Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 96, Ayat: 1-5)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ٱقْرَأْ } ، العامة ، على سكون الهمزة ، أمر من القراءة ، وقرأ عاصم في رواية الأعشى : براء مفتوحة ، وكأنه قلب تلك الهمزة ألفاً ، كقولهم : قرأ ، يقرأ ، نحو : سعى ، يسعى ، فلما أمر منه ، قيل : " اقر " بحذف الألف قياساً على حذفها من " اسع " . وهذا على حد قول زهير : [ الطويل ] @ 5253 - … وإلاَّ يُبْـدَ بالـظُّلْـمِ يَظْـلِـمِ @@ وقد تقدم تحرير هذا . قوله : { بِٱسْمِ رَبِّكَ } ، يجوز فيه أوجه : أحدها : ان تكون الباء للحال ، أي : اقرأ مفتتحاً باسم ربِّك قل : بسم الله الرحمن الرحيم ثم اقرأ ، قاله الزمخشريُّ . الثاني : أن الباء مزيدة ، والتقدير : اقرأ باسم ربك ، كقوله : [ البسيط ] @ 5254 - … سُودُ المَحاجرِ لا يَقْرأنَ بالسُّورِ @@ قيل : الاسم فضلة أي اذكر ربك ، قالهما أبو عبيدة . الثالث : أن الباء للاستعانة ، والمفعول محذوف ، تقديره : اقرأ ما يوحى إليك مستعيناً باسم ربِّك . الرابع : أنها بمعنى " عَلَى " ، أي : اقرأ على اسم ربِّك ، كما في قوله تعالى : { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ } [ هود : 41 ] ، قاله الأخفش . [ وقد تقدم في أول الكتاب كيف هذا الفعل على الجار والمجرور ، وقدر متأخراً في " بسم الله الرحمن الرحيم " وتخريج الناس له ، فأغنى عن الإعادة ] . فصل قال أكثرُ المفسرين : هذه السورة أول ما نزل من القرآنِ ، نزل بها جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على " حِرَاء " ، فعلمه خمس آياتٍ من هذه السورة . وقال جابر بن عبد الله : أول ما نزل : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } [ المدثر : 1 ] . وقال أبو ميسرة الهمذاني : أول ما نزل فاتحة الكتاب . وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : أول ما نزل من القرآن : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] . قال القرطبيُّ : " الصحيح الأول " . قالت عائشة - رضي الله عنها - : أول ما بدئ به صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة ، فجاءه الملك ، فقال : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ } ، خرجه البخاري . وروت عائشةُ - رضي الله عنها - أنها أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعدها " ن ، والقلم " ثم بعدها { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } [ المدثر : 1 ] ، ثم بعدها " والضُّحَى " ، ذكره الماوردي . ومعنى قوله : " اقْرَأ " أي : ما أنزل عليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كلِّ سورةٍ ، أو اقرأ على اسم ربِّك ، على ما تقدم من الإعراب . قوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } ، يجوز أن يكون " خَلَقَ " الثاني تفسيراً لـ " خَلَقَ " الأول ، يعني أبهمه أولاً ، ثم فسره ثانياً بـ " خَلَقَ الإنْسَانَ " تفخيماً لخلق الإنسانِ ، ويجوز أن يكون حذف المفعول من الأول ، تقديره : خلق كلَّ شيء ؛ لأنه مطلق ، فيتناول كُلَّ مخلوقٍ ، وقوله : { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } تخصيص له بالذكر من بين ما يتناوله الخلق ، لأنه المنزَّل إليه ، ويجوز أن يكون تأكيداً لفظياً ، فيكون قد أكد الصفة وحدها ، كقولك : الذي قام قام زيد . والمرادُ بالإنسانِ : الجنس ، ولذلك قال تعالى : { مِنْ عَلَقٍ } جمع علقةٍ ، لأن كل واحدٍ مخلوق من علقة ، كما في الآية الأخرى ، والعلقة : الدَّمُ الجامدُ ، وإذا جرى فهو المسفوح ، وذكر " العَلَق " بلفظ الجمعِ ، لأنه أراد بالإنسانِ الجمع ، وكلهم خلقُوا مِنْ علقٍ بعد النُّطفَةِ . والعلقة : قطعة من دم رطبٍ ، سميت بذلك ؛ لأنها تعلق بما تمر عليه لرطوبتها ، فإذا جفت لم تكن علقة . فصل قال ابن الخطيب : فإن قيل : فما وجه التسمية في المباح كالأكل ؟ . فالجوابُ : أنه يضيف ذاك إلى الله تعالى ليدفع ببركة اسمه الأذى ، والضرر ، أو ليدفع شركة الشيطان ، ولأنه ربما استعان بذلك المباح على الطاعة ، فيصير طاعة ، وقال هنا : باسم ربِّك ، وفي التسمية المعروفة : بسم الله الرحمن الرحيم ، لأن الربَّ من صفات الفعل ، وهي تستوجب العبادة بخلاف صفة الذات فأفاد الربُّ هنا معنيين : أحدهما : أني ربيتك فلزمك الفعل ، فلا تتكاسل . والثاني : أن الشروع ملزم للإتمام ، وقد ربيتك منذ كنت علقة إلى الآن ، فلم أضيعك ، وقال هنا : " ربك " ، وقال في موضع آخر : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] كأنه يقول سبحانه : هو لي وأنا له ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " عليٌّ منِّي وأنَّا مِنْهُ " ، لأن النعم واصلة منّي إليك ، ولم يصل إليَّ منك خدمة فأقول : أنا لك ، ثم لما أتى بالعبادات