسيط ] @ 5230 - أضْحَتْ خَلاَءً قِفَاراً لا أنِيَ بِهَا إلاَّ الجَآذِرَ والظُّلْمَانَ تَخَتَلِفُ @@ وقول القائل في الرفع : [ الرجز ] @ 5231 - وبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنيسُ إلاَّ اليَعافِيرُ وإلاَّ العيسُ @@ وفي التنزيل : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] . وقال مكي : " وأجاز الفَرَّاءُ الرفع في " ابتغاء " على البدل في موضع " نعمة " ، وهو بعيد " . قال شهاب الدين : " كأنه لم يطلع عليها قراءة ، واستبعاده هو البعيد ، فإنها لغة فاشية " . وقرأ ابن أبي عبلة : " ابتغا " بالقصر . فصل في سبب نزول الآية روى عطاء ، والضحاك عن ابن عباس ، قال : " عذَّب المشركون بلالاً ، وبلال يقول : أحدٌ أحدٌ فمرَّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أحَدٌ ، يعني اللهُ يُنْجِيْكَ بِهَا " ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ - رضي الله عنه - : " يا أبا بكرٍ إنَّ بلالاً يُعذَّبُ في اللهِ " ، فعرفَ أبو بكرٍ الذي يُرِيدُهُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فانصرفَ إلى مَنْزلهِ ، فأخذَ رَطْلاً مِنْ ذهبٍ ومضى به إلى أمية بن خلفٍ ، فقال له : أتبيعني بلالاً ؟ قال : نعم ، فاشتراه ، فأعتقه أبو بكر - رضي الله عنه - لا ليدٍ كانت له عنده " ، فنزلت { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ } ، أي : عند أبي بكر " مِنْ نَعْمَةٍ " أي : مزية ومنّةٍ " تُجْزَى " بل ابتغى بما فعل وجه ربِّه الأعلى . قال بعضهم : المراد ابتغاء ثوابه وكرامته لأن ابتغاء ذاته محال ، وقال بعضهم : لا حاجة إلى هذا الإضمار ، بل حقيقة هذه المسألة ترجع إلى أن العبد هل يمكن أن يحب ذات الله ، والمراد من هذه المحبة ذاته ، وكرامته . ذكره ابن الخطيب . والأعلى من نعت الربِّ الذي استحق صفات العلو ، ويجوز أن يكون ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة ] . قوله : { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } . هذا جواب قسم مضمر ، والعامة : على " يَرضَى " مبنياً للفاعل وقرئ : ببنائه للمفعول ، من أرضاه الله تعالى . [ وهو قريب من قوله تعالى في آخر سورة طه { لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } [ طه : 130 ] . ومعنى الآية : سوف يعطيه الله تعالى في الجنَّة ما يرضى ، بأن يعطيه أضعاف ما أنفق . قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن المراد أنه إنما طلب رضوان الله تعالى ، وليس يرضى الله عنه ، قال : وهذا أعظم من الأول ؛ لأن رضا الله أكمل للعبد من رضاه عن ربِّه ، والله أعلم . روى الثعلبيُّ عن أبي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ { وَٱلْلَّيْلِ } أعْطَاهُ اللهُ حتَّى يَرْضَى ، وعافاهُ اللهُ تعالى من العُسْرِ ، ويسَّر لهُ اليُسْرَ " . قال الثعلبي : وإذا ثبت نزولها بـ " مكة " ضعف تأويلها بقصة أبي الدحداح ، وقوي تأويلها بنزولها في حق أبي بكر - رضي الله عنه - لأنه كان بـ " مكة " ، وإنفاقه بـ " مكة " وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة . وروي عن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحم اللهُ أبا بَكْرٍ ، زوَّجنِي ابنَتُه ، وحَملنِي إلى دَارِ الهِجْرَةِ ، وأعْتَقَ بلالاً مِنْ مَالهِ " والله أعلم .