Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 93, Ayat: 6-11)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر الله تعالى عن حاله التي كان عليها قبل الوحي , وذكره نعمه , فقال : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ } ، العامة على : " فآوى " بألف بعد الهمزة رباعياً . وأبو الأشهب : " فأوى " ثلاثياً . قال الزمخشري : " وهو على معنيين : إما من " أواه " بمعنى " آواه " سمع بعض الرعاة يقول : أين آوي هذه الموقسة ؟ وإما من أوى له ، إذا رحمه " . انتهى . وعلى الثاني قوله : [ الطويل ] @ 5240 - أرَانِي ولا كُفْرانَ للَّـهِ أيَّـةَ لنَفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنيلِ @@ أي : رحمة لنفسي ، ووجه الدلالة من قوله " أين آوي هذه " ، أنه لو كان من الرباعي [ لقال : أُأْوي - بضم الهمزة الأولى وسكون الثانية - لأنه مضارع آوى مثل أكرم ، وهذه الهمزة ] المضمومة هي حرف المضارعة ، والثانية هي فاء الكلمة ، وأما همزة " أفْعَل " فمحذوفة على القاعدة ، ولم تبدل هذه الهمزة كما أبدلت في " أومن " لئلا يستثقل بالإدغام ، ولذلك نص الفراء على أن " تُؤويهِ " من قوله تعالى { وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } [ المعارج : 13 ] لا يجوز إبدالها للثقل . فصل قال ابن الخطيب : " يَجدْكَ " من الوجود الذي بمعنى العلم ، والمفعولان منصوبان بـ " وجد " ، والوجود من الله العلم ، والمعنى : ألم يعلمك الله يتيماً فآوى . قال القرطبي : " يَتِيْماً " لا أب لك ، قد مات أبوك ، " فآوى " ، أي : جعل لك مأوى تأوى إليه عند عمك أبي طالب ، فكفلك . وقيل لجعفر بن محمد الصادق : لم أوتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه ؟ . فقال : لئلاَّ يكون لمخلوق عليه حق . وعن مجاهدٍ : هو من قول العرب : درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل ، فمجاز الآية ألم يجدك واحداً في شرفك ، لا نظير لك ، فآواك الله بأصحاب يحفظونك ، ويحوطونك . فصل في جواب سؤال أورد ابن الخطيب هنا سؤالاً : وهو أنه كيف يحسن من الجواد أن يمن بنعمة ، فيقول : { ألمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } ، ويؤكد هذا السؤال أن الله - تعالى - حكى عن فرعون قوله لموسى عليه الصلاة والسلام : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } [ الشعراء : 18 ] في معرض الذَّم لفرعون فما كان مذموماً من فرعون ، كيف يحسن من الله تعالى ؟ قال : والجواب : أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك تقوية قلبه ، ووعده بدوام النعمة ، ولهذا ظهر الفرق بين هذا الامتنان ، وبين امتنان فرعون ، لأن امتنان فرعون معناه : فما بالك لا تخدمني ، وامتنان الله تعالى : زيادة نعمه ، كأنه يقول : ما لك تقطع عني رجاءك ، ألست شرعت في تربيتك أتظنني تاركاً لما صنعته ، بل لا بد وأ أتمّ النعمة كما قال تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 150 ] . فإن قيل : إن الله تعالى منَّ عليه بثلاثة أشياء ، ثم أمره أن يذكر نعمة ربه ، فما وجه المناسبة ؟ . فالجوابُ : وجه المناسبة أن تقول : قضاء الدين واجب ، والدين نوعان : مالي وإنعامي ، والإنعامي أقوى وجوباً لأن المال قد يسقط بالإبراء ، والإنعامي يتأكد بالإبراء ، والمالي يقضى مرة فينجو منه الإنسان ، والإنعامي يجب عليه قضاؤه طول عمره ، فإذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم ، هو مملوك ، فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم المالك ، فكان العبد يقول : إلهي أخرجتني من العدم ، إلى الوجود بشراً مستوياً ، طاهر الظاهر نجس الباطن ، بشارة منك ، تستر عليَّ ذنوبي بستر عفوك ، كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر ، فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حصر لها ، فيقول تبارك وتعالى : الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق [ عبيدي ذلك ، وكنت عائلاً فأغنيتك ، فافعل في حق ] الأيتام ذلك ثم إذا فعلت كل ذلك ، فاعلم أنما فعلته بتوفيقي ، ولطفي ، وإرشادي ، فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم . قوله : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } ، أي : غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة فهداك أي : أرشدك ، والضلال هنا بمعنى الغفلة ، لقوله تعالى : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] أي : لا يغفل ، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } [ يوسف : 3 ] وقيل : معنى قوله : " ضالاًّ " لم تكن تدري القرآن ، والشرائع ، فهداك اللهُ إلى القرآن ، وشرائع الإسلام ، قاله الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما . قال تعالى : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] على ما تقدم في سورة الشورى . وقال السديُّ والكلبي والفراء : وجدك ضالاًّ ، أي : في قوم ضلال ، فهداهم الله بك ، أو فهداك إلى إرشادهم . وقيل : وجدك ضالاً عن الهجرة ، فهداك وقيل : " ضالاً " ، أي : ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهفِ ، وذي القرنين ، والروح ، فأذكرك ، لقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] . وقيل : ووجدك طالباً للقبلة فهداك إليها ، لقوله تعالى : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ } [ البقرة : 144 ] ، ويكون الضلال بمعنى الطلب ؛ لأن الضال طالب . وقيل : وجدك ضائعاً في قومك ، فهداك إليهم ، ويكون الضلال بمعنى الضياع . وقيل : ووجدك محباً للهداية ، فهداك إليها ؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة ومنه قوله تعالى : { قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } [ يوسف : 95 ] ، أي : في محبتك . قال الشاعر : [ الكامل ] @ 5241 - هَذا الضَّلالُ أشَابَ منِّي المفْرِقَا والعَارضَينِ ولَمْ أكُنْ مُتحقِّقَا عَجَبـاً لعـزَّة في اخْتِيَـارِ قَطيعَتِـي بَعْـدَ الضَّـلالِ فحِبْلُهَـا قـَدْ أخْلقَـا @@ وقيل : ضالاً في شعاب " مكة " ، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب . وقال كعب - رضي الله عنه - : إن حليمة لما قضت حق الرضاع ، جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتردهُ على عبد المطلب ، فسمعت عند باب " مكة " : هنيئاً لك يا بطحاء " مكة " ، اليوم يرد إليك الدين والبهاء والنور والجمالُ ، قالت : فوضعته لأصلح ثيابي ، فسمعت هدة شديدة فالتفت فلم أره ، فقلت : معشر الناس ، أين الصبي ؟ فقالوا : لم نر شيئاً فصحتُ : وامحمداه ، فإذا شيخ فإن يتوكأ على عصاه ، فقال : اذهبي إلى الصنم الأعظم ، فإن شاء أن يرده إليك فعل ، ثم طاف الشيخ بالصَّنم ، وقبل رأسه وقال : يا رب ، لم تزل منتك على قريش ، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضلّ ، فرده إن شئت ، فانكبّ هبل على وجهه ، وتساقطت الأصنام ؛ وقالت : إليك عنا أيها الشيخ , فهلاكُنَا على يدي محمد , فألقى الشيخ عصاه , وارتعد , وقال : إن لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل ، فانحشرت قريش إلى عبد المطلب ، وطلبوه في جميع " مكة " ، فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً ، وتضرع إلى الله أن يرده ؛ وقال : [ الرجز ] @ 5242 - يـا ربِّ ، رُدَّ ولَـدِي مُحَمَّـداً أرْدُدْهُ ربِّـي واصْطَنِـعْ عِنْـدِي يَـدَا @@ فسمعوا منادياً ينادي من السماء : معاشر الناس لا تضجوا ، فإن لمحمد ربَّا لا يضيعه ولا يخذله ، وإن محمداً بوادي " تهامة " ، عند شجرة السَّمُرِ ، فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالإغصان وبالورق . وفي رواية : فما زال عبد المطلب يردد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم بين يديه ، وهو يقول : ألا تدري ماذا جرى من ابنك ؟ . فقال عبد المطلب : ولم ؟ قال : إني أنخت الناقة ، وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم ، فلما أركبته أمامي قامت النَّاقة . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : رده إلى جده وبيد عدوه ، كما فعل بموسى - عليه الصلاة والسلام - حين حفظه عند فرعون . وقال سعيد بن جبيرٍ : خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر ، فأخذ إبليس بزمام ناقته في ليلة ظلماء فعدل بها على الطريق ، فجاء جبريل - عليه السلام - فنفخ لإبليس نفخة وقع منها إلى أرض " الهند " ، ورده إلى القافلة صلى الله عليه وسلم . وقيل : ووجدك ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل ، وأنت لا تعرف الطريق ، فهداك إلى ساق العرش . وقال بعض المتكلمين : إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض ، لا شجر معها ، سموها ضالة ، فيهتدى بها إلى الطريق ، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : " ووجَدَكَ ضالاًّ " أي لا أحد على دينك ، بل وأنت وحيد ليس معك أحد ، فهديت بك الخلق إلي . وقيل : ووجدك مغموراً