وفعل الطاعات ، قال : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] . فقوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ } كالدليل على الربوبية ، كأنه تعالى يقول : الدليل على أني ربُّك ، أنك ما كنت معه بذاتك وصفاتك ، فخلقتك وربيتك ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه حصل منه الخلق . قوله : { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ } ، فقوله تعالى : { ٱقْرَأْ } تأكيد ، وتم الكلام ، ثم استأنف فقال : { وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ } ، أي : الكريم . وقال الكلبيُّ : يعني الحليم عن جهل العباد ، فلم يعجل بعقوبتهم ، [ وقيل : اقرأ أولاً لنفسك ، والثاني للتبليغ ، والأول للتعميم من جبريل عليه السلام ، والثاني للتعليم واقرأ في صلاتك . وقيل : اقرأ وربك ، أي : اقرأ يا محمد وربك يغنيك ويفهمك ، وإن كنت غير قارئ ] . [ والأول أشبه بالمعنى ، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمة ، دلَّ على كرمه ] . قوله : { ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ } ، يعني : الخط والكتابة ، أي : علم الإنسانَ الخط بالقلم . قال قتادة : العلم نعمة من الله عظيمة ، ولولا ذلك لم يقُم دين ، ولم يصلح عيش ، فدل على كمال كرمه تعالى ، بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبَّه على فضل الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو ، وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة . وسمي القلم ، لأنه يقلم ومنه تقليم الظفر ، ولولا هي ما استقامت أمور الدينِ والدنيا . وروى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : " قلت : يا رسول الله أكتب ما أسمع منك من الحديث ؟ قال : " نَعَمْ ، فاكتُبْ ، فإنَّ الله علَّمَ بالقَلمِ " " . ويروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام , فقال : ريح لا يبقى . قال : فما قيده ؟ قال : الكتابة . وروى مجاهد عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده ، ثم قال تعالى لسائر الحيوان : كن فكان : القلم ، والعرش ، وجنة عدن ، وآدم عليه الصلاة والسلام . من علمه بالقلم ؟ ثلاثة أقوال : أحدها : قال كعب الأحبار : أول من كتب بالقلم آدم عليه السلام . وثانيها : قول الضحاك : أول ما كتب إدريس عليه الصلاة والسلام . والثالث : أنه جميع من كتب بالقلم ، لأنه ما علم إلاَّ بتعليم الله تعالى . قال القرطبي : الأقلام ثلاثة في الأصل . الأول : الذي خلقه الله تعالى بيده ، وأمره أن يكتب . والقلم الثاني : قلم الملائكة الذي يكتبون به المقادير ، والكوائن والأعمال . والقلم الثالث : أقلامُ النَّاسِ ، جعلها الله بأيديهم يكتبون بها كلامهم ، ويصلون بها مآربهم . وروى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُسْكنُوا نِسَاءُكُم الغُرَفَ ولا تُعَلمُوهُنَّ الكِتابَة " . قال بعض العلماء : وإنَّما حذَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم لأن في إسكانهم الغرف تطلُّعاً على الرجال ، وليس في ذلك تحصُّن لهن ولا تستُّر ، وذلك لأنهن لا يملكن أنفسهن ، حتى يشرفن على الرجال ، فتحدث الفتنة والبلاء ، فحذرهم ان يجعلوا لهن غرفاً ذريعة إلى الفتنة . وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ للنِّساءِ خَيْرٌ لَهُنَّ من ألاّ يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ ، ولا يَرَوْنَ الرِّجالَ " . وذلك أنها خلقت من الرجل فنهمتها في الرجل ، والرجل خلقت فيه الشَّهوة ، وجعلت سكناً له ، فكل واحد منهما غير مأمونٍ على صاحبه ، وكذلك تعليم الكتابة ، ربما كانت سبباً في الفتنة ، لأنها إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى ؛ فالكتابة عين من العيون بهما يبصر الشاهد الغائب ، والخط آثار يده ، وفيه تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسانُ ، فهي أبلغ من اللسان ، فأحبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عنهن أسباب الفتنة تحصيناً لهنَّ ، وطهارة لقلوبهن . قوله تعالى : { عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . قيل : الإنسان هنا آدم - عليه الصلاة والسلام - علمه أسماء كل شيءٍ ، وقال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] . وقيل : الإنسان - هنا - محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] . وقيل : عام ، لقوله تعالى : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } [ النحل : 78 ] ، لأنه تعالى بين أنه خلقه من نطفة ، وأنعم عليه بالنعم المذكورة ، ثم ذكر أنه إذا زاد عليه في النعمة فإنه يطغى ، ويتجاوز الحد في المعاصي ، واتباع هوى النفس ، وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة .