Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 96, Ayat: 6-19)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ } . إلى آخر السورة . قيل : إنه نزل في أبي جهل ، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجدِ ، ويقرأ باسم الربِّ - تبارك وتعالى - وعلى هذا فليست السورة من أول ما نزل ، ويجوز أن يكون خمس آياتٍ من أولها أولى ما نزل ، ثم نزل البقية في شأن أبي جهل ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضم ذلك إلى أول السورة ؛ لأن تأليف السور إنما كان بأمر الله تعالى ، ألا ترى أنَّ قوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [ البقرة : 281 ] آخر ما نزل ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل . و " كلاَّ " بمعنى حقاً . قال الجرجانيُّ : لأن ليس قبله ولا بعده شيء يكون " كلاَّ " ردًّا له ، كما قالوا في { كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ } [ المدثر : 32 ] فإنهم قالوا : معناه : أي والقمر ؛ لأنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه ، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه . وقال مقاتل : كلاَّ ليعلم الإنسان أن الله تعالى هو الذي خلقه من العلقة ، وعلمه بعد الجهل ؛ لأنه عند صيرورته غنياً يطغى ، ويتكبر ويصير مستغرق القلب في حُبِّ الدنيا ، فلا يفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها . قوله : { أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } ، مفعول له ، أي : رؤيته نفسه مُسْتغنياً ، وتعدى الفعل هنا إلى ضميريه المتصلين ؛ لأن هذا من خواص هذا الكتاب . قال الزمخشريُّ : " ومعنى الرؤية ، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين ، و " اسْتَغْنَى " هو المفعول الثاني " . قال شهاب الدين : والمسألة فيها خلاف ، ذهب جماعةٌ إلى أن " رأى " البصرية تعطى حكم العلمية ، وجعل من ذلك قول عائشة - رضي الله عنها - : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان ؛ وأنشد : [ الكامل ] @ 5255 - ولقَد أرَانِي للرِّمَاحِ دَرِيئَةً مِنْ عَنْ يَمينِي تَارَةً وأمَامِي @@ وتقدم تحقيقه . وقرأ قنبل بخلاف عنه : " رأه " دون ألف بعد الهمزة ، وهو مقصور من " رآه " في قراءة العامة . ولا شك أن الحذف جاء قليلاً ، كقولهم : " أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة " بحذف لام " ترى " ؛ وقول الآخر : [ الرجز ] @ 5256 - وصَّـانِـيَ العَجَّـاجُ فِيمَـا وصَّنِـي @@ يريد : فيما وصاني ، ولما روي عن مجاهد هذه القراءة عن قنبل ، وقال : " قرأت بها عليه " نسبه فيها إلى الغلط ، ولا ينبغي ذلك ، لأنه إذا ثبت ذلك قراءة ، فإن لها وجهاً وإن كان غيره أشهر منه ، فلا ينبغي أن يقدم على تغليطه . فصل في نزول الآية قال ابن عبَّاسٍ في رواية " أبي صالح " : لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون ، أتاه أبو جهل ، فقال : يا محمد ، أتزعم أنه من استغنى طغى ، فاجعل لنا جبال " مكة " ذهباً لعلنا نأخذ منها فنطغى ، فندعُ ديننا ، ونتبع دينك ، قال : فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال : يا محمد خيِّرهم في ذلك ، فإن شاءوا فعلنا لهم ما أرادوه ، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدةِ فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يقبلون ذلك ، فكفّ عنهم أسفاً عليهم . [ وقيل : أن رآه استغنى بالعشيرة والأنصار والأعوان ، وحذف اللام من قوله : " أن رآه " كما يقال : إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم ] . قوله : { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ } . هذا الكلام واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان ، والمعنى : أن مرجع من هذا وصفه إلى الله تعالى ، فيجازيه . والرجعى والمرجع والرجوع : مصادر ، يقال : رجع إليه رجوعاً ومرجعاً ورُجْعَى ، على وزن " فُعْلى " . قوله : { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } تقدم الكلام على { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ } . وقال الزمخشري هنا : فإن قلت : ما متعلق " أرأيت " ؟ . قلت : " الَّذي يَنْهَى " مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين ، فإن قلت : فأين جواب الشرط ؟ . قلتُ : هو محذوف تقديره : " إنْ كَانَ عَلَى الهُدى ، أو أمَرَ بالتَّقْوَى ، ألَمْ يَعْلمْ بأنَّ اللهَ يَرَى " ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني . فإن قلت : كيف يصح أن يكون " أَلَمْ يَعْلَمْ " جواباً للشرط ؟ . قلت : كما صح في قولك : إن أكرمتك أتكرمني ، وإن أحسن إليك زيد هل تحسنُ إليه ؟ . فإن قلت : فما أرأيت الثانية ، وتوسطها بين مفعول " أرأيت " ؟ قلت : هي زائدة مكررة للتأكيد . قال شهاب الدين : اعلم أن " أرَأيْتَ " لا يكون مفعولها الثاني إلا جملة استفهامية كقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ } [ الأنعام : 47 ] ، ومثله كثير ، وهنا " أرَأيْتَ " ثلاث مرات ، وقد صرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية ، فيكون في موضع المفعول الثاني لها ، ومفعولها الأول محذوف ، وهو ضمير يعود على { الَّذي يَنْهَى عَبْداً } الواقع مفعولاً لـ " أرَأيْتَ " الأولى ، ومفعول " أرأيت " الأولى الذي هو الثاني محذوف ، وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد " أرأيت " الثالثة ، وأما " أرأيت " الثانية ، فلم يذكر لها مفعول ، لا أول ، ولا ثان ، حذف الأول لدلالة المفعول من " أرأيت " الثالث عليه ، فقد حذف الثاني من الأولى ، والأول من الثالثة ، والاثنان من الثانية ، وليس طلب كل من " أرأيت " للجملة الاسمية على سبيل التنازع ؛ لأنه يستدعي إضماراً . والجملة لا تضمر إنما تضمر المفردات ، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة وأما الكلام على الشرط مع " أرأيت " هذه ، فقد تقدم في " الأنعام " ، ويجوز الزمخشريُّ وقوع جواب الشرط استفهاماً بنفسه ، وهذا لا يجوزُ ، بل نصوا على وجوب ذكر الفاءِ في مثله ، وإن ورد شيء من ذلك فهو ضرورة . قال القرطبيُّ : وقيل : كل واحد من " أرَأيْتَ " بدل من الأول ، و { ألَمْ يَعْلَمْ بأنَّ اللهَ يَرَى } الخبر . فصل في تفسير الآية قال المفسرون : " الذي يَنْهَى " أبو جهل ، وقوله تعالى " عَبْداً " يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإن أبا جهل قال : لئن رأيت محمداً لأطأنَّ على عنقه . ثم إنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة نكص على عقبيه ، فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ، قال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً شديداً . قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : فأنزل الله هذه الآيات تعجُّباً منه . وعن الحسن : أنه أمية بن خلف ، كان ينهى سلمان عن الصلاة . وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى : من هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة . قوله : { أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ أَوْ أَمَرَ بِٱلتَّقْوَىٰ } أي : أرأيت يا أبا جهلٍ إن كان محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة ، أليس ناهية عن الصَّلاة والتَّقوى هالكاً ؟ . قوله : { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } يعني أبا جهل كذب بكتاب الله ، وأعرض عن الإيمان . وقال الفراءُ : { أرَأيتَ الذي يَنْهَى عبداً إذا صلَّى } ، والناهي مكذب متولٍّ عن الذكر ، أي : فما أعجب هذا بما يقول ، ثم قال : ويله { ألَمْ يَعْلمْ } أبو جهل { بأنَّ الله يَرَى } ، أي : يراه ويعلم فعله ، فهو تقريع وتوبيخ . قال ابن الخطيب : هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعجب ، وفي وجه هذا التعجب وجوه : أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم قال : " اللَّهُمَّ أعزَّ الإسلامَ بأبِي جَهلٍ أو بِعُمَرَ " ، فقيل : أبمثل هذا يعزّ الإسلام وهو ينهى عبداً إذا صلى . الثاني : أنه كان يلقب بأبي الحكمِ . فقيل : كيف يلقب بهذا وهو ينهى عن الصلاة . الثالث : أنه كان يأمر وينهى ويعتقد وجوب طاعته ، ثم إنه ينهى عن طاعة الربِّ تعالى ، وهذا عين الحماقة والتكبُّر ، فـ " عبداً " يدل على التعظيم ، كأنه قيل : [ ينهى أشد الخلق عبودية عن العبادة ، وهذا عين الجهل ، ولهذا لم يقل : ] ينهاك ، وأيضاً فإن هذا يدل على أن هذه عادته ، ودأبه ، فهو أبلغ في الذم أيضاً فهذا عام في كل من نهى عن الصلاة ، وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - : أنه رأى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد ، فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ، فقيل له : ألا تنهاهم فقال : أخشى أن أدخل في قوله تعالى : { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } [ العلق : 9 ، 10 ] ، فلم يصرح أيضاً بالنهي عن الصلاة . وأيضاً فيه : إجلال لمنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينهاه رجل لا سيما مثل هذا . قوله : { كَلاَّ } ردع لأبي جهل عن نهيه عن عبادة الله تعالى ، أو كلا لن يصل أبو جهلٍ إلى أن يقتل محمداً صلى الله عليه وسلم ويطأ عنقه . وقال مقاتل : كلا لا يعلم أن الله يرى ، وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بناصيته يوم القيامة ، وليسحبنه بها في النَّار ، كقوله تعالى : { فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } [ الرحمن : 41 ] ، فالآية وإن كانت في أبي جهلٍ ، فهي عظةٌ للنَّاس ، وتهديد لمن يمنع غيره عن الطاعة . قوله : { لَنَسْفَعاً } ، الوقف على هذه النون بالألف ، تشبيهاً لها بالتنوين ، ولذلك يحذف بعد الضمة والكسرة وقفاً ، وتكتب هنا ألفاً إتباعاً للوقف . وروي عن أبي عمرو : " لَنَسْفَعَنَّ " بالنون الثقيلة . والسَّفع : الأخذ والقبض على الشيء بشدة ، يقال : سفع بناصية فرسه ، قال عمرو بن معديكرب : [ الكامل ] @ 5257 - قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّريخَ رَأيْتهُم ما بَيْنَ مُلْجمِ مُهْرهِ أوْ سَافعِ @@ وقيل : هو الأخذ ، بلغة قريش . وقال الرَّاغب : السَّفع : الأخذ بسعفة الفرس ، أي : بسواد ناصيته ، وباعتبار السواد قيل للأثافي : سفع ، وبه سُفْعَةُ غضب اعتباراً بما يعلم من اللون الدخاني وجه من اشتد به الغضب . وقيل للصقر : أسفع ، لما فيه من لمع السواد ، وامرأة سفعاء اللون انتهى . وفي الحديث : " فَقَامَت أمْرَأةٌ سَفْعاءُ الخدَّيْنِ " . وقيل : هو مأخوذ من سفعت النار والشمس إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد . قال : [ الكامل ] @ 5258 - أثَافِيَّ سُفْعاً في مُعرَّسِ مِرْجَلٍ ونُؤيٌ كجذْمِ الحَوْضِ أثلمُ خَاشِعُ @@ قال القرطبيُّ : السفع الضرب ، أي : ليلطمن وجهه ، وكله متقارب المعنى ، أي : يجمع عليه الضرب عند الأخذ ، ثم يجر إلى جهنم . وقرأ ابن مسعود : " لأسفعن " ، أي : يقول الله تعالى : يا محمد أنا الذي أتولّى إهانته ، لقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } [ الأنفال : 62 ] { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ } [ الفتح : 4 ] ، والناصية : شعر مقدم الرأس ، وقد يعبر بها عن جملة الإنسان ، وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته . قوله : { نَاصِيَةٍ } بدل من " النَّاصية " ، بدل نكرة من معرفة . قال الزمخشريُّ : " وجاز بدلها عن المعرفة ، وهي نكرة ، لأنها وصفت ، فاستقلت بفائدة " . قال شهاب الدِّين : وهذا مذهب الكوفيين ، لا يجيزون إبدال نكرة من غيرها إلا بشرط وصفها ، وكونها بلفظ الأول ، ومذهب البصريين : لا يشترط بشيءٍ ؛ وأنشدوا : [ الوافر ] @ 5259 - فَلاَ وأبِيكَ خَيْرٌ مِنْكَ إنِّي ليُؤذِينِي التَّحَمحُمُ والصَّهِيلُ @@ وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وزيد بن علي : بنصب " ناصِيةٌ كَاذِبَةٌ خَاطِئةٌ " على الشتم . وقرأ الكسائي في رواية : بالرفع ، على إضمار : هي ناصية ، ونسب الكذب والخطأ إليها مجازاً . والألف واللام في " الناصية " قيل : عوض من الإضافة ، أي : بناصيته . وقيل : الضمير محذوف ، أي : الناصية منه . فصل في معنى الآية والمعنى : لنأخذنّ بناصية أبي جهل " كاذبة " في قولها ، " خاطئة " في فعلها ، والخاطئ معاقب مأخوذ ، والمخطئ غير مأخوذ ، ووصفت الناصية بأنها خاطئة كوصف الوجوه بالنظر في قوله " إلى ربها ناظرة " ، وقيل : إن صاحبها كاذب خاطئ كما يقال : ليل قائم ونهار صائم ، أي صائم في النهار وقائم في الليل ، وإنما وصف الناصية بالكاذبة ، لأنه كان كاذباً على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ، وكاذباً على رسوله صلى الله عليه وسلم في أنه ساحر ، وكاذب أنه ليس بنبي ؛ لأن صاحبها يتمرد على الله تعالى ، كما قال تعالى : { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ } [ الحاقة : 37 ] . قوله : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } ، إما أن يكون على حذف مضاف ، أي : أهل ناديه ، أو على التجوُّز في نداء النادي لاشتماله على الناس ، كقوله تعالى : { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } [ يوسف : 82 ] ، والنادي والندي : المجلس المتجدّد للحديث . قال زهير : [ الطويل ] @ 5260 - وفِيهِمْ مَقامَاتٌ حِسَانٌ وُجوهُهُمْ وأنْدِيةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ والفِعْلُ @@ [ وقالت أعرابية : هو سيد ناديه وثمال عافيه ] وقال تعالى : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } [ العنكبوت : 29 ] . وقال أبو عبيدة : " ونَادِيَه " أهل مجلسه ، ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله ، والمعنى : فليدع عشيرته ، فليستنصر بهم . قوله : { سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } . قال الزمخشري : " والزبانية في كلام العرب : الشرط ، الواحد : زبنية ، كعفرية من الزَّبن ، وهو الدَّفع . وقيل : زبني ، وكأنه نسب إلى الزبن ، ثم غير للنسب ، كقولهم : أمسيّ ، وأصله : زباني ، فقيل : " زبانية " على التعويض " . وقال عيسى بن عمر والأخفش : واحدهم زابن . وقيل : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، كعباديد ، وشماطيط ، وأبابيل ، والحاصل : أن المادة تدل على الدفع . قال : [ الطويل ] @ 5261 - مَطَاعِيمُ في القُصْوَى مَطَاعِينُ في الوَغَى زَبَانِيَةٌ غُلبٌ عِظامٌ حُلومُهَا @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 5262 - ومُسْتعْجِبٍ ممَّا يَرَى مِنْ أنَاتِنَا ولوْ زَبَنَتْهُ الحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ @@ [ قال عتبة : زبَنَتْنا الحرب ، وزبنَّاها ، ومنه الزبون لأنه يدفع من بائع إلى آخر . وقال أبو الليث السمرقندي رحمه الله : ومنه المزابنة في البيع ؛ لأنهم يعملون بأرجلهم ، كما يعملون بأيديهم ] . وقرأ العامة : " سَندْعُ " بنون العظمة ، ولم ترسم بالواو ، وتقدم نظيره ، نحو { يَدْعُ ٱلدَّاعِ } [ القمر : 6 ] . وقرأ ابن أبي عبلة : " سيُدْعَى الزبانيةُ " مبنياً للمفعول ورفع " الزبانية " لقيامها مقام الفاعل . فصل في المراد بالزبانية قال ابن عباس : الملائكة الغلاظ الشداد ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى : { لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ } قال أبو جهل : أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك ، قال الله تعالى : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } فلما ذكر الزبانية رجع فزعاً ، فقيل له : أخشيت منه ؟ . قال : لا ، ولكن رأيت عنده فارساً ، فهددني بالزبانية فما أدري ما الزبانية ؛ ومال إليَّ الفارس ، فخشيت منه أن يأكلني . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته . خرجه الترمذي بمعناه . قوله : { كَلاَّ } أي : ليس الأمر كما يظنه أبو جهل " لا تُطِعْهُ " فيما دعاك إليه من ترك الصلاة " واسْجُدْ " ، أي : صل الله " واقْتَرِبْ " أي : اقترب إلى الله بالطَّاعة والعبادة . وقيل : المعنى : إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء . قال صلى الله عليه وسلم : " أمَّا الرُّكوعُ فعَظَّمُوا فِيْهِ الربَّ تعالى ، وأمَّا السُّجُود فاجْتَهدُوا في الدُّعَاءِ ، فقمن أنْ يُسْتجابَ لَكُمْ " . وقال صلى الله عله وسلم : " أقْرَبُ ما يَكُونُ العبدُ مِنْ ربِّه وهُوَ سَاجِدٌ " . فالسجود في قوله تعالى : { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة ، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة . وقال ابن العربي : والظاهر أنه سجود الصلاة ؛ لقوله تعالى : { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } إلى قوله : { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } ، لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم ، وغيره من الأئمة عن أبي هريرة ، أنه قال : سجدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في " إذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ " وفي { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ } سجدتين ، فكان هذا نصًّا على أن المراد سجود التلاوةِ . روى الثعلبي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ } ، فكأنَّمَا قَرَأ المفصل كُلَّهُ " والله تعالى أعلم .