في أهل الشرك ، فميزك عنهم ، يقال : ضل الماءُ في اللبن ، ومنه { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [ السجدة : 10 ] ، أي : لحقنا بالتراب عند الدَّفن ، حتى كأنا لا نتميز من جملته وقيل : ضالاًّ عن معرفة الله حين كنت طفلاً صغيراً ، كقوله تعالى : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } [ النحل : 78 ] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة ، فالمراد من الضال الخالي من العلم لا الموصوف بالاعتقاد ، قيل : قد يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد قومه فقوله تعالى : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } أي وجد قومك ضلالاً فهداهم بك . وقيل : إنه كان على ما كان القوم عليه لا يظهر لهم في الظاهر الحال ، وأما الشرك فلا يظن به على مواسم القوم في الظاهر أربعين سنة . وقال الكلبي والسدي أي وجدك كافراً والقوم كفاراً فهداك ، وقد مضى الرد على هذا القول في سورة الشورى . قوله : { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ } ، العائل : الفقير ، وهذه قراءة العامة يقال : عال زيد ، أي : افتقر . قال الشاعر : [ الوافر ] @ 5243 - ومَا يَدْري الفَقِيرُ متَى غِنَاهُ ومَا يَدْرِي الغَنِيُّ متَى يَعِيلُ @@ وقال جرير : [ الكامل ] @ 5244 - اللهُ أنْزَلَ في الكِتَابِ فَريضَةً لابْنِ السَّبِيلِ وللفَقِيرِ العَائِلِ @@ وقرأ اليماني : " عيِّلاً " بكسر الياء المشددة كـ " سيد " . وقال ابن الخطيب : العائل ذو العيلة ، ثم أطلق على الفقير لم يكن له عيال ، والمشهور أن المراد به الفقير ، ويؤيده ما روي في مصحف عبد الله : " وَوَجَدَكَ عديماً " . وقوله تعالى : { فَأَغْنَىٰ } ، أي : فأغناك خديجة وتربية أبي طالب ، ولما اختل ذلك أغناك بمال أبي بكر - رضي الله عنه - ، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار - رضي الله عنهم - ، ثم أمره بالجهاد ، وأغناه صلى الله عليه وسلم بالغنائم . [ وقال مقاتل : أغناك بما أعطاك من الرزق . وقال عطاء : وجدك فقير النفس ، فأغنى قلبك ، وقيل : فقيراً من الحجج والبراهين ، فأغناك بها ] . قوله : { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } . اليتيم منصوب بـ " تَقْهَرْ " ، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل ؛ ألا ترى أنَّ اليتيم منصوب بالمجزوم ، وقد تقدم الجازم ، لو قدمت المجزوم على جازمه ، لامتنع ، لأن المجزوم لا يتقدم على جازمه ، كالمجرور لا يقدم على جاره . وتقدَّم ذلك في سورة هود عليه السلام عند قوله تعالى : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] . وقرأ العامة : " تَقْهَر " بالقاف من الغلبة ، وابن مسعود ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي والأشهب العقيلي ، " تكهر " بالكاف . كهر في وجهه : أي عبس ، وفلان ذو كهرة ، أي : عابس الوجه . ومنه الحديث : " فَبِأبِي هُوَ وأمِّي فوالله ما كهرني " . قال أبو حيان : " وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور " انتهى . والكهر في الأصل : ارتفاع النهار مع شدة الحر . وقيل : الكهر : الغلبة ، والكهر : الزجر . والمعنى : لا تسلط عليه بالظلم ، بل ادفع إليه حقه ، واذكر يتمكَ . قاله الأخفش . وقال مجاهدٌ : لا تحتقر . وخص اليتيم ، لأنه لا ناصر له غير الله تعالى ، فغلظ في تأثير العقوبة على ظالمه ، والمعنى : عامله كما عاملناك به ، ونظيره : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله الله فيمَنْ لَيْسَ له إلا الله " . فصل دلت الآية على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه ، قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا وكافل اليتيم كهاتين ، وأشار بالسبابة والوسطى " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ ضَمَّ يَتِيمَاً فَكَانَ فِي نَفَقَتِهِ وكفاهُ مؤنَتَهُ ، كَانَ لَهُ حِجَابَاً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ مَسَحَ برأسِ يَتِيمٍ كَانَ لَهُ بكُلِّ شَعْرةً حَسَنةٌ " . فصل الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه اليتم ، أنه عرف حرارة اليتم ، فيرفق باليتيم ، وأيضاً ليشاركه في الاسم ، فيكرمه لأجل ذلك ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذَا سَمَّيْتُم الوَلَدَ مُحَمَّداً فأكْرِمُوهُ ووسِّعُوا لَهُ فِي المَجْلسِ " وأيضاً ليعتمد من أول عمره على الله تعالى ، فيشبه إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في قوله : " حَسْبي مِنْ سُؤالِي ، علمهُ بِحَالِي " . وأيضاً فالغالب أن اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا فيه عيباً ، لم يجدوا فيه مطعناً . وأيضاً جعله يتيماً ، ليعلم كل أحد فضيلته ابتداء من الله تعالى ، لا من التعليم ، لأن من له أب فإن أباه يعلمه ، ويؤدبه . وأيضاً فاليتم والفقر نقص في العادة ، فكونه صلى الله عليه وسلم مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة ، فكان معجزة ظاهرة . قوله تعالى : { وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } ، أي : فلا تزجره ، يقال : نهره ، وانتهره إذا زجره ، وأغلظ له في القول ، ولكن يرده ردَّا جميلاً . [ قال إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السؤال ، يحملون زادنا إلى الآخرة . وقال إبراهيم النخعي : السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل تبعثون إلى أهليكم بشيء . وقيل : المراد بالسائل الذي يسأل عن الدين ] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سَألتُ ربِّي مَسْألةً ودِدْتُ أنِّي لَمْ أسْألْهَا ، قُلْتُ : يَا ربِّ ، اتَّخذتَ إبْراهِيمَ خَلِيلاً ، وكلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً ، وسخَّرتَ مَع دَاوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ ، وأعطيتَ فُلاناً كَذَا فقال عز وجل : ألَمْ أجِدْكَ يَتِيماً فَأويتك ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضالاً فَهَدَيْتُكَ ؟ أَلَمْ أَجِدكَ عائِلاً فَأَغْنَيْتُكِ ؟ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ؟ أَلَمْ أُوتِكَ مَا لَمْ أُوتِ أَحَدَاً قبلَكَ خَوَاتِيِمَ سورةِ البقرة ؟ أَلَمْ أَتَّخِذُكَ خَلِيْلاً كَمَا اتَّخَذْتُ إبراهيمَ خليلاً ؟ قلت : بلى يا ربِّ " . قوله : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } . الجار متعلق بـ " حدِّثْ " والفاء غير مانعة من ذلك قال مجاهدٌ : تلك النعمة هي القرآن والحديث . وعنه أيضاً : تلك النعمة هي النبوة ، أي : بلغ ما أنزل إليك من ربك قيل : تلك النعمة هي أن وفقك الله تعالى ، ورعيت حق اليتيم والسائل ، فحدث بها ؛ ليقتدي بك غيرك . وعن الحسين علي - رضي الله عنهما - قال : إذا عملت خيراً فحدث به الثقة من إخوانك ليقتدوا بك . إلا أنَّ هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء ، وظن أن غيره يقتدي به . " وروى مالك بن نضلة الجشمي ، قال : كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرآني رثَّ الثياب فقال : " أَلَكَ مَالٌ " ؟ . قلت : نعم ، يا رسول الله ، من كل المال ، قال : " إذَا آتَاكَ اللهُ مالاً فليُرَ أثرهُ عَلَيْكَ " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ تعالى جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ ، ويُحِبُّ أنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ على عَبْدِهِ " . فإن قيل : ما الحكمة في أن الله أخر نفسه على حق اليتيم والسائل ؟ . فالجواب : كأنه سبحانه وتعالى يقول : أنا غني ، وهما محتاجان ، وحق المحتاج أولى بالتقديم ، واختار قوله : " فحدث " على قوله " فخبِّرْ " ليكون ذلك حديثاً عنه وينساه ، ويعيده مرة أخرى . فصل يكبر القارىء في رواية البزي عن ابن كثير , وقد رواه مجاهد عن ابن عباس , وروي عن أبيّ بن كعب , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بلغ آخر " الضُّحَى " كبَّر بين كلِّ سورةٍ تكبيرة إلى أن يختم القرآن ، ولا يصل آخر السورة بتكبيرة ، بل يفصل بينهما بسكتة ، وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخّر عن النبي صلى الله عليه وسلم أياماً ، فقال ناس من المشركين : قد ودعه صاحبه ، فنزلت هذه السورة فقال : " اللهُ أكْبَرُ " . قال مجاهد : قرأت على ابن عبّاس ، فأمرني به ، وأخبرني به عن أبيٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولا يكبر في [ رواية ] الباقين ، لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن . قال القرطبي : القرآن ثبت نقله بالتواتر سُوَره ، وآياته ، وحروفه بغير زيادةٍ ، ولا نقصان ، وعلى هذا فالتكبير ليس بقرآن . روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ { وَٱلضُّحَىٰ } كان فيمن يرضاه الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يشفع له ، وكتب الله تعالى له من الحسنات بعدد كل يتيم وسائل " والله أعلم .