Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 57-60)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما استوفى تشييده أمره وهدم قولهم ، أخذ يحذرهم فقال مبيناً أن العدول عما جاء به لا يكون إلا بمعالجة الطبع السليم : { فإن تولوا } ولو أدنى تولية - بما يشير إليه حذف التاء ، فعليكم اللوم دوني ، لأني فعلت ما عليّ { فقد } أي بسبب أني قد { أبلغتكم ما } أي كل شيء { أرسلت } أي تقدم إرسالي من عند من لا مرسل في الحقيقة غيره { به إليكم } كاملاً لم أدع منه شيئاً رجاء لإقبالكم ولا خوفاً من إعراضكم ، فأبيتم إلا التكذيب لي والاستكبار عما جئت به ، فالذي أرسلني ينتقم منكم فيهلككم { ويستخلف ربي } أي يوجد المحسن إليّ بإقامتي فيما يرضيه { قوماً غيركم } يخلفونكم في دياركم وأموالكم ، فتكونون أعداءه ، ويكون المستخلفون متعرضين لأن يكونوا أولياء مع كونهم ذوي بأس وقوة فيختص الضرر بكم { ولا تضرونه } أي الله بإعراضكم { شيئاً } ثم علل وعيده لهم بقوله مؤكداً لأن العاصي فاعل بعصيانه فعل من يظن أن الله غافل عنه : { إن ربي } أي المحسن إليّ المدبر لمصالحي . ولما كان الأهم في هذا السياق بيان استعلائه وقدرته ، قدم قوله : { على كل شيء } صغيراً أو كبيراً جليل أو حقير { حفيظ * } أي عالم بكل شيء وقادر على كل شيء وبالغ الحفظ له ، فيعلم ما يعمل محفوظه فيجازيه بما يستحق من نعمه ونقمه ، فهو تعليل لاستخلاف غيرهم وتنزهه عن لحوق ضرر ، لأن الحفظ : الحراسة ، ويلزمها العلم والقدرة ، فمن القدرة حافظ العين ، أي لا يغلبه نوم ، والحفيظة - للحمية والغضب ، ومنهما معاً المحافظة - للمواظبة على الشيء ؛ والتوالي عن الشيء : الذهاب إلى غير جهته إعراضاً عنه ؛ والإبلاغ : إلحاق الشيء نهايته ؛ والاستخلاف : جعل الثاني بدلاً من الأول يقوم مقامه ؛ والضر : إيجاب الألم بفعله أو التسبب له . ولما تم ذلك كان كأنه قيل : فلم يرجعوا ولم يرعووا لبينة ولا رغبة ولا رهبة فأنزلنا بهم أمرنا { ولما جاء أمرنا } أي وقت إرادتنا لإهلاك عاد { نجينا } أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة { هوداً والذين آمنوا } كائنين { معه } في الإيمان والنجاة من قومهم فلم يقدروا أن يصلوا إليهم بسوء مع اجتهادهم في ذلك وإعجابهم بقواهم ويقال : إن الذين آمنوا كانوا أربعة آلاف . ولما كان سبحانه بحيث لا يجب عليه لأحد شيء لأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق وإن اجتهد في طاعته ، فإن طاعته نعمة منه عليه ، أشار إلى ذلك بقوله : { برحمة منا } تحقيقاً لتوكل عبدناً ؛ ولما بين إنجاءهم من قومهم بين إنجاءهم مما أهلكهم به فقال مكرراً ذكر التنجية دلالة على أن عذابهم كان في غاية الفظاعة : { ونجيناهم } أي بما لنا من العظمة ، وبين فظاعة ما أهلك به أعداءهم بقوله : { من عذاب غليظ * } أي أهلكنا به مخالفيهم وهو الريح الصرصر ، وهذا أولى من حمله على عذاب الآخرة لما يأتي من قوله { ومن خزي يومئذ } كأنهم كانوا إذا رأوا مخايل العذاب قصدوا نبيهم ومن آمن به ليهلكوهم قبلهم كما صرح به في قصة صالح ؛ والنجاة : السلامة من الهلاك ؛ وحقيقة الغلظة عظم الجثة ، فاستعير للعذاب لثقله على النفس وطول مكثه . ولما تمت قصتهم على هذا الوجه لابديع والأسلوب المطرب ، قال تعالى عاطفاً على قوله { تلك من أنباء الغيب } : { وتلك عاد } أي قصة القوم البعداء البغضاء ، ما كنت تعلمها على هذا التفصيل أنت ولا قومك ولا أهل الكتاب ، وإنما نفيت عن أهل الكتاب لأنهم لا يعلمون إلا ما له أصل عن أنبيائهم ، وهذه وقصة ثمود ليستا في التوراة ولا شيء من أسفار أنبيائهم ، وسألت بعض علمائهم فلم أجد عنده شيئاً من علمها ولا حرفاً واحداً ولا سمع بعاد ولا هود ، وتلخيص قصتهم أنهم { جحدوا } أي كذبوا عناداً واستهانة { بآيات ربهم } المحسن إليهم { وعصوا رسله } فإن من عصى واحداً منهم فقد عصى الكل لاتفاقهم على أمر واحد مع التساوي في مطلق المعجزة { واتبعوا } أي بغاية جهدهم { أمر كل جبار } أي قاهر بليغ القهر يجبر غيره على ما يريد ، وهذا يدل على أنه لا عذر في أصل الدين بوجه فإن الضمائر لا يعلمها إلا الله فيمكن كل أحد مخالفة الجبار فيه { عنيد * } أي طاغ باغ لا يقبل الحق بوجه ، فأهلكوا ولم يمنعهم تجبرهم ولا أغنى عنهم عنادهم وتكبرهم { وأُتبعوا } جميعاً بعد إهلاكهم بأيسر وجه لعظيم قدرة المتبع { في هذه الدنيا } حقرها في هذه العبارة بما أشارت إليه الإشارة مع التصغير ، وبما دل على الدنو وبأن من اغتر بها فهو ممن وقف مع الشاهد لما له من الجمود { لعنة } أي طرداً وبعداً وإهلاكاً { ويوم القيامة } أي كذلك بل أشد ، فكأنه قيل : أفما لمصيبتهم من تلاف ؟ فقيل : لا ، { ألا } مفتتحاً للإخبار عنهم بهذه الأداة التي لا تذكر إلا بين يدي كلام يعظم موقعه ويجل خطبه ، والتأكيد في الإخبار بكفرهم تحقيق لحالهم ، وفيه من أدلة النبوة وأعلام الرسالة الرد على طائفة قد حدثت بالقرب من زماننا يصوّبون جيمع الملل وخصوا عاداً هذه لكونها أغناهم بأن قالوا : إنهم من المقربين إلى الله وإنهم بعين الرضى منه ، فالله المسؤول في الإدالة عليهم وشفاء الصدور منهم ، وهم أتباع ابن عربي الكافر العنيد أهل الاتحاد ، المجاهرون بعظيم الإلحاد ، المستخفون برب العباد ، فلذلك قال تعالى مبيناً لحالهم بياناً لا خفاء معه : { إن عاداً كفروا } ولم يقصر الفعل ، بل عداه إعظاماً لطغيانهم فقال : { ربهم } أي غطوا جميع أنوار الظاهر الذي لا يصح أصلاً خفاءه لأنه لا نعمة على مخلوق إلا منه ، فكان كفرهم أغلظ الكفر ، ومع ذلك فلم ينثن هود عليه السلام عن إبلاغهم جميع ما أمر به ولا ترك شيئاً مما أوحي إليه فلك به أسوة حسنة وفيهم قدوة ، ومن كفر من أحسن إليه بعد بعداً لا قرب معه . ولما كان الأمر عظيماً والخطب جليلاً ، كرر الأداة التي تقال عند الأمور الجليلة فقال : { ألا بعداً لعاد } هو من بعد - بكسر العين إذا كان بعده بالهلاك ، وبينهم بقوله : { قوم هود } تحقيقاً لهم لأنهم عادان : الأولى والآخرة ، وإيماء إلى أن استحقاقهم للإبعاد بما جرى لهو عليه السلام معهم من الإنكار والدعاء عليهم بعد الهلاك كناية عن الإخبار بأنهم كانوا مستحقين للهلاك ؛ والجحد : الخبر عما يعلم صحته أنه لا يعلمها ، وهو ضد الاعتراف كما أن النفي ضد الإثبات ، فهو خبر بمجرد العدم فهو أعم ؛ والعصيان خلاف ما أمر به الداعي على طريق الإيجاب ؛ واللعنة : الدعاء بالإبعاد ، وأصلها الإبعاد من الخير ؛ والإتباع : جعل الثاني على أثر الأول ، والإبلاغ أخص منه ، والمراد هنا بلوغها لهم لأن الذي قضى بذلك قادر وقد ألحق بهم عذاب الدنيا المبعد لهم من مظان الرحمة .