Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 35-38)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كانت هذه الأمور موجبة لرفعته ، فكان حينئذٍ أبعد شيء عن السجن لو كان الناس متمكنين من جري أمورهم على حسب السديد من عقولهم ، أخبر تعالى أنهم خالفوا داعي السداد واستبدلوا الغيّ بالرشاد ، لحكمه بأن السجن سبب عظيم لصرف كيدهن عنه وإثبات العز والمكنة له ، ففعلوا - مع علمهم بأن ذلك ظلم وسفه - إجابة لغالب أمر الله وإظهاراً لعليّ قدره بمخالفة العوائد مرة بعد مرة ، وهدم سداد الأسباب كرة أثر كرة ؛ فقال : { ثم } لهذا المعنى ، وهو أنهم كان ينبغي أن يكونوا من سجنه في غاية البعد { بدا } أي ظهر بعد الخفاء كما هي عادتهم { لهم } والبداء في الرأي : التلون فيه لظهور ما لم يكن ظهر منه . ولما كان ذلك الظهور في حين من الدهر تلونوا بعده إلى رأي آخر ، أدخل الجار دلالة على ذلك فقال : { من بعد ما رأوا } أي رؤيتهم { الأيات } القاطعة ببراءته القاضية بنزاهته من قد القميص وشهادة الشاهد وغير ذلك . ولما كان فاعل " بداء " رأى ، فسره بقوله مؤكداً ، لأنه لا يصدق أن الإنسان يفعل ما ظهر له المانع منه : { ليسجننه } فيمكث في السجن { حتى حين } أي إلى أن تنسى تلك الإشاعة ، ويظهر الناس أنها لو كانت تحبه ما سعت في سجنه ، وقيل : إن ذلك الحين سبع سنين ، قيل : كان سبب ذلك أنها قالت للعزيز : إن هذا قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر كما يحب ، وأنا محبوسة ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر كما يعتذر ، وإما أن تسويه بي في السجن ؛ قال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل ، ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني أراد سيدته ، فهذا جزاءه أن يسجن ! قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث إلاّ بكى - انتهى . وهذا دليل على قوله { إن كيدكن عظيم } [ يوسف : 28 ] . قال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب اللوامع : وعلى الجملة فكل أحوال يوسف عليه الصلاة والسلام لطف في عنف ، ونعمة في طي بلية ونقمة ، ويسر في عسر ، ورجاء في يأس ، وخلاص بعد لات مناص ، وسائق القدر ربما يسوق القدر إلى المقدور بعنف ، وربما يسوقه بلطف ، والقهر والعنف أحمد عاقبة وأقل تبعة - انتهى . ولما ذكر السجن ، وكان سبباً ظاهراً في الإهانة ، شرع سبحانه يقص من أمره فيه ما حاصله أنه جعله سبب الكرامة ، كل ذلك بياناً للغلبة على الأمر والاتصاف بصقات القهر ، مع ما في ذلك من بيان تحقق ما تقدم به الوعد الوفي ليوسف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من الحكم ، فقال تعالى : { ودخل } أي فسجنوه كما بدا لهم ودخل { معه السجن فتيان } : خباز الملك وساقيه ، ورفع إليه أن الخباز أراد أن يسمه ، وظن أن الساقي مالأه على ذلك ، و " مع " تدل على الصحبة واستحداثها ، فهي تدل على دخول الثلاثة السجن في آن واحد - قاله أبو حيان ، فلما دخلوا السجن كان يوسف عليه الصلاة والسلام يحسن إلى أهله فيسلي حزينهم ، ويعود مريضهم ، ويسأل لفقيرهم ، ويهديهم إلى الخير ، ويذكرهم بالله ، فمالت إليه القلوب وكلفت به النفوس لحسن حديثه ولطيف تأتيه وما جباه الله به من الفضل والنبل وحسن الخَلق والخُلق ، وكان في السجن ناس قد انقطع رجاءهم واشتد بلاءهم ، فلم يزل يرفق بهم حتى قالوا : بارك الله فيك ! ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك ! لقد بورك لنا في جوارك ، ما نحب أنا كنا في غير هذا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والثواب والطهارة ، من أنت يا فتى ؟ فأخبرهم بنسبه الشريف ، فقال عامل السجن : لو استطعت لخليت سبيلك ! ولكن سأحسن جوارك وإيثارك ، وأحبه الفتيان ولزماه فقال : أنشد كما الله أن تحباني ، فوالله ما أحبني أحد قط إلاّ دخل على من جهته بلاء ! لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من جهتها بلاء ، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من جهته بلاء ، ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل عليّ من جهتها بلاء ، فلا تحباني ، فأبيا إلاّ حبه ، فكأنه قيل : أيّ شيء اتفقى لهما بعد الدخول معه ؟ فقيل : { قال أحدهمآ } ليوسف عليه الصلاة والسلام ، ولعل التأكيد إما لأنه كانت عادتهما المزح ، وإما لأنهما ما رأيا شيئاً - كما قال الشعبي - وإنما صنفا هذا ليختبراه به { إني أراني } حكى الحال الماضية في المنام { أعصر } والعصر : الاعتماد على ما فيه مائية ليحتلب منه { خمراً } أي عنباً يؤل إلى الخمر { وقال الآخر } مؤكداً لمثل ما مضى { إني أراني أحمل } والحمل : رفع الشيء بعماد نقله { فوق رأسي خبزاً } أي طعاماً مهيأ للأكل بالخبز ، وهو عمل الدقيق المعجون بالبسط واللزق في حامٍ بالنار حتى يصلح للأكل { تأكل الطير منه } وسيأتي شرح الرؤيا من التوراة ، فكأنه قيل : فماذا تريدان من الإخبار بهذا ؟ فقالا : { نبئنا } أي أخبرنا إخباراً عظيماً { بتأويله } أي ما يرجع أمره ويصير إليه ، فكأنه قيل : وما يدريكما أني أعرف تأويله ؟ فقالا : { إنا نراك } على حالٍ علمنا بها علماً هو كالرؤية أنك { من المحسنين * } أي العريقين في وصف الإحسان لكل أمر تعانيه ، فلذلك لاح لنا أنك تحسن التأويل قياساً ، فلما رآهما بصيرين بالأمور { قال } إشارة إلى أنه يعرف ذلك وأدق منه ، ليقبلا نصحه فيما هو أهم المهم لكل أحد ، - وهو ما خلق العباد له من الاجتماع على الله - لتفريغهما للفهم لكلامه والقبول لكل ما يلقيه لاحتياجهما إلى إفتائهما ، مؤكداً ما وصفاه به من الإحسان بما اتبعه من وصف نفسه بالعلم ، انتهازاً لفرصة النصيحة عند هذا الإذعان بأعظم ما يكون النصح به من الأمر بالإخلاص في عبادة الخالق والإعراض عن الشرك ، فعلى كل ذي علم إذا احتاج إلى سؤاله أحد أن يقدم على جوابه نصحه بما هو الأهم له ، ويصف له نفسه بما يرغبه في قبول علمه إن كان الحال محتاجاً إلى ذلك ، ولا يكون ذلك من باب التزكية بل من الإرشاد إلى الإئتمام به بما يقرب إلى الله فيكون له مثل أجره : { لا يأتيكما } أي في اليقظة { طعام } وبين أنه خاص بهما دون أهل السجن بقوله : { ترزقانه } بناه للمفعول تعميماً { إلاّ نبأتكما } أي أخبرتكما إخباراً جليلاً عظيماً { بتأويله } أي به وبما يؤل ويرجع إليه أمره . ولما كان البيان في جميع الوقت الذي بينه وبين الطعام الذي قبله ، نزع الخافض فقال : { قبل أن يأتيكما } أي أخبرتكما بأنه يأتيكما طعام كذا ، فيكون سبباً لكذا ، فإن المسبب الناشىء عن السبب هو المال . ولما وصف نفسه من العلم بما يدعو كل ذي همة إلى السعي في الأسباب التي حصل له ذلك بها ليصير مثله أو يقرب منه ، وكان محل أن يقال : من علمك ذلك ؟ قال مرشداً إلى الله داعياً إليه أحسن دعاء بما تميل إليه النفوس من الطمع في الفضل : { ذلكما } أي الأمر العظيم ؛ ونبه على غزارة علمه بالتبعيض في قوله : { مما علمني ربي } أي الموجد لي والمربي لي والمحسن إليّ ، ولم أقله عن تكهن ولا تنجم ، فكأنه قيل : ما لغيرك لا يعلّمه مثل ما علمك ؟ فقال معللاً له مطمعاً كل من فعل فعله في فضل الله ، مؤكداً إعلاماً بأن ذلك أمر عظيم يحق لمثله أن يفعل : { إني تركت ملة قوم } أي وإن كانوا أقوياء على محاولة ما يريدون ، فلذلك قدروا على أذاي وسجني بعد رؤية الآيات الشاهدة لي ، ونبه على أن ذلك لا يقدم عليه إلاّ من لا يحسب العاقبة بوجه ، فقال : { لا يؤمنون } أي يجددون الإيمان لما لهم من العراقة في الكفر { بالله } أي الملك الأعظم الذي لا يخفى أمره على ذي لب من أهل مصر وغيرهم ؛ ثم لوح إلى التحذير من يوم الجزاء الذي لا يغنى فيه أحد عن أحد ، منبهاً على أن الكفر به هو القاطع عن العلم وعن كل خير ، فقال مؤكداً تأكيداً عظيماً ، إشارة إلى أن أمرهم ينبغي أن ينكره كل من يسمعه ، ولا يصدقه ، لما على الآخرة من الدلائل الواضحة جداً الموجبة لئلا يكذب به أحد : { وهم بالآخرة } أي الدار التي لا بد من الجمع إليها ، لأنها محط الحكمة { هم } أي بضمائرهم كما هم بظواهرهم ، وفي تكرير الضمير تنبيه على أن هؤلاء اختصوا بهذا الجهل ، وأن غيرهم وقفوا على الهدى { كافرون } أي عريقون في التغطية لها ، فلذلك أظلمت قلوبهم فكانوا صوراً لا معاني لها ؛ والملة : مذهب جماعة يحمي بعضها لبعض في الديانة ، وأصله من المليلة ، وهي حمى تلحق الإنسان - قاله الرماني . وفي القاموس إن المليلة : الحر الكامن في العظم . وعبر بـ { تركت } موضع " تجنبت " مثلاً مع كونه لم يلابس تلك الملة قط ، تأنيساً لهما واستدراجاً إلى تركهما ؛ ثم اتبع ذلك بما يدل على شرف أصله وقدم فضله بأنه من بيت النبوة ومعدن الفتوة ، ليكون ذلك أدعى إلى قبول كلامه وإصابة سهامه وإفضاء مرامه ، فقال : { واتبعت } أي بغاية جهدي ورغبتي { ملة آباءي إبراهيم } خليل الله ، وهو جد أبيه { وإسحاق } ابنه نبي الله وهو جده { ويعقوب } أبيه إسرائيل : الله . وهو أبوه حقيقة ، وتلك هي الحنيفية السمحة التي هي الميل مع الدليل من غير جمود مع هوى بوجه من الوجوه ؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيّ الناس أكرم ؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم ، قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله : ابن خليل الله ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ قالوا : نعم ، قال : فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " فكأنه قيل : ما تلك الملة ؟ فقال : { ما كان لنا } أي ما صح وما استقام بوجه من الوجوه ، لما عندنا من نور العلم الذي لم يدع عندنا لبساً بوجه أصلاً { أن نشرك } أي نجدد في وقت ما شيئاً من إشراك { بالله } أي الذي له الأمر كله ، وأعرق في النفي فقال : { من شيء } أي بما شرعه لنا من الدين القويم كانت ملتنا التوحيد ، ومن التأكيد العموم في سياق النفي ، ليعم ذلك كل شيء من عاقل ملك أو إنسي أو جنى أو غيره ؛ ثم علل ذلك بما يعرف به أنه كما وجب عليهم ذلك وجب على كل أحد فقال : { ذلك } أي كان هذا الانتفاء أو ذلك التشريع - للملة الحنيفية وتسهيلها وجعل الفطر الأولى منقادة لها مقبلة عليها - العلي الشأن العظيم المقدار { من } أجل { فضل الله } أي المحيط بالجلال والإكرام { علينا } خاصة { وعلى الناس } الذين هم إخواننا في النسب عامة ، فنحن وبعض الناس شكرنا الله ، فقبلنا ما تفضل به علينا ، فلم نشرك به شيئاً ؛ والفضل : النفع الزائد على مقدار الواجب ، فكل عطاء الله فضل ، فإنه لا واجب عليه ، فكان لذلك واجباً على كل أحد إخلاص التوحيد له شكراً على فضله لما تظافر عليه دليلاً العقل والنقل من أن شكر المنعم واجب { ولكن أكثر الناس } أي لما لهم من الاضطراب مع الهوى عموا عن هذا الواجب ، فهم { لا يشكرون * } فضله بإخلاص العمل له ويشركون به إكراهاً لفطرهم الأولى ، فالآية من الاحتباك : ذكر نفي الشرك أولاً يدل على وجوده ثانياً ، وذكر نفي الشكر ثانياً يدل على حذف إثباته أولاً .